الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
189- علي بن أبي الحزم: علاء الدين ابن النفيس القرشي الدمشقي
«13»
فرد الدهر وواحده، وأخو كل علم ووالده، إمام الفضائل، وتمام الأوائل، والجبل الذي لا يرقى علاه بالسلالم، والحبل الذي لا يعلق به إلا الغريق السالم، لم يبق إلا من اغترف منه غرفة بيده، وأخذ منه حلية لمقلده، حلّ مصر في محل ملكها، ونسخت لياليها بإشراقه صبغة حلكها، وقرأ عليه بها الأعيان وكلأ فضله وأعان، ولم يكن على علم واحد بمقتصر، ولا شبهه بالبحر إلا مختصر، هذا إلى حسب غير مرءوس، وحسب مثل جناح الطاووس، وشرف قرشي لا يحل معه في بطحائه، ولا يحث في البيد قلاص بطائه، زكا محتدا، وزها بيتا لم يضرب غير متوسط السماء وتدا، وكمّل ذاته بكرم وخير، ومجد في أول وأخير، ومزايا استحقاق وسجايا كحواشي النسيم الرقاق، ومحاسن كطوالع النجوم ما فيها شقاق.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" نشأ بدمشق واشتغل بها في الطب على المهذّب
الدخوار منجبا، تخرج عليه جماعة منهم: الرضي وابن قاضي بعلبك، والشمس الكلي، وكان علاء الدين إماما في علم الطب لا يضاهى في ذلك ولا يدانى، استحضارا واستنباطا، واشتغل على كبر وله فيه التصانيف الفائقة والتواليف الرائقة.
صنف كتاب" الشامل" في الطب، تدل فهرسته على أنه يكون في ثلاث مائة سفر، هكذا ذكر بعض أصحابه، وبيّض منها ثمانين سفرا، وهي الآن وقف بالبيمارستان المنصوري بالقاهرة، وكتاب" المهذب" في الكحل، و" شرح القانون" لابن سينا، في عدة أسفار، وغير ذلك في الطب، وهو كان الغالب عليه.
وأخبرني شيخنا أبو الثناء محمود أنه كان يكتب إذا صنف من صدره، من غير مراجعة حال التصنيف، وله معرفة بالمنطق، وصنف فيه مختصرا، وشرح الهداية لابن سينا في المنطق، وكان لا يميل في هذا الفن إلا إلى طريقة المتقدمين كأبي نصر، وابن سينا، ويكره طريقة الأفضل الخونجي «1» ، والأثير الأبهري «2» ، وصنف في أصول الفقه، والفقه، والعربية، والحديث، وعلم البيان، وغير ذلك، ولم يكن في هذه العلوم بالمتقدم إنما كان له مشاركة ما، وقد أحضر من تصنيفه في العربية كتابا في سفرين أبدى فيه عللا تخالف كلام أهل الفن، ولم يكن قرأ في هذا الفن سوى" الأنموذج" للزمخشري، قرأه على ابن النحاس، وتجاسر به على أن صنف في هذا العلم، وعليه، وعلى العماد النابلسي تخرج الأطباء بمصر والقاهرة، وكان شيخا طوالا، أسيل الخدين، نحيفا، ذا مروءة.
وحكي أنه في علّته التي توفي فيها أشار عليه بعض أصحابه الأطباء بتناول شيء من الخمر! إذ كان صالحا لعلته على ما زعموا، فأبى أن يتناول شيئا منه، وقال: لا ألقى الله تعالى وفي باطني شيء من الخمر.
وكان قد ابتنى دارا بالقاهرة وفرشها بالرخام حتى إيوانها، وما رأيت إيوانا مرخما في غير هذه الدار، ولم يكن مزوجا. ووقف داره وكتبه على البيمارستان المنصوري، وكان يغض من كلام جالينوس، ويصفه بالعي والإسهاب الذي ليس تحته طائل، وهذا بخلاف النابلسي فإنه كان يعظّمه ويحث على قراءة كلام جالينوس.
وكان علاء الدين قد نزل يدرس بالمسرورية بالقاهرة «1» في الفقه، وذكروا أنه شرح في أول التنبيه إلى باب السهو شرحا حسنا، ومرض رحمه الله تعالى ستة أيام أولها يوم الأحد، وتوفي سحر يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وثمانين وستمائة بالقاهرة.
قال أبو الصفاء: أخبرني الإمام العلامة الشيخ برهان الدين الرشيدي خطيب جامع أمير حسين بالقاهرة قال: كان العلاء ابن النفيس إذا أراد التصنيف توضع له الأقلام مبرية، ويدير وجهه إلى الحائط ويأخذ في التصنيف إملاء من خاطره، ويكتب مثل السيل إذا تحدّر، فإذا كلّ القلم وحفي رمى به وتناول غيره لئلا
يضيع عليه الزمان في بري القلم.
قلت: وبهذا حدّثني شيخنا أبو الثناء محمود: قال أبو الصفاء: وأخبرني شيخنا نجم الدين الصفدي أن ابن النحاس كان يقول: لا أرضى بكلام أحد في القاهرة في النحو غير كلام ابن النفيس، أو كما قال.
وقد رأيت له كتابا صغيرا عارض به رسالة حي بن يقظان لابن سينا، ووسمه بكتاب:" فاضل بن ناطق"، وانتصر فيه لمذهب أهل الإسلام وآرائهم في النبوات والشرائع، والبعث الجسماني، وخراب العالم. ولعمري لقد أبدع فيها ودلّ ذلك على قدرته وصحة ذهنه، وتمكنه من العلوم العقلية.
وأخبرني السديد الدمياطي الحكيم بالقاهرة، وكان من تلاميذه قال: اجتمع ليلة هو وابن واصل «1» ، وأنا نائم عندهما، فلما فرغا من صلاة العشاء الآخرة شرعا في البحث وانتقلا من علم إلى علم، والشيخ علاء الدين كل ذلك يبحث برياضة ولا انزعاج، وأما القاضي جمال الدين فإنه ينزعج ويعلو صوته، وتحمر عيناه، وتنتفخ عروق رقبته، ولم يزالا كذلك إلى أن أسفر الصبح، فلما انفصل الحال قال القاضي جمال الدين: يا شيخ علاء الدين، أما نحن فعندنا مسائل ونكت وقواعد، وأما أنت فعندك خزائن علوم.
وقال أبو الصفاء: قال السديد أيضا: قلت يا سيدي لو شرحت" الشفاء" لابن سينا، كان خيرا من شرح" القانون" لضرورة الناس إلى ذلك. فقال:" الشفا"
عليّ فيه مواضع تريد أيتها؟. قلت: يريد أنه ما فهم تلك المواضع لأن عبارة الرئيس في" الشفا" غلقه.
قال: وأخبرني آخر قال: دخل الشيخ علاء الدين مرة إلى الحمام التي في باب الزهومة، فلما كان في بعض تغسيله خرج إلى مسلخ الحمام واستدعى بدواة وقلم وورق، وأخذ في تصنيف مقالة في النبض إلى أن أنهاها، ثم عاد ودخل الحمام وكمل تغسيله!.
وقيل: إنه قال: لو لم أعلم أن تصانيفي تبقى بعدي عشرة آلاف سنة ما وضعتها، والعهدة في ذلك على من نقله عنه.
وعلى الجملة كان إماما عظيما وكبيرا من الأفاضل جسيما، وكان يقال: هو ابن سينا الثاني.
قال: ونقلت من ترجمته في مكان لا أعرف من هو الذي وضعه، قال: شرح" القانون" في عشرين مجلدا شرحا حلّ فيه المواضع الحكمية، ورتّب فيه القياسات المنطقية، وبين فيه الإشكالات الطبية، ولم يسبق إلى هذا الشرح لأن قصارى كل من شرحه أن يقتصر على الكليات إلى نبض الحبالى، ولا يجري فيه ذكر الطب إلا نادرا، وشرح كتب بقراط كلها، ولأكثرها شرحان؛ مطوّل ومختصر، وشرح" الإشارات" وكان يحفظ:" كليات القانون" ويعظم كلام بقراط، ولا يشير على مشتغل بغير القانون، وهو الذي جسّر الناس على هذا الكتاب، وكان لا يحجب نفسه عن الإفادة ليلا ولا نهارا، وكان يحضر مجلسه في داره جماعة من الأمراء، والمهذب ابن أبي حليقة رئيس الأطباء، وشرف الدين ابن صغير، وأكابر الأطباء، ويجلس الناس في طبقاتهم، ومن تلاميذه الأعيان: البدر حسن الرئيس، وأمين الدولة ابن القف، والسديد الدمياطي، وأبو