الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
85- ثابت بن إبراهيم بن زهرون الحراني
«13»
كان يتكلم بالحديث الصحيح على كل مغيّب، ويتقدّم عند ملوك قريش على كل أحلافيّ ومطيّب «1» ، لم يبالغ في وصفه من تعدّى، ولا ذكر معجز عجائبه إلا من ظنّ أنه بها يتحدّى.
ذكره ابن أبي أصيبعة فقال «2» :" كان طبيبا فاضلا كثير الدراية، وافر العلم، بارعا في الصناعة، موفقا في المعالجة، مطّلعا على أسرار الطب، وكان مع ذلك ضنينا بما يحسن".
نقلت من خط ابن بطلان «3» قال: كان قد أسكت «4» أبو طاهر ابن بقية في داره الشاطئة على الجسر ببغداد، وقد حضر الأمير معز الدولة بختيار، والأطباء مجمعون على أنه قد مات، فتقدم أبو الحسن الحرّاني، وكنت أصحبه يومئذ،
فقال: أيها الأمير! إذا كان قد مات فلن يضرّه الفصاد، فهل تأذن لي في فصده؟.
قال له: افعل يا أبا الحسن!. ففصده، فرشح منه دم يسير، ثم لم يزل يقوى الرشح إلى أن صار الدّم يجري، فأفاق الوزير!.
فلما خلوت به سألته عن الحال- وكان ضنينا بما يقول-؟.
فقال: إن من عادة الوزير أن يستفرغ في كل فصل ربيع دما كثيرا من عروق المعدة، وفي هذا الفصل انقطع عنه، فلما فصدته ثابت القوة من خناقها.
قال عبيد الله بن جبرائيل: لما دخل عضد الدولة- رحمه الله إلى بغداد، إذ كان أول من لقيه من الأطباء أبو الحسن الحراني، وكان شيخا مسنّا، وسنان، وكان أصغر من أبي الحسن، وكانا عالمين فاضلين، وكانا جميعا يسعران «1» المرضى، ويمضيان إلى دار السلطان، فحسن ثناؤه عليهم، ولما دخلا على عضد الدولة قال: من هؤلاء؟. قالوا: الأطباء. قال: نحن في عافية، وما بنا حاجة إليهم. فانصرفا خجلين، فلما خرجا إلى الدهليز قال سنان لأبي الحسن: يجمل أن ندخل إلى هذا الأسد ونحن شيخان فيفترسنا؟.
قال له أبو الحسن: فما الحيلة؟. قال: نرجع إليه، وأنا أقول ما عندي، وننظر أيش الجواب؟. قال: افعل. فاستأذنا، ودخلا. فقال سنان: أطال الله بقاء مولانا، موضوع صناعتنا حفظ الصحة لا مداواة الأمراض، والملك أحوج الناس إليه.
فقال له عضد الدولة: صدقت. وقرر لهما الجاري السني، وصارا ينوبان مع أطبائه.
قال عبيد الله بن جبرائيل: ولهما أحاديث كثيرة حسنة، منها: حديث قلاء الكبود: وذلك أنه كان بباب الأزج إنسان يقلي الكبود، فكانا إذا اجتازا عليه دعا لهما وشكرهما، وقام لهما حتى ينصرفا.
فلما كان في بعض الأيام اجتازا، فلم يرياه، فظنا أنه قد شغل عنهما، ومن غد سألا عنه؟ فقيل لهما: إنه الآن قد مات!. فعجبا من ذلك، وقال أحدهما للآخر: له علينا حق يوجب علينا قصده ومشاهدته، فمضيا جميعا وشاهداه، فلما نظراه، تشاورا في فصده، وسألا أهله أن يؤخروه ساعة واحدة، ليفكروا في أمره، ففعلوا ذلك، وأحضروا فاصدا ففصده فصدة واسعة، فخرج منها دم غليظ، وكان كلما خرج الدم خفّ عنه، حتى تكلّم وسقياه ما يصلح، وانصرفا عنه.
ولما كان في اليوم الثالث خرج إلى دكانه، فكان هذا من المعجز لهما، فسئلا عن ذلك؟ فقالا: سببه أنه كان إذا قلى الكبد يأكل منها، وبدنه يمتلئ دما غليظا وهو لا يحس، حتى فاض من العروق إلى الأوعية، وغمر الحرارة الغريزية، وخنقها كما يخنق الزيت الكثير الفتيلة التي تكون في السراج، فلما بدروه بالفصد نقص الدم، وخف عن القوة الحمل الثقيل، وانتشرت الحرارة وعاد الجسم إلى الصحة، وهذا الامتلاء قد يكون من البلغم أيضا، وقد ذكر أسبابه الفاضل" جالينوس" في كتابه في تحريم الدفن قبل أربع وعشرين ساعة.
قال عبيد الله بن جبرائيل: ومن أحسن ما سمعت عن أبي الحسن الحرّاني:
أنه دخل إلى قرابة الشريف الجليل محمد بن عمر- رحمه الله تعالى- وكان إنسانا نبيل القدر، قد عارضه ضيق نفس شديد، صعب، فأخذ نبضه، وأشار بما يستعمله، فشاوره في الفصد، فقال له: لا أراه وإن كان يخفف المرض تخفيفا بيّنا، وانصرف، وجاءه أبو موسى المعروف ببقّة الطبيب، وأبصر نبضه وقارورته، وأشار بالفصد، فقال له الشريف: قد كان عندي أبو الحسن الحرّاني الساعة، وشاورته في الفصد فذكر أنه لا يراه صوابا.
فقال بقّة: أبو الحسن أعرف!. وانصرف، فجاءه بعض الأطباء الذين هم دون
هذه الطبقة، فقال: يفصده سيدنا الساعة، فإنه في الحال يسكن، وقوي عزمه على الفصد، ولم يبرح حتى فصده، فعند ما فصده خفّ عنه ما كان يجده خفا بيّنا، ونام وسكن عنه، واغتذى وهو في عافية، فعاد إليه أبو الحسن الحرّاني آخر النهار فوجده ساكنا قارّا، فلما رآه على تلك الحال قال له: قد فصدت؟.
فقال: كيف كنت أفعل ما لم تأمرني به؟.
قال: ما هو هذا السكون إلا للفصد!.
فقال له الشريف: لمّا علمت بهذا لم لا فصدتني؟.
فقال له أبو الحسن الحرّاني: إذ قد فصد سيدنا فليبشر بحمّى ربع سبعين دور، ولو أن بقراط وجالينوس عنده ما تخلّص إلا بعد انقضائها.
واستدعى دواة، ودرجا، ورتّب تدبيره لسبعين نوبة، ودفعه إليه، وقال: هذا تدبيرك، فإذا انقضى ذلك جئت إليك. وانصرف، فما مضى أيام حتى جاءت الحمّى وبقيت كما قال، فما خالف تدبيره حتى برأ.
قال عبيد الله بن جبريل: ومن أخباره أنه كان للحاجب الكبير غلام، وكان مشغوفا به، واتفق أن الحاجب صنع دعوة كبيرة كان فيها أجلّاء الدولة، ولما اشتغل بأمر الدعوة حمّ الغلام حمى حادة، فورد على قلب الحاجب من ذلك موردا عظيما، وقلق قلقا كثيرا، واستدعى أبا الحسن الحرّاني، فقال له: يا أبا الحسن! أريد الغلام يخدمني في غداة، اعمل كل ما تقدر عليه، وأنا أكافئك بما يضاهي فعلك. فقال له: يا حاجب! إن تركت الغلام يستوفي أيام مرضه عاش، وإلا فيمكنني من ملازمته أن يقوم في غد لخدمتك، ولكن إذا كان العام المقبل في مثل هذا اليوم يحمّ حمّى حادّة، ولو كان من كان عنده من الأطباء لم ينجع فيه مداواته، ويموت إما في البحران الأول، أو الثاني، فانظر أيهما أحب إليك؟.