الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رئيس الأطباء، ومروهم فليسمعوا له ويطيعوا" «1» .
ومنهم:
63- جبريل بن بختيشوع بن جورجيس
«13»
يجلّ أن يقاس بالألفاء، وأن يقال اسمه إلا مع الخلفاء، عظم ثراؤه، وعمّ جداه أن يماثل به أرسطو ونظراؤه، وخلف ما يتجاوز الحد، ويداني العد، مع نفقاته الموسّعة، وصدقاته التي رفلت «2» الأيام في حللها الموشّعة «3» ، حتى شرقت «4» دونه النفوس بحسراتها، واختنقت القلوب بزفراتها، حتى كانت الخلفاء تركب إلى منزله، وترغب في إكرام نزله، وهو بشمم لا يخضع عرنينه «5» ، ولا يخشع أنينه، ولا يطلع زهر الروض الجني إلا جنينه.
قال ابن أبي أصيبعة «6» :" كان مشهورا بالفضل، جيّد التصرّف في المداواة،
عالي الهمّة، سعيد الجد، حظيّا عند الخلفاء، وحصّل بهم من الأموال ما لم يحصّله أحد من الأطباء".
قال الترجمان:" إن أباه أفرده لجعفر بن يحيى «1» ، وكان قد اعتلّ؛ فعالجه، فبرئ في ثلاثة أيام، فأحبّه جعفر مثل حب نفسه، وكان لا يصبر عنه.
ثم تمطّت «2» حظية «3» الرشيد [ورفعت يدها، فبقيت منبسطة لا يمكنها ردها] ، ولم يفد فيها طب الأطباء، فدلّ جعفر الرشيد على ابن بختيشوع، فأحضره وقال له: ما تعرف من الطب؟.
قال: أبرّد الحارّ، وأسخّن البارد، وأرطّب اليابس، وأيبس الرطب.
فضحك الرشيد وقال: هذا غاية ما تحتاج إليه [..]«4» الجارية.
فقال جبرائيل: لها عندي حيلة إن لم يسخط عليّ أمير المؤمنين.
قال: وما هي؟.
قال: تخرج الجارية إلى ههنا بحضرة الجمع، حتى أعمل ما أريده، ويمهل عليّ ولا يعجل بالسخط.
فأمر بها، فأخرجت، فحين رآها جبرائيل مشى إليها ونكس رأسها، وأمسك ذيلها، كأنه يريد سراويلها. فانزعجت الجارية؛ فاسترسلت أعضاؤها، وبسطت يدها إلى أسفل، وأمسكت ذيلها.
فقال جبرائيل: قد برئت يا أمير المؤمنين!.
فقال الرشيد للجارية: ابسطي يديك يمنة ويسرة؛ ففعلت.
فعجب الرشيد ومن حضر، وأمر له بخمس مائة ألف درهم، وعظمت منزلته عنده، وجعله رئيسا على سائر الأطباء.
وسئل عن سبب العلة؟. فقال: هذه الجارية انصبّ على أعضائها وقت الحركة خلط رقيق بالحركة وانتشار الحرارة، ولأجل سكون الجماع تكون بغتة جمدت الفضلة في بطون جميع الأعصاب، وما كان يحلّها إلا حركة مثلها؛ فاحتلت حتى انبسطت حرارتها، وانحلّت الفضلة.
ولم يزدد مكانه من الرشيد إلى أن مرض الرشيد ب" طوس"«1» مرض موته، حبسه، واستطبّ أسقف فارس، فقال له: مرضك كان من خطأ طبيبك- كذبا عليه-.
فأمر الرشيد بقتل جبرائيل؛ فلم يقبل منه الفضل بن الربيع، لأنه كان يئس من حياته.
وأصاب تلك الأيام الفضل قولنج شديد، فكان جبرائيل يعالجه، فأفاق. ثم لما صار الأمر إلى الأمين زاد تقريبه، وضاعف مواهبه، وكان لا يأكل ولا يشرب إلا بإذنه.
ثم لما ملك المأمون كتب إلى الحسن بن سهل «1» بأن يقبض عليه لكونه بعد الرشيد أتى الأمين ببغداد، ولم يأته بخراسان، فحبسه ابن سهل. ثم لما مرض ابن سهل فعالجه الأطباء، فلم ينتفع بذلك، فأخرج جبرائيل من الحبس؛ فعالجه في أيام يسيرة، فبريء، فوهب له مالا وافرا، وتلطّف له مع المأمون، فصفح عنه، واتخذ ميخائيل صهر جبرائيل بدلا منه، وأكرمه كيادا لجبرائيل.
فمرض المأمون مرضا صعبا، أعيا الأطباء علاجه، فقال أبو عيسى- ابن الرشيد- للمأمون: يا أمير المؤمنين! أحضر جبرائيل، فإنه يعرف أمزجتنا منذ الصّبا.
فتغافل عنه، وأحضر يوحنّا بن ماسويه «2» ، فلما ضعفت قوة المأمون ذكّر بجبرائيل، فأمر بإحضاره، فلما حضر غيّر تدبيره كله. فانصلح بعد يوم، واستقل بعد ثلاثة أيام، ثم بعد أيام يسيرة صلح صلاحا تاما، فسرّ به المأمون، وأمر له بألف ألف درهم، وألف كرّ «3» حنطة، وردّ عليه ما كان قبض له، وصار إذا خاطبه يكنّيه. ثم انتهى إلى أن كان لا يخرج عامل إلى عمله إلا بعد أن يلقى
جبرائيل ويكرمه. وعلا محلّه، وانحطّ من سواه.
وقال إسحاق بن علي الرهاوي «1» : إن يوحنا بن ماسويه أخبر أن الرشيد قال لجبرائيل بن بختيشوع وهو حاجّ بمكة: يا جبرائيل! أعلمت أني دعوت لك- والله- في الموقف دعاء كثيرا؟.
ثم التفت إلى بني هاشم «2» فقال: هل أنكرتم قولي؟.
فقالوا: ذمّيّ هو!. فقال: نعم، ولكن صلاح بدني وقوامه به، وصلاح المسلمين بصلاحي.
فقالوا: صدقت يا أمير المؤمنين" «3»
وقال ابن بختيشوع: اشتريت ضيعة بسبعمائة ألف درهم، فنقدت بعض الثمن، وتعذّر عليّ بعضه، فدخلت على يحيى بن خالد، وعنده ولده، وأنا أفكر. فقال: ما لي أراك مفكّرا؟.
فأخبرته. فدعا بالدواة، وكتب:" يعطى جبرائيل سبعمائة ألف درهم". ثم دفع إلى كل واحد من ولده، فوقّع فيه ثلاثمائة ألف درهم. قال: فقلت: جعلت فداك! قد أدّيت عامّة الثمن، وإنما بقي أقلّه.
قال: اصرف ذلك فيما ينوبك.
ثم صرت إلى دار الرشيد، فلما رآني قال: ما أبطأ بك؟.
فقلت: كنت يا أمير المؤمنين عند أبيك وإخوتك، ففعلوا بي كذا وكذا
لخدمتي لك.
قال: فما حالي أنا؟. ثم دعا بدابّته، فركب إلى يحيى، ثم قال: يا أبه! أخبرني جبرائيل بما كان، فما كان حالي أنا من بين ولدك؟.
فقال: مر له يا أمير المؤمنين بما شئت يحمل إليه.
فأمر لي بخمسمائة ألف درهم.
وحكى سعيد بن إسحاق النصراني قال: كنت مع الرشيد بالرقة «1» ، ومعه ولداه: الأمين والمأمون، وكان رجلا كثير الأكل والشرب، فأكل في بعض الأيام أشياء خلط فيها ودخل المستراح، فغشي عليه، وأخرج، فقوي عليه الغشي، حتى لم يشكّ في موته. وأرسل إليّ، فحضرت، وجسست عرقه، فوجدت نبضه خفيا، وكان قبل ذلك بأيام يشكو امتلاء، وحركة الدم.
فقلت لهم: يموت! إن لم يحتجم الساعة.
فأجاب المأمون إليه، وتقدّم الحجّام، وتقدّمت بإقعاده، فلما وضع المحاجم عليه ومصّها، رأيت الموضع قد احمرّ.
فطابت نفسي، وعلمت أنه حيّ. فقلت للحجّام: اشرط. فشرط، فخرج الدم؛ فسجدت شكرا لله. وجعل كلّما خرج الدم يحرّك رأسه ويسفر «2» لونه.
إلى أن تكلّم، وقال: أين أنا؟. فطيّبنا نفسه، وغذّيناه بصدر درّاج «3» ، وسقيناه
شرابا، وما زلنا نشمّه الروائح الطيبة، ونجعل في أنفه الطيب حتى تراجعت قوّته، ودخل الناس عليه، ثم وهب الله له عافيته.
فلما كان بعد أيام، دعا صاحب حرسه، فسأله عن غلّته في السنة، فعرّفه أنها ثلاث مائة ألف درهم. فسأل صاحب شرطته؟، فقال: خمسمائة ألف درهم. فسأل حاجبه؟. فقال: ألف ألف درهم.
فقال لي: ما أنصفناك، حيث غلّات هؤلاء وهم يحرسونني من الناس على ما ذكروا، وأنت تحرسني من الأمراض، وتكون غلّتك دونهم!. ثم أمر بإقطاعي ألف ألف درهم.
فقلت: يا سيدي! ما لي حاجة إلى الإقطاع، ولكن تهب لي ما أشتري لي به ضياعا غلّتها ألف ألف درهم؛ فجميع ضياعي أملاك لي، لا إقطاع.
والذي صار إليه في أيام خدمته للخلفاء وهي نحو ثلاثين سنة، جمل كثيرة، وجدته مدرجا بخط كاتبه، وفيه إصلاحات بخطّه.
فأما ما صرفه منه في مدة حياته في نفقاته تقريا، فهو: سبعة وعشرون ألف ألف درهم، وستمائة ألف درهم.
وفي ثمن دور وبساتين ومنتزهات، ورقيق، ودوابّ: سبعون ألف ألف درهم.
وفي عمائر: ثمانية آلاف ألف درهم.
وفي ثمن ضياع: اثنا عشر ألف ألف درهم.
وفي ثمن جواهر، وما أعدّه للذخائر: خمسمائة ألف دينار، وخمسون ألف ألف درهم.
وفي وجوه القرب وما كفله عن المصادرين: ثلاثة آلاف ألف درهم.
وما جحده أرباب الودائع له: ثلاثة آلاف ألف درهم.
ثم الذي خلّفه بعد هذا عند وفاته لابنه بختيشوع، وجعل المأمون الوصيّ فيه فسلّمه إليه عن آخره، ولم يتعرّض إلى شيء منه: فتسعمائة ألف دينار.
وهذا جبرائيل هو الذي عناه أبو نواس بقوله: [مجزوء الوافر]
سألت أخي أبا عيسى
…
وجبريل له عقل
فقلت الراح تعجبني
…
فقال: كثيرها قتل
فقلت له: فقدّر لي
…
فقال، وقوله فصل
وجدت طبائع الإنسا
…
ن أربعة هي الأصل
فأربعة لأربعة
…
لكل طبيعة رطل «1»
وذكر أبو الفرج الأصفهاني «2» في المأمون شعرا قاله في جبرائيل، هو: على الإسلام والملّه [الهزج]
ألا قل للذي ليس
…
على الإسلام والملّه
لجبريل أبي عيسى
…
أخي الأنذال والسفله
أفي طبك يا جبري
…
ل ما يشفي دوا العله
غزال قد سبى عقلي
…
بلا جرم ولا زلّه
قال [أبو الفرج: والشعر للمأمون في جبرائيل بن بختيشوع المتطبب] ، والغناء لمتيّم، خفيف الرمل.
ومن كلام جبرائيل:" أربعة تهدم العمر: إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام، والشرب على الريق، ونكاح العجوز، والتمتع في الحمّام"«3»