الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
12- أبو نصر الفارابيّ
«13»
محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان «1» .
من أهل مدينة فاراب «2» من مدن الترك في أرض خراسان، وكان أبوه قائد جيش وهو فارسي المنتسب، وكان ببغداد مدة ثم انتقل إلى الشام، وأقام به إلى
حين وفاته.
وكان- رحمه الله فيلسوفا كاملا، وإماما فاضلا، بحرا منه يغرف، وحبرا له يعرف، قد أتقن العلوم الرياضية، زكي النفس، قويّ الذكاء، متجنّبا عن الدنيا، مقتنعا منها بما يقوم به أوده «1» ، ويسير سيرة الفلاسفة المتقدّمين، وكان له قوة في صناعة الطب، وعلم بالأمور الكلية منها، ولم يباشر أعمالها، ولا حاول جزئياتها.
قال ابن أبي أصيبعة:" وحدّثني سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي الآمدي «2» - رحمه الله تعالى-: أن الفارابي كان في أول أمره ناطورا في بستان بدمشق، وهو على ذلك دائم الاشتغال بالحكمة والنظر فيها، والتطلع إلى آراء المتقدمين وشرح معانيها، وكان ضعيف الحال، حتى إنه كان في الليل يسهر بالمطالعة والتصنيف، ويستضيء بالقنديل الذي للحارس، وبقي كذلك مدة.
ثم إنه عظم شأنه، وظهر فضله، واشتهرت تصانيفه، وكثرت تلاميذه، وصار أوحد زمانه، وعلّامة وقته. واجتمع به الأمير سيف الدولة أبو الحسن علي بن
عبد الله بن حمدان التغلبي «1» ، وأكرمه إكراما كثيرا، وعظمت منزلته عنده، وكان له مؤثرا.
ونقلت من خط بعض المشايخ، أن أبا نصر الفارابي سافر إلى مصر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، [ورجع إلى دمشق، وتوفي بها سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة] ، عند سيف الدولة علي بن حمدان، وفي خلافة الراضي، وصلى عليه سيف الدولة في خمسة عشر رجلا من خاصته «2» .
ويذكر أنه لم يكن يتناول من سيف الدولة من جملة ما ينعم به عليه سوى أربعة دراهم فضة في اليوم، يخرجها فيما يحتاجه من ضروري عيشه، ولم يكن معتنيا بهيئة، ولا [منزل] ولا مكسب. ويذكر أنه كان يغتذي بماء قلوب الحملان مع الخمر الريحاني فقط. ويذكر أنه كان في أول أمره قاضيا، فلما شعر بالمعارف نبذ ذلك، وأقبل بكليته على تعليمها، ولم يسكن إلى نحو من أمور الدنيا البتة.
ويذكر أنه كان يخرج إلى الحرّاس في الليل من منزله، يستضيء بمصابيحهم فيما يقرؤه، وكان في علم صناعة الموسيقى وعملها قد وصل إلى غاياتها، وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه. ويذكر أنه صنع آلة غريبة يسمع منها ألحان بديعة، يحرك بها الانفعالات.
ويذكر أن سبب قراءته للحكمة أن رجلا أودع عنده جملة من كتب أرسطوطاليس، فاتفق أنه نظر فيها، فوافقت منه قبولا وتحرك إلى قراءتها، ولم يزل
إلى أن أتقنها فهما، وصار فيلسوفا بالحقيقة.
ونقلت من كلام لأبي نصر الفارابي في معنى [اسم] الفلسفة، قال:" اسم الفلسفة: يوناني، وهو دخيل إلى العربية، وهو على مذهب لسانهم فيلسوفا، ومعناه إيثار الحكمة. وهو مركب من:" فيلا" ومن:" سوفيا". ف:" فيلا" الإيثار.
و" سوفيا": الحكمة.
والفيلسوف مشتق من:" الفلسفة" وهو على مذهب لسانهم:" فيلسوفوس". فإن هذا التغيير هو تغيير كثير من الاشتقاقات عندهم، ومعناه:
المؤثر للحكمة. والمؤثر للحكمة هو الذي يجعل الوكد «1» من حياته، وغرضه من عمره الحكمة.
وحكى أبو نصر الفارابي في ظهور الفلسفة ما هذا نصه، قال:" إن أمر الفلسفة اشتهر في أيام ملوك اليونانيين، بعد وفاة أرسطوطاليس بالاسكندرية إلى آخر أيام المرأة. وأنه لما توفي بقي التعليم بحاله فيها، إلى أن ملك ثلاثة عشر ملكا، وتوالى في مدة ملكهم من معلمي الفلسفة اثنا عشر معلما أحدهم المعروف ب" أندرو نيقوس". وكان آخر هؤلاء الملوك المرأة، فغلبها أو غسطس الملك من أهل رومية، وقتلها، واستحوذ على الملك، فلما استقر له نظر في خزائن الكتب وصنعتها، فوجد فيها نسخا من كتب أرسطوطاليس، قد نسخت في أيامه، وأيام ثاوفرسطس، ووجد المعلمين والفلاسفة قد عملوا كتبا في المعاني التي عمل فيها أرسطو [فأمر أن تنسخ تلك الكتب، التي كانت نسخت في أيام أرسطو]«2» وتلاميذه، وأن يكون التعليم منها، وأن ينصرف عن الباقي.
وحكم أندرونيقوس في تدبير ذلك، وأمره أن ينسخ نسخا يحملها معه إلى رومية، [ونسخا يبقيها في موضع التعليم بالاسكندرية، وأمره أن يستخلف معلما يقوم مقامه بالاسكندرية، ويسير معه إلى رومية] . فصار التعليم في موضعين، وجرى الأمر على ذلك، إلى أن جاءت النصرانية، فبطل التعليم من رومية، وبقي بالاسكندرية إلى أن نظر ملك النصرانية في ذلك، واجتمعت الأساقفة وتشاوروا فيما يترك من هذا العلم وما يبطل. فرأوا أن يعلم من كتب المنطق إلى آخر الأشكال الوجودية، ولا يعلّم ما بعده، لأنهم رأوا أن في ذلك ضررا على النصرانية، وأن فيما أطلقوا تعليمه ما يستعان «1» به على نصرة دينهم، فبقي الظاهر من التعليم هذا المقدار، وما ينظر فيه من الباقي مستورا، إلى أن كان الإسلام بعده بمدة طويلة، فانتقل التعليم من الاسكندرية إلى أنطاكية، وبقي بها زمنا طويلا، إلى أن بقي معلم واحد، فتعلم منه رجلان، وخرجا ومعهما الكتب، وكان أحدهما من أهل حران، والآخر من أهل مرو.
فأما الذي من أهل مرو: فتعلم منه رجلان، أحدهما:[إبراهيم] المروزي.
والآخر: يوحنا بن جيلان.
وتعلم من الحراني: [إسرائيل] الأسقف وقويري، وساروا إلى بغداد، فتشاغل إبراهيم بالدين، وأخذ قويري في التعليم. وأما يوحنا بن جيلان: فإنه تشاغل أيضا بدينه.
وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد، فأقام بها، وتعلم من المروزي متى بن يونان. وكذلك الذي يتعلم في ذلك الوقت إلى آخر الأشكال الوجودية.
وقال أبو النصر الفارابي عن نفسه: إنه تعلم من يوحنا بن جيلان، إلى آخر
كتاب البرهان. وكان يسمى ما بعد الأشكال الوجودية الجزء الذي لا يقرأ، إلى أن قرئ بعد ذلك، وصار الرسم بعد ذلك حيث صار الأمر إلى معلمي الإسلام أن يقرأ من الأشكال الوجودية إلى حيث قدر الإنسان أن يقرأ. فقال أبو نصر: إنه قرأ إلى آخر كتاب البرهان.
وحدّثني عمي رشيد الدين أبو الحسن علي بن خليفة- رحمه الله: أن الفارابي توفي عند سيف الدولة بن حمدان في رجب سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وكان أخذ الصناعة عن يوحنا بن جيلان، ببغداد، وكان في أيام المقتدر، وكان في زمانه أبو البشر متى بن يونان، وكان أسنّ من أبي نصر، وكان أبو نصر أحدّ ذهنا منه، وأعذب كلاما، وتعلم أبو البشر متى من إبراهيم المروزي، وتوفي أبو البشر في خلافة الراضي فيما بين سنة ثلاث وعشرين إلى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وكان يوحنا بن جيلان، وإبراهيم المروزي قد تعلما جميعا من رجل من أهل مرو.
وقال الشيخ أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني في معلقاته:
إن يحيى بن عدي أخبره أن متّى قرأ إيساغوجي «1» على إنسان نصراني. وقرأ قاطيغورياس وبارمينياس على إنسان يسمى روبيل، وقرأ كتاب القياس على أبي يحيى المروزي «2» .
وقال القاضي صاعد بن أحمد بن صاعد، في كتاب" التعريف بطبقات الأمم": إن الفارابي أخذ صناعة المنطق عن يوحنا بن جيلان «1» ، المتوفى بمدينة السلام في أيام المقتدر، فبزّ «2» جميع أهل الإسلام فيها، وأربى عليهم في التحقيق بها، وشرح غامضها، وكشف سرّها، وقرب تناولها، وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة، لطيفة الإشارة، منبّهة على ما أغفله الكندي وغيره، من صناعة التحليل، وإيحاء التعاليم. وأوضح القول فيها عن موادّ المنطق الخمس، وإفادة وجوه الانتفاع بها، وعرّف طرق استعمالها، وكيف تصرف صورة القياس في كل مادة منها. فجاءت كتبه في ذلك الغاية القصوى، الكافية، والنهاية الفاضلة.
ثم له بعد ذلك كتاب شريف في إحصاء العلوم، والتعريف بأغراضها، لم يسبق إليه، ولا ذهب أحد مذهبه فيه، لا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به، وتقديم النظر فيه.
وله كتاب في" أغراض فلسفة أفلاطون وأرسطوطاليس". يشهد له بالبراعة في صناعة الفلسفة والتحقيق بفنون الحكمة، وهو أكبر عون على تعلم طريق النظر، وتعرّف وجوه الطلب، اطّلع فيه على أسرار العلوم، وثمارها علما [علما] ، وبين كيف التدرج من بعضها إلى بعض [شيئا فشيئا] .
ثم بدأ بفلسفة أفلاطون، فعرف غرضها منها، وسمّى تواليفه «3» فيها.
ثم أتبع ذلك بفلسفة أرسطو، فقدّم له مقدّمة جليلة، عرف فيها بتدرجه إلى
فلسفته، ثم بدأ بوصف أغراضه في تواليفه المنطقية والطبيعية، كتابا كتابا، حتى انتهى به القول في النسخة الواصلة إلينا إلى أول العلم الإلهي، والاستدلال بالعلم الطبيعي عليه. ولا أعلم كتابا أجدى على طالب الفلسفة منها، فإنه يعرّف بالمعاني المشتركة لجميع العلوم، والمعاني المختصة بعلم علم منها. ولا سبيل إلى معاني قاطيغورياس وكيف هي «1» الأوائل الموضوعة لجميع العلوم.
ثم له بعد ذلك في العلم الإلهي والعلم المدني كتابان لا نظير لهما، أحدهما المعروف ب:" السياسة المدنية". والآخر المعروف ب:" السيرة الفاضلة. عرّف فيهما بجمل عظيمة من العلم الإلهي، على مذهب أرسطوطاليس، في [المبادئ الستة] الروحانية، وكيف يؤخذ عنها الجواهر الجسمانية، على ما هي عليه من النظام، واتصال الحكمة. وعرّف فيها مراتب الإنسان وقواه النفسانية، وفرّق بين الوحي والفلسفة، ووصف أصناف المدن الفاضلة، واحتياج المدينة إلى السيرة الملكية، والنواميس النبوية «2» .
أقول «3» : وفي التاريخ: أن الفارابي كان يجتمع بأبي بكر بن السراج «4» ،
يقرأ عليه صناعة المنطق. وكان الفارابي يشعر أيضا.
وسأل بعضهم أبا نصر: أيما أعلم أنت أم أرسطو؟.
فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامذته! «1» .
ويذكر عنه أنه قال: قرأت السماع لأرسطو أربعين مرة، وأرى أنني محتاج إلى معاودته.
ومن شعر أبي نصر: [البسيط]
لمّا رأيت الزّمان نكسا
…
وليس في الصّحبة انتفاع
كلّ رئيس به ملال
…
وكلّ رأس به صداع
لزمت بيتي وصنت عرضا
…
به من العزّة اقتناع
أشرب مما اقتنيت راحا
…
لها على راحتي شعاع
لي من قواريرها ندامى
…
ومن قراقيرها سماع
وأجتني من حديث قوم
…
قد أقفرت منهم البقاع
وقال أيضا: [المتقارب]
أخي خلّ حيّز ذي باطل
…
وكن للحقائق في حيّز
فما الدّار دار خلود لنا
…
ولا المرء في الأرض بالمعجز
وهل نحن إلا خطوط وقعن
…
على كرة وقع مستوفز
ينافس هذا لهذا على
…
أقل من الكلم الموجز
محيط السّماوات أولى بنا
…
فكم ذا التزاحم في المركز