الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
192- فرج الله بن صغير
طبيب لو حضر معه ابن ماسويه لما مسّ العلاج، أو أبو قريش «1» لما أقرّ له ابن اللجلاج «2» ، أو استشعر به حنين بن إسحاق «3» لحنّ إلى لقائه، أو كان في زمانه ابن الأشعث للمّ شعثه ببقائه، لنفع لو كان للمطجّن لأكل جديه الحنيذ «4» ، أو لأمين الدولة لكان عنده ابن التلميذ «5» ، وصدق ودّ لو أنه لابن كلدة لو كل إليه الوفاء، أو لسني لابن سيناء لنسب إليه دون الشفا، ولم يكن شرواه «6» في مداواة سقام، ومدافعة سمام، بملاطفة ما حظي بها النسيم، ولا عبث بشبهها في ملاعبه عطف الروض النسيم.
قال لي: إنه قرأ على أبيه وعلى ابن النفيس، وتلك الطبقة، واقتصر على علم الطب وحقّقه، وأذن له في الكحل ثم في الطب، وجلس للتطبيب، وعاد المرضى، وظهر أثر علمه، وكثر النفع به، وبرء المرضى على يده.
وخدم السلطان وأطلق له المعلوم الوافر والراتب الكامل، وتفرد بخدمة بكتمر
الساقي «1» ، وكان يعتمد عليه دون سائر الأطباء، ويعمل بقوله في معالجته ومعالجة ولده وحريمه، وخواصه، وأعزائه. وكان سلطاننا الملك الناصر يثق به وأفرده بعد بكتمر الساقي لخدمة الدور السلطانية والنساء والحرم، مع مشاركة الجماعة في مباشرة طبه والحضور عنده، ولم يزل موفّر الحظ من الإكرام، وكانت بيننا وبينه صحبة، وله بنا خصوصية، وله من حسن الملاطفة في العلاج ما لم يكن لأحد سواه، وكان في هذا غاية.
جرى ذكره عند الحكيم الفاضل ناصر الدين محمد بن صغير، وهو عليل بدمشق، فقال: من كان مثل الحكيم فرج الله؟. وأخذ في وصفه ووصف فضيلته والثناء عليه، وبالغ في هذا وأطنب فيه، فقال له بعض من حضر: فكيف كان السديد الدمياطي؟. فقال: كان السديد يعمل في ما يصفه مصلحته، وفرج الله يعمل مصلحة المريض.
قلت: والأمر هو على ما قاله، فإن السديد قلّ أن كان يخوض الغمرات في الوصف، وفرج الله يخوض الغمرات في الوصف، ويودّ لو نزع من جسده ثوب العافية وألبسه المريض، وإذا كره المريض أو من حضره غذاء أو دواء، أبدله بغيره فإن كرهوا أبدله بغيره، يفعل هكذا حتى يصيب موافقة من رضاهم أو مقاربة، وكان يرى أن هذا أجدى في نفع المريض، وكانت له معالجات موافقة، وإصابات في تقدم المعرفة خارقة.
حكى لي غير واحد من جيراننا بالقاهرة أنه كان معودا بمعالجة رجل بسويقة الصاحب، وقد عرف مزاجه ودربه، فمرّ به ذات يوم وهو راكب على حماره قد نزل من القلعة على بيته، فرأى ذلك الرجل جالسا على باب المدرسة الصاحبية «1» ، فوقف فرج الله قدامه، وذلك الرجل لا يشعر به، وأطال فرج الله النظر إليه، والتأمّل إلى سحنته، وهو صحيح سوي، لا يشكو مرضا ولا عرضا، ثم قال له: يا فلان هل عضّك في هذه الأيام كلب قطّ؟. فقال له: نعم، من أيام قلائل. فقال له: قم اقعد في بيتك والحق نفسك بالمداواة، ثم ساق حماره وأتى إلى أهل بيت الرجل، وقال لهم: اعلموا أنني رأيت صاحبكم ورأيت عليه علائم الكلب، فسألته إن كان عضّه كلب؟ فقال: نعم. فأمرته بأن يقعد في بيته، ويلحق نفسه بالمداواة والطب، فالله الله فيه والله الله في أنفسكم، فإنه قد كلب ويوشك أن يجفل من الماء بعد كذا وكذا يوم، ثم يموت بعد كذا وكذا!. فكان الأمر كما ذكره لم يخرم في شيء منه.
ولما اعتلّ والدي- رحمه الله العلّة التي مات فيها كان أولها انصباب مادّة بلغمية إلى يده، فورمت منها يده، وهو ونحن لا نكترث بذلك ولا يهمنا، والأطباء تتردّد إليه في كل صباح ومساء لمعالجته، وفرج الله منهم، فأصبح ذات يوم وقد تصرّف الورم بجملته من يده وأصبح بارئا لا يشك في ذلك نحن ولا الأطباء، وكان منهم ابن البرهان، والسديد الدمياطي، فلما انصرفوا قال لي فرج الله: اعلم أن هذه المادة لم تتصرف، وإنما انصبّت بجملتها إلى مكان استضعفته من الأعضاء الباطنة، وأكبر ظني أن تكون انصبّت إلى قصبة الرئة، ولئن كان
كذلك ليعرضن له آخر هذا اليوم ضيق نفس، ثم قلّ أن تنجع معالجته مع ما بلغه من هذا السن، فلم يأت آخر ذلك اليوم إلا وقد عرض له مبادي ضيق نفس، ثم لم يزل يتزايد إلى أن أتى عليه يوم لم نشك أنه لا يخرج عنه، فلما أتاه ورأى ماءه واستقرى أعراضه ووصف له ما وصف وقام، وذلك يوم نصف شعبان.
قلت له: تقول يمسي عليه المساء؟. قال: نعم، ويمسك إلى آخر هذا الشهر، إلى خمسة، ستة أيام أخرى في شهر رمضان. فكان الأمر كما ذكره لم يخرم!.
قلت: وقلّ أن وصف لي دواء إلا وبين أثره ليومه، ثم حمدت عاقبته فيما بعد.
وعرض لي مرة دوار صفراوي، فأمر بماء فأسخن فوق الإسخان المستطاب، ثم شدّ قدمي بأنشوطة من فوق الكعبين، وأمر بتدليتهما في ذلك الماء، وتعجيل حل الأنشوطة عند تدليتهما في الماء، ففعل ذلك، ثم أمر بإطالة اللبث، ثم حكّهما بالحجر الخشن والملح والنخالة، فلم يكن بأسرع من زوال ذلك الدوار لانعكاس المادة، وتفتّح المسام في سفل القدم، وأثّر ذلك لساعته.
ولما أردت الحج في حجتي الثالثة كان الزمان صيفا، والحر شديدا إلى غاية، فسألته عما اعتمدته؟. فقال لي: إذا خفت الحرّلتّ «1» بزرقطونا «2» بماء، ثم أضف إليه شيئا من الخل الحاذق «3» الثقيف «4» ، وضمّد به صدرك ورقبتك،