الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمين الدولة وابن يغمور في القلعة، وأمروا، ونهوا، فلما جاءت الأخبار المؤكدة بعكس ما طار إليهم به أول الخبر، أمر المعز بقتل ابن يغمور، وشنق أمين الدولة، وإطلاق الكردي، فأطلق الكردي، وقتل ابن يغمور، وشنق أمين الدولة.
قال ابن أبي أصيبعة:" وحكى لي من رآه لما شنق وعليه قندورة «1» عتابي خضراء، وفي رجله سرموزة «2» . قال: ومن العجائب أن أمين الدولة لما حبس أرسل إلى منجم بمصر كانت له إصابات لا تخرم، وسأله عما كان وما يكون من حاله؟! «3» ، فأخذ طالع الوقت، ورسمه، ثم قال: يخلص هذا من الحبس، ويخرج منه فرحا مسرورا، ويبقى له أمر مطاع، يمتثل فيه أمره ونهيه. ففرح، فلما جاءه ذلك الخبر ظنّ أنه يبقى وزيرا بمصر، فتمّ له ما ذكره المنجّم في يوم خروجه، ثم لم يعلم ما يجري له بعده. وكان ذلك في الكتاب مسطورا.
ومنهم:
139- المهذّب الدّخوار: أبو محمد عبد الرحيم بن علي بن حامد
«13»
طبيب نهض به طيب العناصر، ونهى علمه أن تعقد على غيره الخناصر. كان في الحكماء علما، وفي إثبات الحكم قلما، عزّ وجوده وقلّ ما، فاض إناؤه، وآض «1» اجتناؤه، وكان لفروع الطب شجرة يكاد زيتها يضيء، ويقال «2» في ظلها ويفيء. كأنما جالس أرسطوطاليس، وجال مع تلك الجماعة في تقرير تلك النوامس «3» ، ولهذا اشتهر، وملأ العيون وبهر. وكان ممن يستصحّ برأيه، ويستصبح بذكائه. هذا إلى خطّ أوتيه، وحظّ كان يواتيه.
قال ابن أبي أصيبعة «4» :" إليه انتهت رياسة صناعة الطب ومعرفتها على ما ينبغي، ولم يكن في اجتهاده من يجاريه، ولا في علمه من يماثله، أتعب نفسه في الاشتغال وكدّ خاطره في تحصيل العلم حتى فاق أهل زمانه، وحظي عند الملوك، ونال من جهتهم من المال والجاه ما لم ينله غيره من الأطباء، وكان في مبدأ أمره كحّالا، وكذلك كان أخوه حامد بن علي، وكان الدّخوار يكتب خطا منسوبا، ونسخ الكثير، وقرأ النحو على الكندي، والطب على الرضي الرحبي، ثم لازم الموفق ابن المطران، ثم أخذ عن الفخر المارديني، لما قدم دمشق، وخدم الملك العادل بن أيوب، ثم لم يزل تسمو منزلته عنده حتى صار جليسه، وصاحب مشورته، وظهرت له منه نوادر في تقدم المعرفة، منها: أن العادل عرض له مرض وأشار الدخوار عليه بالفصد، فلم يوافقه بقية الأطباء على ذلك، فقال
لهم: والله إن لم يخرج دما وإلا خرج الدم من غير اختياره، فما مضى أيسر وقت حتى طفر الدم من أنفه، ورعف رعافا كثيرا، وصلح، فعلم أنه ليس في الكل مثله.
ومنه: أنه كان يوما على باب دار السلطان في جماعة من الأطباء، إذ خرج خادم ومعه قارورة جارية يستوصف لها لشيء شكت منه، فلما رأوها، وصفوا لها ما حضرهم. فقال الدخوار: إن هذا الذي شكت منه ما يوجب صبغ الماء هكذا، ويوشك أنه من حناء اختضبت به. فقال له الخادم: نعم، تخضّبت بحناء. فأخبر العادل بذلك، فتزايد حسن اعتقاده فيه.
ومن أحسن ما يؤثر عنه أن الملك العادل كان قد غضب على قاضي القضاة محيي الدين ابن الزكي لأمر نقمه عليه، وأمر باعتقاله بقلعة دمشق، إلى أن يزن عشرة آلاف دينار مصرية، وشدّد عليه، فأقام في السجن والمطالبة، ووزن البعض، وعجز عن البقية، وقال السلطان: إن لم يزن وإلا عذّبته. فتحيّر القاضي وباع جميع موجوده وأثاث بيته، حتى الكتب التي له، وتوسّل إلى السلطان بكثير من الأمراء والخواص في المسامحة أو التقسيط، فلم يقبل، فأتى الدخوار إليه ليتفقده لمودة قديمة بينهما، فشكا إليه حاله، وما قد تم عليه، فوعده بالمساعدة بحسب الطاقة، ثم قام فدخل على أم الصالح إسماعيل ابن العادل، وكانت ممرضة، فلما دخل عليها عرّفها بحديث القاضي وأنه مظلوم، وسألها في أمره، فقال: كيف أحدّث السلطان في أمر من لا أعرفه؟ ولو كان طبيبا يدخل علينا أو تاجرا نعامله لأمكن الكلام فيه. فقال لها: فثمّ طريق آخر يحصل به القصد. قالت: وما هو؟.
قال: في وقت يكون السلطان نائما عندك تظهرين له أنك رأيت مناما يقتضي أن القاضي مظلوم، وعرّفها ما تقول. فقالت: هذا يمكن. فلما عوفيت أتاها الملك العادل، فنام عندها وهي إلى جانبه، فلما كان آخر الليل انتبهت وأظهرت
أنها مرعوبة، وأمسكت فؤادها وبقيت ترتعد وتتباكى. فانتبه السلطان وقال لها:
مالك؟ وكان يحبها حبا كثيرا، ثم جعل يرشّ عليها من ماء الورد وقال لها: ما الذي بك؟ فقالت: رأيت مناما عظيما هالني، وكدت أموت منه، وهو أنني رأيت كأن القيامة قد قامت في بهو عظيم، وبها خلق عظيم، ونيران كثيرة تشعل، وناس يقولون: هذه للملك العادل لكونه ظلم القاضي!!. ثم قالت:
هل فعلت قط بالقاضي شيئا؟ فما شك في قولها، وانزعج ثم قام لوقته، وطلب الخدام، وقال: امضوا إلى القاضي وطيبوا قلبه، وسلموا عليه عني وقولوا له يجعلني في حل مما تمّ له، وإن جميع ما وزنه يعود إليه، وما أطالبه بشيء. ثم لما أصبح أمر له بخلعة كاملة، وبغلة، وأعاده إلى رتبته وأعاد إليه جميع ما وزنه، واستردّ له ما باعه.
وقال: مرض العادل بالشرق مرضا صعبا، وولي علاجه الدخوار، إلى أن برئ، فلما عوفي حصل له نحو سبعة آلاف دينار، وبعث له أولاد العادل وسائر ملوك الشرق، وأكابر الأمراء الخلع والبغال بأطواق الذهب، وغير ذلك.
ومرض الكامل «1» فعالجه، فلما برأ حصل له نحو اثني عشر ألف دينار، وأربع عشرة بغلة بأطواق الذهب، وخلع كثيرة من الأطلس وغيره، وولي ذلك الوقت رئاسة الأطباء.
وخدم مرة الأشرف، وأعطاه إقطاعا جليلا، ووقف داره بدمشق بالمناخليين مدرسة على الطب، ووقف عليها عقارات له «2» .