الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" كتابنا هذا إلى ولينا العبد الشكور، الحكيم، الجليل، الفاضل، المعتمد، الثقة، صلاح الدين معتمد الملوك والسلاطين، أدام الله توفيقه ومراشده، وأسعد مقاصده. نأمره عنا بتسليم عادة إنعامه من حامله، ومعها مائتا دينار مصرية مع ما معها برسم مشترى الحوائج المطلوبة من الديار المصرية، وهو ثلاثمائة دينار، وقد اشتملت التذكرة المجهّزة طيها على ذكره فيقف عليها وينجز المطلوب ويتخيّره، ولا يقطع مطالعاته عن أبوابنا المعمورة- إن شاء الله-".
هذه صورة الكتاب ولفظه بنصّه، وعليه اسمه: داود بن يوسف.
وقد ذكرت ذلك ليعلم، فقد لا يخلو من فائدة.
ومنهم:
49- ابن الأكفاني: محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاريّ، شمس الدّين أبو عبد الله السّنجاريّ المولد والأصل، المصري الدار
«13»
حكيم تكلم في الجوهر والعرض، وعرف أسباب الصحة والمرض، وبرهن على الطب وموضوعاته، والعلاج وتبعاته. دقّق في العلم حتى أوضح معالمه الوضعية، وبيّن الفرق في القوى الطبيعية، وجال نظرا في التشريح، وقال فيه بالصريح، وذكر ترتيب الشريان على المنازل، ومكان الصاعد والنازل، بكلام جلاه، وكمال مكّن علاه، ولهذا ساد في أهل عصره، وعاد بالظفر من قام بنصره،
وأهل مصر يظنون أنه لو لامس الماء لالتهب، أو لمس التراب لأحاله إلى الذهب.
يدعي أن له علما يقلب الأعيان أسرع من إدراك العيان، لعلوم لم يضرب دونها سترا، وبيان أتقنه و:(إن من البيان لسحرا)«1» .
ذكره الفاضل أبو الصفاء الصفدي وقال «2» :" فاضل جمع أشتات العلوم، وبرع في علوم الحكمة، خصوصا الرياضي، فإنه في الهيئة والهندسة والحساب له في ذلك تصانيف وأوضاع مفيدة".
وقال:" قرأت عليه قطعة جيدة من كتاب" أقليدس" وكان يحلّ لي فيه ما أقرؤه عليه بلا كلفة كأنما هو ممثّل بين عينيه، فإذا ابتدأت في الشكل شرع هو فيسرد باقي الكلام سردا، وأخذ الميل، ووضع الشكل في حروفه في الرّمل على التختج «3» ، وعبّر عنه بعبارة جزلة فصيحة بيّنة واضحة، كأنه ما يعرف شيئا غير ذلك الشكل.
وقرأت عليه مقدمة في وضع الأوفاق؛ فشرحها لي أحسن شرح. وقرأت عليه أول الإشارات، فكان يحل شرح نصير الدين الطوسي بأجلّ عبارة، وأجلى إشارة، وما سألته عن شيء في وقت من الأوقات مما يتعلق بالحكمة من المنطق والطبيعي، والرياضي، والإلهي، إلا وأجاب بأحسن جواب، كأنما كان البارحة
يطالع تلك المسألة طول الليل! ".
وأما الطب: فإنه إمام عصره، وغالب طبّه بخواصّ ومفردات يأتي بها وما يعرفها أحد لأنه يغيّر كيفيتها وصورتها، حتى لا تعلم، وله إصابات غريبة في علاجه.
وأما الأدب: فإنه فريد فيه، يفهم نكته، ويذوق غوامضه، ويستحضر من الأخبار والوقائع والوفيات للناس قاطبة جملة كبيرة، ويحفظ من الشعر شيئا كثيرا إلى الغاية من شعر العرب، والمولّدين، والمحدثين، والمتأخرين، وله في الأدب تصانيف، ويعرف العروض والبديع جيدا، وما رأيت مثل ذهنه توقد ذكاه بسرعة ما لها رويّة، وما رأيت فيمن رأيت- أصحّ منه ذهنا، ولا أذكر «1» .
وأما عبارته الفصيحة الموجزة، الخالية من الفضول، فما رأيت مثلها. كان ابن سيد الناس يقول: ما رأيت من يعبّر عما في ضميره بعبارة موجزة مثله، انتهى.
قال أبو الصفاء «2» :" لم أر أمتع منه، ولا أفكه من محاضرته، ولا أكثر اطّلاعا منه على أحوال الناس وتراجمهم، ووقائعهم، ممن تقدّمه، وممن عاصره.
وأما أحوال الشرق ومتجدّدات التتار في بلادهم في أوقاتها: فكأنما كانت القصّاد تجيء إليه، والملطّفات تتلى عليه، بحيث إنني كنت أسمع منه ما لم أطّلع عليه من الديوان «3» .
وأما الرّقى «1» والعزائم «2» : فيحفظ منها جملا كثيرة، وله اليد الطولى في الروحانيات، والطلاسم، وما يدخل في هذا الباب.
قال: وقرأت عليه من تصانيفه:" إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد"«3» ، و" اللباب في الحساب"«4» ، و" نخب الذخائر في معرفة الجواهر"«5» ، وغنية اللبيب عند غيبة الطبيب" «6» .
ومما لم أقرأه عليه من تصانيفه:" كشف الرين في أمراض العين"«7» .
قال: وأنشدني لنفسه: [الكامل]
ولقد عجبت لعاكس الكيمياء
…
في طبّه قد جاء بالشنعاء
يلقي على العين النحاس يحيلها
…
في لمحة كالفضة البيضاء
وله تجمّل في بيته وملبسه، ومركوبه من الخيل المسوّمة، والبزّة الفاخرة، ثم إنه اقتصر وترك الخيل، وآلى على نفسه أن لا يطبّ أحدا إلا ببيته، أو في المارستان، أو في الطريق، وهو غاية «1» في معرفة الأصناف من الجواهر، والقماش، والآلات، والعقاقير، والحيوانات، وما يحتاج إليه البيمارستان [المنصوري بالقاهرة]«2» ، ولا يشترى، ولا يدخل إليه إلا بعد عرضه عليه، فإن أجازه اشتراه الناظر، وإن لم يجزه لم يشتر البتة، وهذا اطّلاع كثير وخبرة تامّة، لأن البيمارستان يريد كل ما في الوجود مما يدخل في الطب، والكحل، والجراح، وغير ذلك.
وأما معرفة الرقيق من المماليك والجواري: فإليه المآل «3» في ذلك، ورأيت المولعين بالصنعة يحضرون إليه ويذكرون له ما وقع لهم من الخلل في أثناء أعمالهم، فيرشدهم إلى الصواب، ويدلهم على إصلاح ذلك الفساد. ولم أره يعوز «4» شيئا من كمال الأدوات، غير أن عربيّته كانت ضعيفة، وخطّه أضعف من مرضى مارستانه، ومع ذلك فله كلام حسن، ومعرفة [جيدة] بأصول الخط المنسوب، والكلام على ذلك، انتهى ما ذكره أبو الصفاء" «5» .
قلت: هذا رجل اجتمع بي، وتردّد إليّ غير مرة، وجاريته الحديث كرّة على كرّه، وهو كما ذكره، من الحديث الممتع، والكلام المطمع، وقرأت عليه:
[..]«6» ولقد كنت ألتقط من أثناء كلامه ثمرات الحكم، وأستدلّ له بمجاراته على
سعة الاطلاع، ووفور مدد. ورأيت له في هذا ما لم أر لأحد.
وكان يستجهل الأطباء، ويستبعد طرق معالجاتهم، ويستبشع كريه وصفاتهم، ويقول: أنا أعالج المرضى بما لا يستكره، كهذه الأدوية الكريهة التي يصفها الأطباء، وأعطي القدر اليسير مما يستطاب، فيقوم مقام الكثير مما يعطونه مما لا يستطاب، ويكون ما أعطيه من نوع الغذاء وهو يقوم مقام الدواء.
وحكى لي القاضي ضياء الدين يوسف بن الخطيب أنه احتاج إلى استفراغ «1» ؛ فعرض ما به على الأطباء واستوصفهم «2» ، فقالوا: هذا يحتاج إلى خمسة أيام تتقدّم قبل استعمال دواء. وشرعوا في وصف دواء يشتمل على عقاقير كثيرة كريهة، فلم أجد لي قابلية على ما قالوه. فقلت لابن الأكفاني، فقال: ما يحصل القصد، ثم أتاني ببرنية «3» فيها شراب حماض، وقال: كلما أردت قيام مجلس العق من هذا الشراب لعقة. قال: فلعقت منه تسع لعقات، فقمت تسعة مجالس، وزال ما كنت أشكوه، ثم كنت في كل حين ألعق من ذلك الشراب، وكلما لعقت لعقة قمت مجالسا لا يخالف عدد القيام عدد اللعقات، ولم يخرم معي هذا.
وحكى لي الصدر مجد الدين السلامي نحو ذلك، ومع هذا كله، وما لا يجحد من فضله لا يقول أطباء مصر إلا أنه طرقيّ لا طبيب!، وأيّ حسن ما له من يعيب؟!.
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
…
حسدا وبغضا إنه لذميم «4»