الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
80- حنين بن إسحاق العبادي
«13»
أبو زيد، والعباد- بفتح العين وتخفيف الباء، والعباد: بالفتح قبائل شتى، من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية بالحيرة.
كان من أبناء الصيارف «1» ، تعلق بالعلم يطلب تحصيله، وتيقن تأصيله، يغادي إليه أيامه ويبكّر، ويهاجر منامه ولا يهجر، وكان لا يرفع له علم قدر، ولا يوسع له أكرم صدر، لمهنة آبائه الوضيعة، وأهنة أماناتهم المضيعة، ونفسه تأنف له أن يرى بعين هضيمة، أو يراقب بمعاملة مضيمة، فنهض نهضة ثائر، وقام قومة سائر، ودخل بلاد الروم فتخلّق بأخلاقهم، وجاء على وفاقهم، حتى كان كأحد علمائهم، وأوحد حكمائهم.
ثم خرج متنكّرا لا يعرف من الأعياص عيصه «1» ، ولا من أي المصايد قنيصه «2» ، حتى أجلّه من كان لا يجلّه، وقلّ لديه من كان يستقله.
ذكره يوسف بن إبراهيم «3» في سبب ظهوره ما مختصره:" أن حنين العبادي كان يقرأ على ابن ماسويه، ورهط ابن ماسويه من أهل" جندي سابور" ويكرهون أهل الحيرة، فكره ذات يوم من العبادي كثرة سؤاله، فطرده، وقال له:
شأنك أن تكون صيرفيّا!.
فخرج من عنده، وآلى أن يتعلم لغة يونان كأحسن ما يكون. فجمعني به مجلس فإذا بإنسان له شعرة قد جلّلته، وقد ستر وجهه عني ببعضها، وطفق ينشد شعرا بالرومية، ل" أميروس" رئيس شعراء الروم، فعرفته بنغمته، وكان عهدي به بعيدا، فاستكتمني حاله، وسألني الستر عليه، فبقيت أكثر من ثلاث سنين أو أربعا لم أره، ثم إني دخلت على ابن بختيشوع وقد انحدر من معسكر المأمون، فوجدته عنده، وقد ترجم له أقساما قسمها بعض الروم في كتاب من
كتاب جالينوس، وهو يخاطبه بالإنجيل ويقول له: يا زين حنين، يعني: أيها المعلم!. فأعظمت ما رأيت، وتبين ذلك جبرائيل في وجهي، فقال: لا تستنكرنّ ما ترى من تبجيلي هذا الفتى، فو الله إن مدّ له في العمر ليفضحنّ الأول، ثم خرج حنين وتبعته، فوجدته ينتظرني، فسلم عليّ، وقال: كنت سألتك ستر خبري، والآن أسألك إظهاره، وإظهار ما سمعت جبرائيل يقوله فيّ. فقلت: إني مسوّد وجه ابن ماسويه بما سمعته. فقال: تمام سواد وجهه أن تدفع إليه هذه النسخة، ولا تعلمه من نقلها. فإذا اشتد عجبه بها أعلمه أنها إخراجي. ففعلت ذلك من يومي وقبل انتهائي إلى منزلي.
فلما قرأ ابن ماسويه تلك الفصول، وهي التي يسميها اليونان:" الفاعلات"، قال:" أترى المسيح أوحى في دهرنا هذا إلى أحد؟ ". فقلت له: ما أوحى المسيح في هذا الدهر ولا في غيره إلى أحد، ولا كان المسيح إلا أحد من يوحى إليه".
فقال له: دعني ليس هذا الإخراج إلا إخراج مؤيد بروح القدس. فقلت له: هذا إخراج حنين بن إسحاق الذي طردته، وأمرته أن يعمل صناعة الصيارف. فقال:
هذا محال. ثم صدّق القول، وسألني التلطّف في إصلاح ما بينهما، ففعلت.
وأفضل عليه أفضالا كثيرة، ثم لم يزل له مبجّلا. ثم لازم ابن ماسويه وأخذ عنه صناعة الطب، ونقل له كتبا كثيرة. ثم لما رأى المأمون في منامه كان شيخا بهيّا، جالسا على منبر وهو يخطب ويقول:" أنا أرسطوطاليس"، أحضر حنين بن إسحاق، وسأله عنه؟. فأخبره. فأمره بنقل كتب الحكماء إلى اللغة العربية، وبذل له أموالا جمّة، وقيل للخليفة إن ملك الروم ربّما دسّه عليك، فكان لا يأخذ بقوله بمفرده. ثم أراد اختباره، فخلع عليه وأعطاه خمسين ألف درهم، ثم قال له: إني أريدك تصف لي دواء أقتل به عدوّا لي سرّا. فقال: إنّي لم أتعلّم إلا الأدوية النافعة، وما علمت أمير المؤمنين يطلب مني غيرها، فإن أحبّ أن أمضي
وأتعلم، فعلت ذلك.
فقال: هذا شيء يطول، ورغّبه ورهّبه، وهو لا يزيد على قوله، فحبسه في بعض القلاع، ووكّل من يأتيه بأخباره. فمكث سنة غير مكترث بما هو فيه، دأبه النقل والتفسير والتصنيف، ثم أحضره، وأحضر له أموالا وغيها، وسيفا، ونطعا يرهبه به، وهو على قوله. فقال له: إني أقتلك!. فقال: إن لي ربّا يأخذ بحقي، فإن اختار أمير المؤمنين أن يظلم نفسه فليفعل، فتبسّم له، وقال: طب نفسا، فإنما أردت أن أمتحنك لننتفع بعلمك. فقبّل حنين الأرض، وشكر له، فقال له الخليفة: ما منعك يا حنين من الإجابة مع ما رأيت منا في الحالين؟. فقال:
شيئان. قال: ما هما؟. قال: الدين والصناعة. فخلع عليه، وحمل المال بين يديه، وخرج وهو أحسن عنده حالا.
قال الصّقلّي: كان حنين من رفقة سيبويه في الاشتغال في النحو على الخليل بن أحمد.
وخدم حنين المتوكل، وحظي في أيامه، وكان يلبس زنّارا!.
قال القباني: كان حنين في كل يوم عند نزوله من الركوب يدخل الحمام يصبّ عليه الماء، ويخرج، فيلتف بقطيفة، وقد أعد له هناب من فضة، فيه رطل من شراب، وكعكة مثرودة فيه، فيأكلها ويشرب الشراب ويطرح نفسه حتى يستوفي عرقه. وربما نام، ثم يقوم ويتبخّر، ويقدّم له طعامه، وهو فرّوج كبير مسمّن، قد طبخ بزيرباج «1» ، ورغيف فيه مائتا درهم، فيحسو المرق، ثم يأكل