الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على خلاف قول الأمين سليمان فيه، ويصفه بالفضل كل طبيب فاضل وفقيه، ولما كبر انحنى ظهره، وتأطّر رمحه، فلما احدودب، كان يقال له: صندوق العلم، يسميه بهذا عامة الناس، ويعتقد فيه الفضل ويشهد له جمهور الخلق من عرفه منهم ومن لم يعرفه بالتقدم في الطب، والتبريز على كل معاصر، وكان له تفقّه في الطب، وآراء في المداواة، وتفنّن في العلاج، ولم يزل مشارا إليه إلى أن هلك، ومتبوعا في الطب أين سلك.
ومنهم:
148- الأمين سليمان الحكيم وهو سليمان بن داود
«13»
أمين الدين أبو الربيع، رئيس الأطباء بالشام. لحق بالأوائل، وعرف العلم بالدلائل، لو عالج المعتذر لأزاح علله، أو شاء إصلاح ما بين الأفقين لسدّ خلله، لم يتقدّمه جالينوس إلا بالزمان، ولا ابن سينا إلا بكثرة الإدمان، نسي به كل من تقدّم، ونسب إليهم من الفضل ما قدّم.
قرأ على العماد الدنيسري، والعز السويدي، والموفق السامري «1» ، وأخذ عن تلك الطبقة، إلا أنه كان إلى الدنيسري أشدّ انقطاعا، وإليه صارت كتبه وعليه وقف أملاكه، وكان وارث علمه وماله، وخلفه في كل أحواله، وكان منه أصل ثروته، وما حصّله وأثره وأثله.
وحكى لي من رآه في حال صباه، وغصنه رطيب، ومفرقه كله مسك
وطيب، وخده مصقول السوالف، وطرفه إما ساحر أو سائف، ولأهل بلده به فتون، وفي كمده فتون، والدنيسري قد اعتلقه، وخيل إليه دوام الحياة بقربه، فاعتنقه. قال: وكان على هذا لا يخلو منه للحكماء ملعب، ولا للعلماء ندي فضل به يستوعب، فلما صارت إليه الرياسة وسارت به النفاسة قال بعض حسّاده:[الكامل]
يا معشر الحكماء لا تتسخّطوا
…
لعظيم ما قد تمّ في ذا العالم
هذا سليمان بن داود الذي
…
نال الرياسة دونكم بالخاتم
قلت: وإنما نيح القمر وعارض أدنى البحر، وهيهات أن تغطي السماء بالسحاء، أو يضارّ في رؤيته ذو نظر، فلقد كان فردا في الزمان منقطع القرين، معدوم النظير، شارك في الحكمة، وبرّز في علم الطب، وصار علما فيه، وتقدّم باستحقاق وألقي عليه القبول، ومال إليه الحقير والجليل، واقتصرت على طبه الأكابر، ومالت إليه العلماء وأثنى عيه شيخنا ابن الزملكاني، وحصلت بينه وبين ابن الوكيل منافرة، ثم اتفق لابن الوكيل أن ركّب للأفرم نائب الشام سفوفا «1» يعينه على الهضم، ويسهله، فلما أخذ منه الأفرم أفرط به الإسهال، ووثب مماليك الأفرم بابن الوكيل ليقتلوه، فأتى الأمين سليمان وكفهم عنه ثم دخل على الأفرم، واعتبر إعراضه، ثم أعطاه أمراق الفراريج، وشرع في إعطاء المسهلات له، واستفرغه حتى كمل إخراج تلك المادة التي اندفعت، ثم أعطاه المقبّضات والممسكات، فبرأ وأفاق.
قلت: إنما أعطاه أولا المسهّلات مع وجود الإسهال، لأنه رأى السفوف قد هيج مادّة رديّة، ولم يتم اندفاعها، وإن انحباس بقيتها مفسد للبدن، فاستعمل
استفراغ تلك المادة الردية، ثم أمسك ما سواها، وهذا من محاسن العلاج، وله غير هذا من الغرائب والعجائب في صناعة الطب. منها: أن بعض بني صصري كان يشكو نزلة متقدمة به، لا تزال تعاوده، ويلتاث جسمه ببقاياها، فشكا إليه ما يجده منها، فأمره بالحمية، وتعهّد الحمّام، حتى لطف أخلاطه، ثم أخرجه من الحمام وكشف رأسه عقيب خروجه منه حتى نزلت به نزلة أخرى، ثم استمر به على الحمية، وشرع في معالجته، وأعطاه المسهلات حتى استفرغ مواد تلك النزلة، واندفعت معها مواد النزلة القديمة، وبرأ الرجل وأفاق.
ومنها: ما حكاه لي الشيخ أحمد بن براق قال: كنت عند الأمين سليمان فأتى رجل قد حصل له ورم في وجهه، وقد تلوّن بالحمرة والزرقة، فلما رمى عمامته عن رأسه، وكانت عمامة كبيرة، وبقي الرجل يخاف من البرد، وسليمان يقول له ارمها بلا فشار، ثم أمر بسطل من الماء البارد فصبّه على رأسه، وكان الفصل شتاء، ثم نقله إلى المارستان، وشرع في معالجته، وسئل عن هذا فقال:
كانت قد تحركت مادة في دماغه أردت أن أجمّدها قبل أن تنصبّ جملة واحدة.
قلت: وقد تقدم مثل هذا عمن تقدم، وله كل معالجة طائلة، وحدس صحيح، وتجربة محققة. ولما مرض الكرجي وهو في نيابة طرابلس، حارت فيه الأطباء فاستدعاه واستطبّه، فبرأ بقدرة الله على يده، فغمره بالإحسان، وحصل له منه ومن حاشيته نحو أربعين ألف درهم، ما هو دراهم وقماش وغير ذلك، ثم عاوده المرض فاستدعاه وطبّبه، وبرأ فحصل له منه نحو عشرين ألف درهم.
وحكي لي: أنه كان أقل ما يدّخر في كل يوم دينار من الذهب، بعد كلفه وسائر نفقته، وإنه على هذا منذ بلغ عشرين سنة من العمر، وإلى آخر وقت.
وكان صحيح الإسلام، حسن المعتقد، جميل اليقين، وحجّ مرات إلى البيت
الحرام، وزار النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وكان إذا أتى المدينة الشريفة لزم المسجد وأكثر الصلاة.
ولم يزل على رتبته ومكانته حتى سعي عليه عند تنكيز نائب الشام، وغير عليه خاطره، هذا إلى ما كرهه منه من قوة النفس، وكثرة الجرأة والإقدام، فعزله عن الرياسة، وحطّه عن رتبته، وأغري بذمته، والتنقّص به، وقام عبد المولى اليهودي لعناده ورماه سليمان بالبرص، وكشف فلم يصح قوله فيه، وولي عوضه جمال الدين محمد ابن الشهاب الكحال، فجرت بينهم عواصف، وتمت بينهم مع تعمّد الظلم مناصف ونامت على بغضاء تنكز له الأيام والليالي، ثم عطفته عليه عاطفة الرضا، فأقبل عليه كل الإقبال، واستصحبه في سفرة كنت فيها إلى جهة غزة، وأتينا بأنواع من الطعام فيها من السمك واللبن، فقلنا له من أيهما نأكل؟. فقال: أنا طبيبكم وكلوا مما آكل. ثم أكل من السمك، وأكلنا معه حتى كاد يشبع، ثم ترّد خبزا في اللبن، وأكل منه بالملاعق، وأكلنا معه، ثم قال: علينا بالمصلح. فقلنا: ما هو؟. فقال: العسل. فأتينا به، فلعق منه لعقا كثيرا، ولعقنا معه، ثم مكث ساعات، ثم أمر فعملنا شرابا من السكر والليمون، فشرب وشربنا معه، ثم قال: علمنا اليوم بطب الهند. قالوا: أما أن يكون أحدهما أبرد من الآخر أو هما سواء في الدرجة، فإن كان أحدهما أبرد من الآخر فالآخر مصلح له، فإن كانا سواء في الدرجة كنا كمن أكل من شيء واحد، واستكثر منه.... ثم طلب الأمين سليمان إلى باب السلطان ولحق به لتطبيب القاضي علاء الدين ابن الأثير كاتب السر- رحمه الله تعالى- من فالج أصابه، فجاء وطبّبه فلم ينجع، وسعى لأمر فما أنجع، ولم يقع من السلطان بموقع، ولا لقي أطباء الحضرة، بما يجب، فتقهقر وذمّ وأعيد إلى دمشق مبرقع الوجه بالخجل، خائب الظنة والأمل. ثم عقد له مجلس بحضرة تنكز لدواء وصفه