الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعتضد وهو بآمد «1» خبر موته، فكان هو المبتدئ لابنه سعيد بالعزاء فيه، ثم بعث إليه الوزير وسائر أرباب الدولة لتعزيته، وبعث إليه بخون «2» الطعام، ثم خلع عليه، وأجرى عليه كل ما كان لأبيه.
ومنهم:
88- صاعد بن بشر بن عبدوس أبو منصور
«13»
فطن لكثير من الغلط، وبيّن في أمور منها ما اختلط، حتى تلافى تلف الأبدان، ووافى بما لم يكن للحكماء القدماء به يدان، ونقل الأمزجة إلى ما يلائمها، وأجمع على هذا آراءه وقد كثر لائمها، ثم قفّى من بعده على آثاره الحكماء، وحفظ تدبيره ونسيت القدماء.
ذكره ابن أبي أصيبعة «3» ، وقال:" كان قاصدا بالبيمارستان [ببغداد] ، ثم اشتغل بصناعة الطب، حتى صار من أكابر أهلها. قال: وهو أول من فطن لنقل أكثر الأمراض التي كانت تداوى بالأدوية الحارّة إلى التدبير المبرّد، كالفالج،
والاسترخاء، واللقوة، وخالف مسطور القدماء، أخذ المرضى بالفصد والتبريد، ومنع المرضى من الغذاء فأنجح تدبيره، وتقدّم، وانتهت الرياسة إليه، وعوّل الملوك عليه، فرفع عن البيمارستان المعاجين الحارة، والأدوية الحادة، ونقل تدبير المرضى إلى ماء الشعير، ومياه البزور، فأظهر من المداواة عجائب. من ذلك: ما حكاه لي" بميافارقين" الرئيس أبو يحيى ولد الوزير أبي القاسم المغربي، قال: عرض للوزير بالأنبار «1» قولنج صعب، أقام لأجله في الحمام، واحتقن عدة حقن، وشرب عدة شربات، فلم ير صلاحا. فأنفذنا رسولا إلى صاعد، فلما جاء ورآه على تلك الحال، ولسانه قد قصر من العطش، وشرب الماء الحار والسكر، وجسمه يتوقّد من ملازمة الحمّام، ومداومة المعاجين الحارة، والحقن الحارة، استدعى كوز ماء مثلوج، فأعطاه الوزير، فتوقف عن شربه، ثم إنه جمع بين الشهوة وترك المخالفة، وشربه، فرويت في الحال نفسه. ثم استدعى فاصدا ففصده، وأخرج له دما كثير المقدار، وسقاه ماء البزور، ولعابا، وسكنجبين، ونقله من حجرة الحمام إلى الخيش، وقال له: إن الوزير- أدام الله عافيته- سينام بعد الفصد، ويعرق وينتبه، فيقوم عدة مجالس، وقد تفضّل الله بعافيته. ثم تقدّم بصرف الخدم لينام. فقام الوزير إلى مرقده، وقد وجد خفّة بعد الفصد، فنام مقدار خمس ساعات، وانتبه يصيح بالفراشين. فقال صاعد للفرّاش: إذا قام من الصبيحة، فقل له يعاود النوم حتى لا ينقطع العرق، فلما خرج الفراش من عنده قال: وجدت ثيابه كأنها قد صبغت بماء الزعفران، وقد قام مجلسا ونام، ثم لا زال الوزير يتبرّد دفعات إلى آخر النهار مجالس عدة، ومن بعد هذا غذّاه بمزورة، وسقاه
ثلاثة أيام ماء الشعير، فبرأ برءا تاما، فكان الوزير أبدا يقول: طوبى لمن سكن بغداد دارا شاطئة، وكان طبيبه أبو منصور، وكاتبه أبو علي بن موصلايا، فبلغه الله أمانيه فيما طلب".
ونقلت أيضا من خط ابن بطلان: أن صاعد الطبيب عالج الأجلّ المرتضى»
رضي الله عنه من لسب «2» عقرب، بأن ضمّد [المكان] بكافور. فسكن عنه الألم في الحال.
ونقلت من خط أبي سعيد الحسن بن أحمد بن علي في كتاب" ورطة الأجلاء من هفوة الأطباء" قال: كان الوزير علي بن بلبل ببغداد وكان له ابن أخت، فلحقته سكتة دموية، وخفي حاله على جميع الأطباء، وكان بينهم صاعد بن بشر حاضرا، فسكت حتى أقرّ جميع الأطباء بموته، ووقع اليأس من حياته، وتقدم الوزير في تجهيزه، واجتمع الخلق في العزاء، والناس في اللطم والنياح، ولم يبرح صاعد بن بشر من مجلس الوزير، فعند ذلك قال الوزير لصاعد بن بشر الطبيب: هل لك حاجة؟. فقال له: نعم يا مولانا!، إن رسمت وأذنت لي ذكرت. فقال: تقدّم وقل ما يلج في صدرك. فقال صاعد: هذه سكتة دموية، ولا مضرّة في إرسال مبضع واحد، وننظر، فإن نجح كان المراد، وإن تكن الأخرى فلا مضرّة فيه.
ففرح الوزير وتقدّم بإبعاد النساء، وأحضر ما وجب من التمريخ «1» والنطول «2» ، والبخور، والنشوق، واستعمل ما يجب من شد عضد المريض، وأقعده في حضن بعض الحاضرين، وأرسل المبضع بعد التعليق على الواجب من حاله، فخرج الدم، ووقعت البشائر في الدار، ولم يزل يخرج الدم حتى استتم ثلاث مائة درهم من الدم، فانفتحت العين، ولم ينطق، فشدّ اليد الأخرى، ونشّقه ما وجب تنشيقه، ثم فصده ثانيا، وأخرج مثلها من الدم وأكثر، فتكلم، ثم أسقي وأطعم ما وجب، فبرئ من ذلك، وصحّ جسمه، وركب في الرابع إلى الجامع، ومنه إلى ديوان الخليفة، فدعا له، ونثر عليه من الدراهم والدنانير الكثيرة، وحصل لصاعد بن بشر الطبيب مال عظيم، وحشّمه الخليفة والوزير، وقدّمه، وزكّاه، وتقدّم على جميع من كان في زمانه.
ووجدت صاعد بن بشر قد ذكر في مقالته في مرض المراقيا ما عاينه في ذلك الزمان من أهوال وجدها، ومخاوف شاهدها، ما هذا نصه:" وإنه عرض لنا من تضايق الزمان علينا والتشاغل بالتماس الأمر الضروري، ولما قد شملنا من الخوف والحذر والفزع، واختلاف السلاطين، وما قد بلينا به مع ذلك من التنقل في المواضع غربيّها وشرقيّها، ولما قد أظلّنا من الأمور المذعرة المخوفة، التي لا نرجو في كشفها إلا الله تقدّس اسمه". هذا ما ذكره، وما كان في أيامه إلا اختلاف ملوك الإسلام بعضهم مع بعض، وكان الناس سالمين في أنفسهم، آمنين من القتل والسبي، فكيف لو شاهد ما شاهدنا، ونظر ما نظرنا في زماننا من التتر الذين أهلكوا العباد، وخرّبوا البلاد، وكونهم إذا أتوا إلى مدينة فما لهم إلا قتل جميع