الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد أيمان حلفوه عليها. فأقام مدة وفي نفسه من فعلتهم بأبيه، فشرع في العمل عليهم، وابن صفية على ما هو عليه من نقل خبره، فطلبه المستضيء ليلا وطلب منه ترتيب دواء قتّال ليقتل به عدوّا له، فعمله واجتهد فيه، فلما أحضره قال له:
استفّ منه حتى نجرّب فعله!. فتلوّى من ذلك وقال: الله الله فيّ. فقال له:
الطبيب من تجاوز حدّه فليس له إلا هذا أو السيف. فاستفّ ذلك الدواء، ففرّ من الهلاك إلى الهلاك. ثم خرج من الدار وكتب إلى قايماز بما كان، وقال له:" والانتقال من أمري إلى أمركم". ثم هلك. وعزم قايماز على الإيقاع بالخليفة فردّه الله، وهرب إلى الموصل، فمرض في الطريق ثم دخل الموصل فمات بها.
ومنهم:
98- أمين الدولة ابن التلميذ
«13»
كان فرد قرانه، وندّ أقرانه، وبلغ بعلمه مبالغ الأشراف، ووصل في فهمه إلى حدّ الإشراف، وكان يتكلّم في مجالس الخلفاء متبسّطا، ويتقدّم في مجال السؤال للضعفاء متوسّطا، لسابقة خدمه، وباسقة صنعه في بيت الإمامة دون باقي خدمه، ولما تحلّت به شيمه من مآثر، وحلت باديه مما لا يقدر عليه مكاثر، حتى كان يناظر جلّة الفقهاء، وجملة أهل العلم سوى السفهاء، ويفترس الأدباء، ويفترش لمواطيه الأطباء، ويضرب بقلمه عصا ابن البوّاب «1» ، ويطرف طرف
طرسه مقلة ابن مقلة «1» ، وهو على دينه المخالف، وتعود ملته في الخوالف، يكره الصدور، وتخبر خبره البدور.
قال ابن أبي أصيبعة «2» :" هو الأجلّ موفق الملك أمين الدولة أبو الحسن هبة الله بن أبي العلاء صاعد بن إبراهيم بن التلميذ، أوحد زمانه في صناعة الطب، ومباشرة أعمالها، وكان في أول أمره قد سافر إلى بلاد العجم، وبقي بها سنين كثيرة في الخدمة، وكان جيّد الخطّ، يكتب المنسوب في نهاية الحسن والصّحّة، وكان عارفا بالسرياني والفارسي، متبحّرا في العربية، وله شعر مستظرف، وهو من بيت كتابة، وكان هو وأوحد الزمان [أبو البركات] يخدمان المستضيء، وكان أوحد الزمان أبصر بالحكمة، وابن التلميذ أبصر بالطب، وكان بينهما شنآن «3» ، إلا أن ابن التلميذ كان أعقلهما، وخيرهما فعلا، وسعى أوحد الزمان عليه حتى كاد يرديه، ثم رد عليه كيده فوهب ماله ودمه لابن التلميذ، فعفا
عنه. وإن مما قال فيه: [البسيط]
لنا صديق يهودي حماقته
…
إذا تكلم تبدو فيه من فيه
يتيه والكلب أعلى منه منزلة
…
كأنه بعد لم يخرج من التيه
وقد قيل فيهما: [الوافر]
أبو الحسن الطبيب ومقتفيه
…
أبو البركات في طرفي نقيض
فهذا بالتواضع في الثريا
…
وهذا بالتكبر في الحضيض
قال عبد اللطيف البغدادي:" كان أمين الدولة حسن العشرة كريم الأخلاق، وعنده سخاء ومروءة، وأعمال في الطب مشهورة، وحدوس صائبة، منها: أنه أحضرت إليه امرأة محمولة لا يعرف أهلها في الحياة هي أم في الممات؟ وكان الزمان شتاء، فأمر بتجريدها، وصب الماء المبّرد عليها صبا متتابعا كثيرا، ثم بنقلها إلى مجلس دافئ قد بخّر بالعود والنّدّ، ودثّرت بأصناف الفراء ساعة، فعطست وقعدت، وخرجت ماشية مع أهلها إلى منزلها".
قال:" ودخل إليه رجل مترف، يعرق دما في زمن الصيف، فسأل تلاميذه وكانوا خمسين نفسا، فلم يعرفوا المرض. فأمره أن يأكل خبز شعير مع باذنجان مشوي. ففعل ذلك ثلاثة أيام، فبرأ، فسأله أصحابه عن العلة؟ فقال: إن دمه قد رقّ، ومسامّه قد تفتّحت، وهذا الدواء من شأنه تغليظ الدم، وتكثيف المسام".
قال:" ومن مروءته أن ظهر داره كان يلي النظامية، فإذا مرض فقيه نقله إليه، وقام في مرضه عليه، فإذا برأ وهب له دينارين وصرفه".
ومما حكاه أيضا عن أمين الدولة، وكان قد تجاوز في هذه الحكاية، قال:" وكان أمين الدولة لا يقبل عطية إلا من خليفة أو سلطان، فعرض لبعض الملوك
النائية داره مرض مزمن، فقيل له: ليس لك إلا ابن التلميذ. وهو لا يقصد أحدا.
فقال: أنا أتوجّه إليه!. فلما وصل أفرد له ولغلمانه دورا وأفاض عليه من الجرايات قدر الكفاية، ولبث مدة، فبرئ الملك وتوجّه إلى بلاده وأرسل إليه مع بعض التجار أربعة آلاف دينار، وأربعة تخوت عتابي، وأربعة مماليك، وأربعة أفراس، فامتنع من قبولها، وقال: إن عليّ يمينا لا أقبل من أحد شيئا. فقال التاجر: هذا مقدار كثير. قال: لما حلفت ما استثنيت. وأقام شهرا يراوده ولا يزداد إلا إباء.
فقال له عند الوداع: ها أنا أسافر ولا ارجع إلى صاحبي، وأتمتع بالمال، فتتقلّد منّته وتفوتك منفعته، ولا يعلم أحد بأنك رددته!. فقال: ألست أعلم في نفسي أني لم أقبله؟ فنفسي تشرف بذلك، علم الناس أو جهلوا".
وحدّثنا الحكيم مهذّب الدين عبد الرحيم بن علي قال: حدّثني الشيخ موفق الدين أسعد بن إلياس بن المطران، قال: حدّثني أبي قال: حدثني أبو الفرج بن توما، وأبو الفرج المسيحي قالا:" كان الأجلّ أمين الدولة ابن التلميذ جالسا ونحن بين يديه-: استأذنت عليه امرأة ومعها صبيّ صغير، فأدخلت عليه فحين رآها بدرها فقال: إن صبيّك هذا به حرقة البول، وهو يبول الرمل!. فقالت:
نعم. فقال: فيستعمل كذا وكذا، وانصرفت. قالا: فسألناه عن العلامة الدالّة على أنّ به ذلك، وأنه لو أن الآفة في الكبد أو الطحال لكان اللون من الاستدلال مطابقا. فقال: حين دخل رأيته يولع بإحليله ويحكّه ووجدت أنامل يديه مشقّقة قاحلة. فعلمت أن الحكة من الرمل، وإن تلك المادة الحادّة الموجبة للحكة والحرقة، ربما لا مست أنامله عند ولوعه بالقضيب فتقحّل وتشقّق، فحكمت بذلك. وكان موافقا".
ومن نوادر أمين الدولة وحسن إشاراته، أنه كان يوما عند المستضيء بالله وقد أسنّ أمين الدولة، فلما نهض للقيام توكّأ على ركبتيه، فقال له الخليفة:
كبرت يا أمين الدولة. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، وتكسّرت قواريري. ففكّر الخليفة في قول أمين الدولة، وعلم أنه لم يقله إلا لمعنى قد قصده، وسأل عن ذلك، فقيل له: إن الإمام المستنجد بالله كان قد وهبه ضيعة تسمى قوارير وبقيت في يده زمانا، ثم من مدة ثلاث سنين حط الوزير يده عليها، فتعجّب الخليفة من حسن أدب أمين الدولة، وأنه لم ينه أمرها إليه ولا عرض بطلبها، ثم أمر الخليفة بإعادة الضيعة إلى أمين الدولة وأن لا يعارض في شيء من ملكه.
ومن شعره قوله في ولده وكان غاية في الدين: [المنسرح]
أشكو إلى الله صاحبا شكسا
…
تسعفه النفس وهو يسعفها
فنحن كالشمس والهلال معا
…
تكسبه النور وهو يكسفها
وقوله: [المتقارب]
إذا وجد الشيخ في نفسه
…
نشاطا، فذلك موت خفي
ألست ترى أن ضوء السراج
…
له لهب قبل أن ينطفي
وقوله: [مجزوء الكامل]
قال الأنام، وقد رأوه
…
مع الحداثة، قد تصدّر:
من ذا المجاوز قدره؟
…
قلت: المقدّم بالمؤخّر
وقوله: [مجزوء الكامل]
قد قلت للشيخ الجليل
…
الأريحي أبي المظفر:
ذكّر فلان الدين بي
…
قال: لا يذكّر
وقوله: [الكامل]
العلم للرجل اللبيب زيادة
…
ونقيصة للأحمق الطيّاش
مثل النهار يزيد أبصار الورى
…
نورا، ويغشي أعين الخفّاش
وقوله: [الوافر]
أجدّك، إن من شيم الليالي
…
العنيفة أن تجوز على اللهيف
كمثل اللحظ أغلب ما تراه
…
يصب أذاه في العضو الضعيف
وقوله: [البسيط]
لا تحسبنّ سواد الخال عن خلل
…
من الطبيعة، أو إحداثه غلطا
وإنما قلم التصوير حين جرى
…
بنون حاجبه، في خده نقطا
وقوله: [الطويل]
براني الهوى بري المدى فأذابني
…
صدودك، حتى صرت أنحل من أمس
ولست أرى حتى أراك، وإنما
…
يبين هباء الذر في أفق الشمس
وقوله مما يكتب على حصير: [الكامل]
أفرشت خدي للضيوف ولم يزل
…
خلقي التواضع للبيب الأكيس
فتواضعي أعلا مكاني بينهم
…
طورا، فصرت أحل صدر المجلس
وقوله: [المتقارب]«1»
وحقك إني مذ بنت عنك
…
قلبي حزين ودمعي هتون
فلله أيامنا الخاليات
…
لو رد سالف الدهر حنين
وإني لأرعى عهود الصفا
…
ويكلؤها لك ود دفين
ولم لا يكون، ونحن اليدا
…
ن، أنت بفضلك منها اليمين