الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة أربع وستين «1» ، بتونس «2» .
وله من التصانيف التي دوّنها:" تفسير سورة ق"، في مجلّدة «3» . ولما تولى الإعادة في المدرسة الناصرية عمل درسا في قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً
«4» ، وعلّق عليه ما أملاه في ذلك.
وكان- رحمه الله تعالى- قد قرأ النحو: على يحيى بن الفرج بن زيتون. والأصول: على محمد بن عبد الرحمن قاضي تونس.
وقدم مصر عام تسعين وسمع بدمشق من ابن الواسطي، وابن القواس، وبحماة من [المحدّث] ابن مزيز «5» .
ومنهم:
48- محمد بن إبراهيم المتطبب صلاح الدين المعروف بابن البرهان الجرائحي
عالم لا يحصر بأمد، ولا يجيء البحر عنده غير ثمد «6» ، نظر في علوم الأوائل ووجهه ما تلثم بعذاره «7» ، ولا بعد عهده بزمان إعذاره، ففتح أطباق تلك النواويس، حتى استل علومها وسأل عليمها، ونقل إلى حفظه خبايا
أسرارها، وخفايا أسفارها، وحيي به ما مات في لحود رممها، وفات بجمود هممها، واستقل بتلك الأعباء، فحصّل ما كان طالبا، وحسّن بإنفاقه ما جاء جالبا.
قرأ الطب على ابن النفيس، وغيره. وقرأ الحكمة، وآخر ما قرأ كتاب" الشفاء" لابن سينا على شيخنا الأصفهاني. كان يتردد إليه من القاهرة إلى الخانقاه القوصونية بالقرافة، لا يعنيه إلا القراءة عليه، ولم يزل حتى أكمله قراءة وبحثا، واستشراحا.
وكان طبيبا حكيما، فاضلا، متفلسفا، قائلا بالروحانيات، له ميل إلى النجامة، ومخاطبات الكواكب، وتطلع إلى الكيمياء، يتحدّث فيه، ويصحح قول المتقدمين في صحتها. وحكي لي أنه كان يصحب ابن أمير يعرف بابن سنقر الرومي، وأنه كان يعملها، وصحّت معه طرف منها.
وكان يحكى عن هذا ابن سنقر الرومي عجائب وغرائب منها أنه عمل له فسقية «1» معقودة في تربة له بالقرافة، لها منافس للهواء. فلما نجزت اتخذ له غذاء مركّبا مما يخف مقداره، وتكثر تغذيته، ونزل إلى تلك الفسقية، وأمره بتعهّده في كل أسبوع، ويجدّد له الماء، وأنه بقي يتعهّده كذلك. ولكّما أتاه بعد أسبوع، وجده قد تزايد ضعفه عما فارقه عليه، حتى كان رابع أسبوع- قال:
أو خامسه، الشك مني- أتيته فوجدته قد غارت عيناه، وخفت حسّه، حتى ظننت أنه قد مات، فحملته أنا وآخر كان قد أطلعه على حاله معي، وأخرجناه،
ونقّطنا في فمه نقطا من الشراب، وأذكينا عنده [
…
] «1» لنغذوه بها، ثم لم نزل نتعهّده إلى أن نقطنا مرقة فرّوج في فمه، فأفاق ولم يكلّمنا، ودمنا على هذا حتى كلّمنا، وقال لي: لا جزاك الله خيرا!، حلت بيني وبين ما حاولته من الانتقال إلى ما كنت أريد الانتقال إليه إلى خير من هذا العالم، ثم قال: أدركني بفاصد «2» . فقلت: والله لا أفعل. فقال: يا أخي! لا تفعل، أدركني به، ولا تدع ينزل من دمي إلا ما قلّ لترى العجب.
فأتيته بفاصد، ففصده، ولم أدعه ينزل من دمه إلا ما قلّ، ثم شددت يده.
فقال: احفظ هذا الدم في زجاجة، وسدّ رأسها لا يفسد بالهواء. ففعلت، ثم قال: ائتني بقرعة وإنبيق، فأتيته به، فأداره ثم سكب ذلك الماء عليه، فاستحال فضة بيضاء! فتركه عندي إلى أن عاد إلى معهود صحته، وقويت قواه، ثم خرجنا إلى جهة الخارقانية، وكان له بها تعلق، ثم أمرني أن أذهب إلى بلبيس «3» لأبيع تلك الفضة، وآتيه من عرضها بمأكل، فذهبت بها إلى صائغ فأريته إياها وأنا خائف وجل، لا يظهر له منها عيب، فأخذها واعتبرها، فلما صحّت معه سارع إلى مشتراها مني، فأخذت من الثمن شواء وحلوا وفاكهة، وغير ذلك، وفضل معي ثمان مائة وثلاثون درهما- أو كما قال-، فأتيته بذلك فأكلنا، ثم قال:
خذ الدراهم، ولا جزاك الله خيرا لكونك تسببت في عودتي إلى تعب هذا العالم!.
قلت: وكان هذا الطبيب عارفا بالطبّ علما لا عملا، لا يحسن العلاج، ولا
يطول روحه على العليل، كثير النزاقة «1» ، عديم التلطّف، كارها لأطباء زمانه، لا يذكر أحدا منهم ولا يذكر له إلا وذمّه، وأطلق لسانه في معايبه. وكان يقول:
هؤلاء اليهود قد ارتفع رأسهم، وامتلئوا فوق وسعهم على جهلهم، وقلة حاصلهم، يعني:" السديد الدمياطي" و" فرج الله ابن صغير" ولا يزال يتوقّد منهما غيظا وحسدا لرغبة السلطان والأمراء والكبراء فيهما أكثر منه، وما كان يحصل لهما من الخلع والإطلاقات «2» ، ويصل إليهما من دور السلطان والأمراء لإفراط ميل النساء إلى طبهما، وملاطفتهما. ثم كان إذ ذمّهما يقول لمن يثق به:
" وهذا إبراهيم ابن المغربي هو مادّة عزّ هؤلاء اليهود، وكنز غناهم، وبه طاروا وحلّقوا". وهذه ألفاظه بعينها.
وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة، مؤقتة من الظهر إلى الظهر.
وكان يحب لبن الضأن، ويكثر أكله. صحبناه مرة في بلاد الصعيد وكان هو قد تقدم مع" طقزدمر"«3» ، وأخبرني أنه لم يأتدم في تلك السفرة على طول أيامها بشيء غير اللبن إلا مرّات يسيرة، وقال: هو غذاء صالح، وللجسم به إلف من أول زمان الرضاع. وكان أنه ينشّفه ويلقي فيه طاقات من النعنع والملح ويأكله.
وكان واسع النعمة كثير المال، ومات أخوه وورث منه مالا كثيرا، فازداد ماله
ضعفا على ضعفه، وكانت له متاجر إلى إخميم «1» ، وقوص «2» ، وأسوان، وسائر بلاد الصعيد. وكان يرى في نفسه الغضاضة لتقدم ابن المغربي عليه في رياسة الطب، ويتشكّى هذا إلى أصحابه، وسأل السلطان في الإعفاء من قطعه الخدمة فقال: لا، ما نعفيك، أنت عندنا عزيز كريم، ونعرف أنه أفضل من إبراهيم- يعني: ابن المغربي-، وأحق، ولكن إبراهيم صاحبنا، وله علينا حق خدمة، وطيّب قلبه، فاستمرّ، ورأى أنه لم يبق له إلا مصافاة ابن المغربي، فخطب إليه أخته فتزوّج بها لقصد الاستصلاح له، لا للزواج.
وكان رجلا مسّيكا، مفرط البخل، مقتّرا على نفسه، مضيّقا عليها مع عظيم القدرة والإمكان، وكان لا يأكل إلا من الظهر إلى الظهر، كما ذكرناه، أسوأ أكل، ويلبس أردأ ملبوس، ويركب حمير الكراء، ومع هذا كان من المعدّلين، يجلس مع الشهود الموقعين تحشّما لا تكسّبا، وله وجاهة عند الأمراء والوزراء والكبراء، والحكّام، معظّما في الصدور ويشار إليه بالأنامل، ولم يصنّف مصنّفا، ولا طلع له تلميذ، ولا عرف بغرابة في طبّه. وعرّف الدولة بما له قبل موته، وخلّف أموالا جمّة ورثها السلطان عنه.
قلت: وقد كان- رحمه الله لنا صديقا صدوقا، وصاحبا ملاطفا، وكان يحدّثني بدقيق أمره وجليله، ويطلعني على ما عنده من تقديم الرئيس جمال الدين إبراهيم ابن المغربي عليه، وينسبه إلى أنه يتقصّد قتله واغتياله بالسم، والأمر خلاف ما ظنه، وضدّ ما توهّمه.
ولم يكن جمال الدين ممن يخافه لمكانة جمال الدين المكينة عند السلطان،
ولكرم خلائقه وبعده من تقلّد دم حرام لا سيما دم مثله. وقد كنت أقول له ليرجع عن سوء رأيه فيه وأوهامه فلا يرجع، ولا يفيد القول، ثم تزوج في آخر عمره بأخت جمال الدين على عدم حاجته بالنساء- كما يقال-، وأظهر الصفاء وباطنه على كدره. وأعتقد أنه لم يزل على هذا إلى انتهاء عمره.
قلت: وحكي لي أنه جلس يوما على حانوت العطار الذي كان يجلس عنده، وطلب منه شرابا يشربه، فناوله شرابا مسموما. قال: فلما شربته أحسست بالسم، وبدت فيّ علاماته، فأسرعت القيام إلى داري، وأخذت خرزة بازهر «1» حيواني كانت عندي، وسحلتها، ثم أذبت السحالة بماء ورد على مسنّ ثم لعقتها، فزالت تلك الأعراض لوقتها، ولم يمض بياض ذلك النهار حتى أكلت طعامي، ولم يعيّن من دسّ ذلك عليه، وما أراد- والله أعلم- إلا جمال الدين ابن المغربي. وقد تقدم القول في بعد جمال الدين من ذلك.
قلت: وقد كان ابن البرهان دخل اليمن، واتصل بصاحبها الملك المؤيد داود- رحمه الله وخدمه مدة، وحصّل من جهته مالا طائلا، كان منه أصل نعمته، ورأس ماليته، ثم فارقه وعاد إلى مصر، وكانت كتبه لا تنقطع عنه، وصلاته تصل إليه، وكان يعرض الكتب التي ترد عليه على السلطان فيأمره بقضاء حوائجه، وكانت الكتب تتضمن طلب كتب طبية، وعقاقير مصرية ومغربية، مما يجل السلطان عن طلب ذلك منه، ويجهّز إلى ابن البرهان ذهبا لمشتراه، فكان يتولى ذلك ويقوم في هذه الخدمة بنفسه.
قلت: ولقد قرأت كتابا منها كله بالخط المؤيدي، ومضمونه بعد البسملة: