الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
26- الشّهاب السّهرورديّ المقتول: يحيى بن حبش بن أميرك
«13»
المقتول، والردى المختول، جاء بما سحر أعين الناس، وحيّر الألباب، فحيّر الفطن، وحيز كل الأرض إلى محل الوطن، بخوارق حملت على المخاريق، وأحلّت دمه للمريق، فأرى مالا يرى، وصوّر ما لم يوجد، وأتى بما ادّعاه بعض ذوي العقول [
…
] «1» من المتصوفة من طي الزمان والمكان، وجاء بما لم يكن في إمكان، فخيّل ما لم يكن، وهوّن ما لم يهن، وأضلّ جبلا كثيرا، واستزلّ حيلا كبيرا، ولو طال لبثه، وخلّي ماؤه الآجن «2» حتى يطول مكثه، لأكثر الفساد، وأكبر البليّة وساد، لكن الله سلّم، وذبحه وكان لو كلّم جمادا لتكلّم.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان أوحدا في العلوم الحكمية، جامعا للفنون الفلسفية، بارعا في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء، جيد الفطرة، فصيح العبارة، لم يناظر أحدا إلا بزّه، ولم يباحث محصّلا إلا أربى عليه. وكان علمه أكثر من عقله.
حدّثني الشيخ سديد الدين محمود بن عمر «2» قال: كان شهاب الدين السهرورديّ قد أتى إلى شيخنا فخر الدين المارديني، وكان [يتردد إليه في أوقات وبينهما صداقة، وكان الشيخ فخر الدين]«3» يقول لنا: ما أذكى هذا الشاب وأفصحه!، ولم أجد أحدا مثله في زماني، إلا أني أخشى عليه لكثرة تهوّره واشتهاره، وقلّة تحفّظه أن يكون ذلك سببا لتلافه.
قال: فلما فارقنا «4» شهاب الدين السهروردي من الشرق، وتوجّه إلى الشام، وأتى إلى حلب، وناظر فيها الفقهاء، ولم يجاره أحد فكثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب، واستحضر الأكابر من المدرّسين والفقهاء والمتكلّمين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلّم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم، وعلم باهر، وحسن موقعه عند الملك الظاهر، وقرّبه، وصار مكينا عنده،
مختصا به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وأرسلوها إلى دمشق، إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر!، وكذلك إن أطلق، فهو يفسد كل ناحية كان فيها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك. فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه، بخط القاضي الفاضل، وهو يقول فيه: إن الشهاب السهروردي لا بدّ من قتله، ولا سبيل أنه يطلق، ولا يبقى بوجه من الوجوه.
ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك وأيقن أنه يقتل، وليس له جهة إلى الإفراج عنه، اختار أن يترك «1» في مكان مفرد، ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى. ففعل به ذلك، وكان في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة، بقلعة حلب، وكان عمره نحو ست وثلاثين.
قال الشيخ سديد محمود بن عمر: لما بلغ شيخنا فخر الدين المارديني قتله قال لنا: أليس كنت قلت لكم عنه هذا من قبل؟، وكنت أخشى عليه منه.
أقول «2» : ويحكى عن شهاب الدين السهروردي أنه كان يعرف علم السيمياء، وله فيه نوادر شوهدت عنه من هذا الفن. ومن ذلك: حدّثني الحكيم إبراهيم بن أبي الفضل بن صدقة أنه اجتمع به، وشاهد عنه ظاهر باب الفرج، وهم يتمشون إلى ناحية الميدان الكبير، ومعه جماعة من التلاميذ وغيرهم، وجرى ذكر هذا الفن وبدائعه، وما يعرف الشيخ منه. وهو يسمع، فمشى قليلا وقال: ما أحسن دمشق وهذه المواضع!.
قال: فنظرنا وإذا من جهة الشرق جواسق «3» عالية متدانية بعضها من بعض،
مبيّضة، وهي من أحسن ما يكون بناء مزخرفا، ولها طاقات كبار، وفيها نساء أحسن ما يكون منهن، وأصوات المغاني والملاهي. ورأينا أشجارا ملتفّة بعضها على بعض، وأنهارا جارية كبارا، ولم نكن نعرف ذلك من قبل، فعجبنا من ذلك وانذهل الجماعة مما رأوا.
قال: فبقي ذلك ساعة، ثم غاب عنا، وعدنا إلى رؤية ما كنا نعرفه من طول الزمان. قال: إلا أنني في رؤية تلك الحالة العجيبة، أحسن في نفسي كأنني في سنة «1» خفيفة لم يكن إدراكي كالحالة التي أتحققها مني.
وحدّثني بعض الفقهاء العجم قال: كنا مع الشيخ شهاب الدين عند القابون «2» ، ونحن مسافرون عن دمشق، فوجدنا قطيع غنم مع تركمان، فقلنا للشيخ: يا مولانا! نريد من هذا الغنم رأسا نأكله.
فقال: معي عشرة دراهم، خذوها واشتروا بها رأس غنم لكم.
فأخذناها فاشترينا رأسا من التركماني، ومشينا، فلحقنا رفيق التركماني، وقال: ردّوا الرأس، وخذوا أصغر منه، فإن هذا ما عرف يبيعكم، يسوى هذا الرأس الذي معكم أكثر من الذي قبض منكم. فتقاولنا نحن وإياه، ولما عرف الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا، وأنا أقف معه، وأرضيه.
فتقدّمنا وبقي الشيخ يتحدّث معه، ويمنّيه «3» ، فلما أبعدنا قليلا، تركه
وتبعنا، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به، وهو لا يلتفت إليه. ولما لم يكلّمه لحقه بغيظ، وجذب يده اليسرى، وقال: أين تروح، وتخليني؟.
وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه، وبقيت في يد التركماني!، ودمه يجري من يده. فبهت التركماني، وتحيّر في أمره، ورمى اليد، وخاف.
فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمنى، ولحقنا، وبقي التركماني راجعا وهو يلتفت إلينا حتى غاب، ولما وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديله لا غير!! «1» .
وحدّثني صفيّ الدين خليل بن أبي الفضل الكاتب قال: حدّثنا الشيخ ضياء الدين بن صقر «2» - رحمه الله تعالى-: أن في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، قدم إلى حلب شهاب الدين السهروردي، ونزل في مدرسة الحلاوية، وكان مدرّسها يومئذ الشريف رئيس الحنفية افتخار الدين- رحمه الله تعالى- فلما حضر شهاب الدين وبحث مع الفقهاء كان لابس دلق «3» ، وهو مجرّد بإبريق وعكّاز خشب، وما كان أحد يعرفه، فلما بحث، تميّز بين الفقهاء، وعلم افتخار
الدين أنه فاضل؛ فأخرج له منديلا فيه ثوب عتابي، وغلالة، ولباس، وبقيار «1» ، وقال لولده: تروح إلى هذا الفقير، وتقول له: والدي يسلّم عليك، ويقول لك:
أنت رجل فقير، وتحضر مجالس الفقهاء في الدرس، وقد أرسل إليك شيئا تلبسه إذا حضرت.
فلما وصل ولده إلى الشيخ شهاب الدين، وقال له ما أوصاه به. سكت ساعة وقال له: يا ولدي! حطّ هذا القماش، وتفضّل واقض لي حاجة. وأخرج له فصّ بلخش «2» كالبيضة، رمّانيّ اللون، ما ملك أحد في قدره ولونه، وقال: تروح إلى السوق، وتنادي على هذا الفص، ومهما جلب لا تطلق بيعه حتى تعرّفني.
فلما وصل إلى السوق، قعد عند العريف «3» ، ونادى على الفصّ، فانتهى ثمنه إلى خمس وعشرين ألف درهم، فأخذه العريف وطلع إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، وهو يومئذ صاحب حلب، وقال: هذا الفصّ قد جاب هذا الثمن. فأعجب الملك الظاهر قدره، ولونه، وحسنه. فبلغ به إلى ثلاثين ألف
درهم.
فقال العريف: حتى أنزل إلى ولد افتخار الدين، وأقول له.
وأخذ الفصّ ونزل إلى السوق، وأعطاه له، وقال له: تروح تشاور والدك على هذا الثمن. واعتقد العريف أن الفصّ من عند افتخار الدين. فلما جاء إلى شهاب الدين السهروردي وعرّفه بالذي جاب الفصّ، صعب عليه، وأخذ الفصّ وجعله على حجر، وضربه بحجر آخر حتى فتّته، وقال لولد افتخار الدين: خذ يا ولدي هذه الأثواب، وارجع إلى والدك، وقبّل يده عني، وقل له: لو أردنا الملبوس ما غلبنا عنه.
فمضى إلى والده، وعرّفه صورة ما جرى، فبقي حائرا في قضيّته.
وأما الملك الظاهر فإنه طلب العريف وقال له: أريد الفصّ. فقال له: يا مولانا! أخذه صاحبه ابن الشريف افتخار الدين مدرّس الحلاوية. فركب السلطان ونزل إلى المدرسة، فقعد في الإيوان، وطلب افتخار الدين إليه، وقال له: أريد الفصّ. فعرّفه أنه لشخص فقير نازل عنده!.
قال: فأفكر السلطان ثم قال: يا افتخار الدين! إن صدق حدسي فهذا شهاب الدين السهروردي.
ثم قام السلطان واجتمع بشهاب الدين وأخذه معه إلى القلعة، وصار له شأن عظيم. وبحث مع الفقهاء في سائر المذاهب، وعجّزهم، واستطال على أهل حلب، وصار له شأن يكلمهم كلام من هو أعلى منهم قدرا. فتعصّبوا عليه، وأفتوا في دمه حتى قتل.
وقيل: إن الملك الظاهر أرسل إليه [من] خنقه.
قال: ثم إن الملك الظاهر بعد مدة نقم على الذين أفتوا في دمه، وقبض على
جماعة منهم، واعتقلهم، وأهانهم، وأخذ منهم أموالا عظيمة «1» .
قال العدل بهاء الدين الديلمي: كنت أصحب الشيخ شهاب الدين السهروردي الحكيم بحلب، فلما اعتقل بقلعة حلب كنا نتردد إليه، وكان تحت القلعة شخص جزّار، وكان كلما رآنا متردّدين إلى الشيخ يسبّه ويسبّنا، فلما أكثر حكينا أمره للشيخ، فقال: احتالوا على أن تأخذوا طوله وتأتوني به.
فاحتالوا لذلك وأحضروه إليه، فأمرهم أن يقطعوا عصا على مقدار طوله. فلما أحضروها، حزّ فيها حزا مثل الرأس، وأمر بعض تلامذته أن يأخذ معه سكينا، وإذا قال له: اضرب يضرب بها. فقعد الشيخ وجعل يقرأ شيئا في نفسه. ثم قال لحامل السكين: اقطع. فقطع من الموضع الذي حزّه. وإذا صيحة هائلة تحت القلعة!. فسألوا عنها؟ فقيل: إن الشخص الجزّار قد قتل!!، أو كما قال.
حدّثني «2»
سديد الدين محمود بن عمر المعروف بابن زقيقة قال: كان الشيخ شهاب الدين السهروردي لا يلتفت إلى ما يلبسه، ولا له احتفال بأمور الدنيا.
قال: وكنت أنا وإياه نتمشى في جامع ميافارقين، وهو لابس جبة قصيرة مضرّبة زرقاء، وعلى رأسه فوطة مفتولة، وفي رجليه زربول «3» ، ورآني صديق
لي، وهو إلى جانبي، فقال: ما جئت تماشي إلا هذا الخربندا؟ «1» .
فقلت له: اسكت، هذا سيد الوقت شهاب الدين السهروردي. فتعاظم قولي، وتعجّب، ومضى.
وحدّثني بعض أهل حلب قال: لما توفي شهاب الدين السهروردي- رحمه الله تعالى- ودفن بظاهر مدينة حلب، وجد مكتوبا على قبره، والشعر قديم [البسيط]
قد كان صاحب هذا القبر جوهرة
…
مكنونة قد براها الله من شرف
فلم تكن تعرف الأيام قيمته
…
فردّها غيرة منه إلى الصّدف
ومن كلامه: قال في دعاء:" اللهم يا قيّام الوجود، وفائض الجود، ومنزل البركات، ومنتهى الرغبات، منور النور، ومدبّر الأمور، وواهب حياة العالمين، امددنا بنورك، ووفقنا لمرضاتك، وألهمنا رشدك، وطهّرنا من رجس الظلمات، وخلّصنا من غسق الطبيعة إلى مشاهدة أنوارك، ومعاينة أضوائك، ومجاورة مقرّبيك، وموافقة سكان ملكوتك، واحشرنا اللهم مع الذين أنعمت عليهم من الملائكة والصديقين، والأنبياء والمرسلين"«2» .
ومن شعره قوله [الكامل]
أبدا تحنّ إليكم الأرواح
…
ووصالكم ريحانها والرّاح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم
…
وإلى لذيذ وصالكم ترتاح
وإذا هم كفّوا تحدّث عنهم
…
عند الوشاة المدمع السّحّاح
فإلى لقاكم نفسه مشتاقة
…
وإلى رضاكم طرفه طمّاح
عودوا بنور الوصل من غسق الدجا
…
فالهجر ليل والوصال صباح
وتمتّعوا فالوقت طاب لكم وقد
…
رقّ الشراب ودارت الأقداح
مترنّحا وهو الغزال الشارد
…
وبخدّه الصّهباء والتفاح
وبثغره الشهد الشهي وقد بدا
…
في أحسن الياقوت منه أقاح
وقوله «1» : [الوافر]
أقول لجارتي والدمع جاري
…
ولي عزم الرحيل عن الديار
ذريني أن أسير ولا تنوحي
…
فإن الشهب أشرفها السواري
فإني في الظلام رأيت ضوءا
…
كأن الليل زيّن بالنهار
إلى كم أجعل الحيّات صحبي
…
إلى كم أجعل التّنّين جاري؟ «2»
وكم «3» أرضى الإقامة في فلاة
…
وفوق الفرقدين «4» رأيت داري
ويأتيني من الجرعاء «5» برق
…
يذكرني بها قرب الديار
وقوله «6» : [الرمل]
قل لأصحاب رأوني ميتا
…
فيكوني إذ رأوني حزنا
لا تظنوني بأني ميت
…
ليس ذاك الميت- والله- أنا
أنا عصفور وهذا قفصي
…
طرت عنه فتخلى رهنا
وأنا اليوم أناجي ملأ
…
وأرى الله عيانا بهنا «1»
فاخلعوا الأنفس عن أجسادها
…
لتروا للحق حقا بيّنا
لا ترعكم سكرة الموت فما
…
هي إلا انتقال من هنا
قلت: حدثني شيخنا أبو الثناء الكاتب الحلبي- رحمه الله تعالى- عن أشياخه: أن الشهاب السهروردي كان لا يقرّ للملك الظاهر بمعرفة السيمياء»
، وينكر ذلك، وكان الملك الظاهر لا يشك في أنه يعرف ذلك، ويحب أن يراه، وكان لا يزال يقول له عن ذلك وهو ينكره، ويجحد.
فلما كان ذات يوم قال له: بالله يا مولانا! أرني شيئا من السيمياء.
فقال له: بسم الله- وكان الملك الظاهر واقفا على بركة يريد أن يغتسل فيها- ثم إن الملك الظاهر نزل فغطس، ثم طلع ومملوكه واقف بيده منشفة، فلما خرج ناوله المنشفة، فتنشّف ثم قال: أين أنا؟.
فقال له ذلك المملوك: هنا في دارك، وملكك بحلب.
فقال: ولك! كم لي غائب عنكم؟.
فقال: قدر ما غطست في الماء.
فقال: ويلك أنا لي غائب عنكم سنين، وغرقت فما طلعت إلا من ساحل بحر عدن، وتزوّجت امرأة هناك، بنت خطّاب، وأولدتها أولادا.
فقال المملوك: أعيذك يا خوند «1» بالله، وأعيذ عقلك. وكلما قال هذا يغتاظ الملك الظاهر ويقول: ويلك تغالطني، وتدهيني في عقلي؟. والمملوك يعيد قوله. فضحك السهروردي. ففطن الملك الظاهر، وقال له: هذه عملاتك «2» معي!.
فقال له السهروردي: لا والله، بل هذه عملاتك أنت مع نفسك.
وأجريت ذكره مرة مع الشيخ العارف جمال الدين الحويزاوي شيخ الشيوخ بالديار المصرية، فقال: كان رجلا جليل القدر من أفراد العالم، وفضلاء الدهر، وأعيان أهل التصوف، وأخذ نفسه في أول حاله بالتجريد، واجتهد فيه، ولكن غلبت عليه شقاوته وجهل صباه؛ فقتل بسيف الشرع. ثم أنشد:
وذاك قتيل لا يطل له دم «3»