الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
59- تياذوق
«13»
حكيم ماهر، وعليم علمه ماهر، وحميم لا تبل به عين صديق، ولا يعل السلسل إلا صفو رحيق، ولم يزل يقمع سلطان المرض علاجه، ويمنع وجهه الندي مناظرا يثور عجاجه.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا فاضلا، وله نوادر وألفاظ مستحسنة في صناعة الطب، وعمّر. وكان في أول دولة بني أميّة، ومشهورا عندهم بالطب، وصحب أيضا الحجاج بن يوسف الثقفي، المتولى من جهة عبد الملك بن مروان، وخدمه بصناعة الطب، وكان يعتمد عليه، ويثق بمداواته، وكان له الجامكية «1» الوافرة، والافتقاد الكثير.
ومن كلام تياذوق للحجّاج قال:
" لا تنكح إلا شابّة، ولا تأكل من اللحم إلا فتيّا، ولا تشرب الدواء إلا من علّة، ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها، وأجد مضغ الطعام، وإذا أكلت نهارا فلا بأس أن تنام، وإذا أكلت ليلا فلا تنم حتى تمشي، ولو خمسين خطوة".
فقال له بعض من حضر: إذا كان الأمر كما تقول، فلم هلك بقراط؟. ولم هلك جالينوس وغيرهما؟. ولم أر واحدا منهم فعل ذلك.
قال: يا بني! قد احتججت فاسمع!. إن القوم دبّروا أنفسهم بما يملكون، وغلبهم ما لا يملكون- يعني الموت- وما يرد من خارج كالحر والبرد، والوقوع، والغرق، والجراح، والغمّ، وما أشبه ذلك.
وأوصى تياذوق أيضا الحجّاج فقال:" لا تأكلنّ حتى تجوع، ولا تتكارهنّ على الجماع، ولا تحبس البول، وخذ من الحمام قبل أن يأخذ منك"«1» .
وقال أيضا للحجّاج:" أربعة تهدم العمر،- وربّما قتلن-: دخول الحمّام على البطنة «2» ، والمجامعة على الامتلاء، وأكل القديد الجاف، وشرب الباء البارد على الريق، وما مجامعة العجوز ببعيدة منهنّ".
ووجد الحجّاج في رأسه صداعا، فبعث إلى تياذوق، وأحضره، فقال:" اغسل رجليك بماء حارّ، وادهنهما. وخصيّ الحجّاج قائم على راسه، فقال: والله ما رأيت طبيبا أقلّ معرفة بالطب منك!. شكا الأمير الصداع في رأسه، فتصف له دواء في رجليه!.
فقال له: إن علامة ما قلت فيك بيّنة!.
قال الخصيّ: وما هي؟.
قال: نزعت خصيتاك، فذهب شعر لحيتك!. فضحك الحجّاج ومن حضر.
وشكا الحجّاج ضعفا في معدته، وقصورا في الهضم إلى تياذوق.
فقال:" يكون الأمير يحضر بين يديه الفستق الأحمر، القشر البرّاني، ويكسر ويأكل من لبه؛ فإن ذلك يقوّي المعدة.
فلما أمسى الحجّاج بعث إلى حظاياه، وقال: إن تياذوق وصف لي الفستق، فبعثت إليه كل واحدة منهنّ صينيّة فيها قلوب فستق، فأكل من ذلك حتى امتلأ، وأصابته بعقبه هيضة «1» كادت تأتي على نفسه. فشكا حاله إلى تياذوق، وقال: وصفت لي شيئا أضرّني، وذكر له ما تناول.
فقال له: إنما قلت لك أن تحضر عندك الفستق بقشره البراني، فتكسر الواحدة بعد الواحدة، وتلوك قشرها البراني وفيه العطرية والقبض. فيكون بذلك تقوية المعدة. وأنت فقد عملت غير ما قلت لك!. وداواه مما عرض له.
قيل: ومن أخباره مع الحجّاج: أنه دخل عليه يوما؛ فقال له الحجّاج: أي شيء دواء أكل الطين؟.
فقال: عزيمة مثلك أيها الأمير!.
فرمى الحجّاج بالطين ولم يعد إليه أبدا.
وقيل: إن بعض الملوك لما رأى تياذوق، وقد شاخ وكبر سنه، وخشي أن يموت ولا يعتاض عنه، لأنه كان أعلم الناس، وأحذق الأمّة في وقته بالطب.
فقال له: صف لي ما أعتمد عليه فأسوس به نفسي، وأعمل به أيام حياتي، فلست آمن أن يحدث عليك حدث الموت، ولا أجد مثلك!.
فقال تياذوق:" أيها الملك بالخيرات!. أقول لك عشرة أبواب، إن عملت بها واجتنبتها لم تعتلّ مدة حياتك، وهذه عشر كلمات:
- لا تأكل طعاما وفي معدتك طعام.
- ولا تأكل ما تضعف أسنانك عن مضغه، فتضعف معدتك عن هضمه.
- ولا تشرب الماء على الطعام حتى تفرغ ساعتين، فإن أصل الداء التخمة، وأصل التخمة الماء على الطعام.
- وعليك بدخول الحمام في كل يومين مرة واحدة، فإنه يخرج من جسدك ما يصل إليه الدواء.
- وأكثر الدم في بدنك تحرس به نفسك.
- وعليك في كل فصل قيئة ومسهّلة.
- ولا تحبس البول وإن كنت راكبا.
- واعرض نفسك على الخلاء قبل نومك.
- ولا تكثر الجماع فإنه يقتبس من نار الحياة فليكثر أو يقل.
- ولا تجامع العجوز فإنه يورث الموت فجأة.
فلما سمع الملك أمر كاتبه أن يكتب هذه الألفاظ بالذهب الأحمر، ويضعه في صندوق من ذهب مرصّع، وبقي ينظر إليه في كل يوم ويعمل به، فلم يعتلّ مدة حياته، حتى جاءه الموت الذي لا بدّ منه، ولا محيص عنه.
وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب قال: قال الحجّاج لابنه: يا بني! إن تياذوق الطبيب كان قد أوصاني في تدبير الصحة بوصية كنت أستعملها، فلم أر إلا خيرا.
ولما حضرته الوفاة دخلت عليه أعوده، فقال: الزم ما كنت وصيتك به، وما نسيت منها فلا تنس:" لا تشرين دواء حتى تحتاج إليه، ولا تأكلن طعاما وفي