الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقبّل اليد الشريفة، لا زالت المكارم مستديمة، وفي سبل الخيرات مستقيمة، وينهي أن بضاعة المملوك من كل الفنون مزجاة، لا سيما من الأدب فإنه فيه في أدنى الدرجات، وقد وردت عليه إشارة مولانا- حرسه الله تعالى- في طلب شيء من الشعر الذي ليس للملوك منه في عير ولا نفير «1» ، ولا حظي منه بنقير ولا قطمير، سوى ما نبذ من الهذيان الذي لا يصلح لغير الكتمان، ولا يحفظ إلا اللسان، والمسؤول من فضل مولانا وكرمه المبذول أن يتم إحسانا إليه بالستر عليه، فإنه وجميع ما لديه من سقط المتاع، ولا يعار لسقطاته ولا لنفاسته ولا يباع، والله يؤيد مولانا ويسعده، ويحرسه بالملائكة ويعضده.
وكتب إليه وقد وقف على كتابه الذي سماه:" مخالفة المرسوم في حل المنثور والمنظوم": [الطويل]
مخالفة المرسوم وافقت المنى
…
وحازت من الإحسان حصل المفاضل
أثارت على بخل الأثير أثارة
…
من العلم مفتونا بها كل فاضل
ومنهم:
35- القاضي جلال الدّين القزوينيّ، أبو المعالي محمد ابن القاضي سعد الدّين أبي القاسم عبد الرّحمن بن عمر بن أحمد الشّافعيّ الدّلفيّ
«13»
قاضي القضاة، خطيب الخطباء، أوحد الأئمة، مفيد العلماء، عمدة الطالبين، لسان المتكلمين.
من ولد أي دلف، ومن مدد ذلك السلف، من بيت قضاء وإمامة، وضرائر بحر وغمامة، ولي أبوه وأخوه، وتشبّهت النظراء ولم يؤاخوه.
قدم مع أخيه الشام، وناب عنه بمدينة دمشق واستوطنها، وولي الخطابة وسقي فتنها، ورقى أعواد المنابر وهزّ غصنها، وكان صدر المحافل إذا عقدت، وصيرفي المسائل إذا انتقدت، وإذا جمعت المجالس كان لسانها، وإذا نظرت المدارس كان إنسانها، وكان خرق «1» اليدين، وطلق الكرم وإن كان بالدّين.
وكان له من سلطاننا نظرة عناية ترمقه، وتكبت به البحر إذا أشبهه تدفّقه، وكذلك كانت له من كافل الممالك تنكز، حتى اتّخذه في حجّة رفيقا، وجعله له إلى الله طريقا.
ثم تنكّر له بحره، فكادت تنسفه أمواجه، وتلقيه في مهالكها فجاجه، ودام السلطان له على كرم سجيّته، وشيم أريحيّته، فكتب إلى تنكز في توليته قضاء القضاة بالشام حين خلا منصبه، وتخلى له مخصبه، فأظهر تنكز له المعايب، وأساء محضره وهو غايب، فأصرّ السلطان على ولايته وصمّم، وكمّل بادي رأيه فيه وتمّم، وطلبه إلى حضرته مكرّما، وأخمد عنه من نار الثائرة متضرّما، وأوفى
عنه ما أثقل إصره من الديون التي اتخذها ذلك المنكر له عيبا، وانتهب له غيبا.
ثم قدم دمشق جامعا بين الخطابة والقضاء، وتصرّف في الإنفاق والإمضاء.
ثم لم تطل به المدة حتى طلبه السلطان إلى حضرته ثانيا، وولاه بحضرة القضاء، وأظهر به إذ كرهه نائبه الارتضاء، وكان له منه المنزلة الرفيعة، والمكانة التي ما ردت قط شفيعه، حتى حدثت هنات، وجنيت نيات، فأعاده إلى الشام على القضاء، فما لبث حتى حلّ به صرف القضاء.
وكان ممن قدّم وحصّل جانبا صالحا من الفقه واللغة، وعلم المعاني والبيان، وعلم الكلام، واعتنى به، وبرع فيه، وأتقن علم الحكمة إتقانا قلّ فيه من كان يدانيه.
واشتهر بحسن البديهة في المجالس والمدارس، ولم يك مقصرا في شان، ولا ثانيا من عنان. وتزيّد في دمشق إكبابه على الاشتغال وطلب العلم وتحصيله، وقراءة الكتب ومطالعتها، ومذاكرة العلماء ومباحثتهم.
حكي لي أنه كان لشدة حرصه يحضر بعض خزائن الكتب المشهورة الموقوفة، وكان خازنها لا يرى إخراجها إلى عارية أحد «1» ، فكان يقنع منه بأن يجلس عنده يومه كله لمطالعة ما يحتاج إليه منها، وأنه دام على هذا سنين كثيرة.
ولما قدم قاضي القضاة إمام الدين أبو حفص عمر قدم معه أخوه جلال الدين هذا، فلما ولي الحكم بدمشق ناب عنه، وسد خلل أخيه لنقص علم كان فيه، ثم لما ولي ابن صصري «2» القضاء استنابه، ثم خاف منه، وقيل له: إنه اتفق هو
وجماعة من الفقهاء، والصاحب أبي يعلى حمزة ابن القلانسي «1» ، وطائفة من الرؤساء بدمشق على عمل محضر عليه يحكم فيه بفسقه، وأنه كتب وهيّئ ليحكم به في صبيحة يومه، فسارع ابن صصري إلى عزله، وعجل إعلامه به مع العدول الثقات، فبطل ما عملوا، وذهب الصباح بما كانوا بيّتوا له، وبقي في قلب جلال الدين من هذا ما لم يكن له معه حيلة، إلا أنه اتفق مع ابن الزملكاني «2» على إدامة تبكيته في المجالس، وإظهار جهله، وتزييف كلامه، وداما على هذا وكان يحتاج إلى أنه لا يزال يداريهما، ويصانعهما، ويضيّفهما، ويتفقّدهما بالعطايا، وهما على ما هما عليه من تتبع عثراته، وتقصد مساويه.
حكى لي الأمين سليمان الحكيم المتطبب قال: حضرت مرة عنده في بستانه
وهما عنده في يوم قد أضافهما فيه، واحتفل، فقال لي: أقم اليوم عندنا.
فأقمت، فرأيت من تنويع إكرامه لهما ما يتجاوز الوصف، ورأيتهما يتغامزان عليه، ويتحدثان فيه- إذا قام- بأنواع القبائح، وينسبان إليه غرائب الفضائح، فلما انصرفا تقدّمت إليه وقلت له: قد كان من إكرامك لهذين الرجلين ما لا يحد، وهما يفعلان كذا، ويقولان كذا، فما الذي يحملك على إنفاق مالك على من تكون هذه أفعاله في حقك؟، وهذا باطنه في أمرك؟. فقال لي: يا أخي! أنا- والله- أعلم منهما ما قلت، وفوق ما قلت. وإنما كيف عملي؟
هذان رجلان إمامان عالمان، فاضلان، جريّان، وما عندهما تقوى، وهذا ابن القلانسي كما تعرف، وإذا أراد استشهد كل أهل دمشق بأن النهار ليل، والليل نهار فعل! ولم يعجز. وهذا قاضي القضاة التقي سليمان الحنبلي قاض بطّاش، ويرى ضرري، وضرر أمثالي من الشافعية قربة، ولولا هذا- والله- ما داريتهما، ولكن أحتاج مع وجود هذه البلايا إلى مداراتهما من خلف أذني. قال: فسكتّ وعلمت عذره.
قلت: فلما مات ابن صصري وولي الزرعي، خاب أمل جلال الدين، وكان يظن أن المنصب لا يتخطاه، فكان هو وابن الزملكاني وابن القلانسي ممن حسّنوا في أمره ما حسّنوا، حتى سلقته الألسنة، وعزل.
ثم صمم السلطان على ولاية جلال الدين، وتنكز يعيبه، وآخر ما عابه بما عليه من الدّين، وبولده عبد الله، وما هو عليه من سوء السيرة. فطلبه السلطان وأوفى دينه، وترك عبد الله مقيما بمصر، وأعاد جلال الدين إلى دمشق حاكما كما تقدّم، فشرع في معاداة الكبراء، وإسخاط قلوب الرؤساء.
وأتاه رجل من الفقهاء بأبيات، فقال: الشعر للمجالس، والفقه للمدارس، وبقي النائب يعجبه وقوع مثل هذا منه ويظهر له الاستحسان له ليغري به الناس،
ويملأ عليه الصدور، وكان يريد ذهاب روحه!، فبينا هو في هذا إذ سأل قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة «1» الإقالة، لكبر سنه وعجزه، فأقيل وصرف إلى بيته مكرّما، وطلب جلال الدين وولي قضاء القضاة بمصر عوضه، وولي ابنه بدر الدين محمد الخطابة بدمشق عوضه، مضافا إلى تدريس المدرسة الشامية الجوانيّة، فدخل جلال الدين في عين السلطان، ومساه الحظ من خاطره، وصار يحدّث السلطان في كثير من أمور الناس، وقضيت للناس على يده حوائج، ونجحت مطالب وبلغت مآرب، فكثر ولده عبد الله واقتنى كرائم الخيل الثمينة، وصار يسابق بها الأمراء، وخدام الإدارات السلطانية، ويخالط أولاد الأمراء، ويتوسع في الأبنية، واقتناء الجواري الحسان، والمطربات، ويتعرّض إلى أمور كثيرة، وكان يحمل حبّ أبيه له، على أنه لا يردّه عنها، إلى أن فاض خاطر السلطان، وامتلأ عليه، وطرد ابنه عنه، ثم توسّل في إعادته فأعيد، ثم طرده، ثم توسل في إعادته فأعيد، ثم سعى الناظر الخاص، وابن المرواني والي القاهرة عليه، وأطلقا فيه ألسنتهما وأوصلا به سعايتهما، وسدّدا فيه نكايتهما، فعزله السلطان، وأراد تعريضه للهوان، فنهض له فرد الدهر «2» الأصفهاني، وقام معه قيام مثله من أفراد الدهر، وركب إلى سرياقوس «3» ، وكان السلطان قد خرج إليها
بعد أن صرف جلال الدين عن القضاء، وأتى قوصون، وكان قوصون لا يرى إلا أنه ولد له، فلما أتاه قام له وأكرمه، وقال له: قد جئت إليكم لأجتمع بالسلطان في مصلحة له، ولكم، ما أمكنني إخفاؤها عنكم. فقام قوصون لوقته وعرّف السلطان بمجيئه، وبما قال، فأكبر السلطان مجيئه وقال: قل له يعرفنا بالمصلحة التي رآها. فقال له، فقال: اعلم أن هذا القاضي جلال الدين قاض كبير مشهور في الشرق والغرب، وقد زوج بناتكم، وزوّجكم، وأثبت كتب أملاككم وأوقافكم، وحكم لكم أحكاما كثيرة، ومتى عزل هكذا وخلّي بلا قضاء مع كونه لم يعجز، ولا بلغ به الكبر، حصل بهذا التطرق إليه، وإذا تطرّق إليه انتقض عليكم جميع ما حكم لكم به. وقال له من هذا ومثله ما بلغه إلى السلطان، فقال: صدق الشيخ، ولّوه قضاء الشام كما كان، فأمر له به، وجهّزه إليه، فأقام به مدة، وتنكز لا يبش به، ولا يمكنه منعه.
ثم حصل له استرخاء وفالج أبطله؛ فاستناب ولده الخطيب عنه في كل ما ولّاه السلطان، وبقي يراجع في جلائل الأمور إلى أن مات، ودفن بمقابر الصوفية.
وهو ممن أخذت عنه علم المعاني والبيان. وقلت أرثيه، وكتبت بها إلى ولده الخطيب بدر الدين محمد:[الطويل]
أحقا بأن البحر خف معينه
…
وأن وقور الطود خف رزينه
أحقا بأن السيف أغمد حدّه
…
بطيف كرى ليست تنام جفونه
أحقا بأن الشمس غاب ضياؤها
…
وقد بان من بدر التمام جبينه
أحقا بأن النوء أقلع نائيا
…
وآلى يمينا «1» لا تجود يمينه
أحقا بأن الدّرّ آن ابتذاله
…
وأهوى من الجفن القريح «2» ثمينه
أحقا بأن العلم خفّ نباته
…
وأضحى فما فاءت عليه غصونه
أحقا لقد غاض الندى بكماله
…
نعم ومضى تحت التراب خدينه «1»
أحقا دعا داعي الردى علم الهدى
…
أم الدهر بالعلياء جنّ جنونه
لقد خرّ في المحراب تقوى منيبة
…
وفي صدر إيوان القضاء «2» مبينه
مضى بجلال الدين كل فضيلة
…
وأعظمها عند المفاخر دينه
مضى طاهر الأثواب ما شان عرضه
…
حسود إذا ما شاء شينا «3» يريبه
مضى وهو ملء الدست «4» صدرا معظّما
…
يطول إليه شوقه وحنينه
إذا ما يراع «6» الخط صرّ صريره
…
فما ذاك إلا للعويل «5» أنينه
نعى باسمه الناعي فما شك سامع
…
بأن انقضاء الدهر قد حان حينه
تغيّر ضوء الصبح يوم وفاته
…
فلم يبق في الآفاق من يستبينه
كأن جلال الدين ما كان في الورى
…
إماما لهم حتى أتته منونه
فتى دلفيّ في الأبوة جدّه
…
أبو دلف هل شبهه أو قرينه
سقى قبره الوضّاح مثل بنانه
…
سكوب الغوادي لا تغيب هتونه «1»
يضاحكه بالسفح بارق ليله
…
تغازله تحت الظلام جفونه
فهل بعد هذا اليوم يدّخر الفتى
…
بكاء عزيزا عنده لا يهينه
أرى الخطباء اليوم بعدك ألبسوا
…
حدادا عليهم في الملابس جونه «2»
أرى منصب الحكم العزيز تضاءلت
…
معاليه وارفضّت عليك متونه
أرى المنبر العالي استكنّ لما به
…
وكان به فوق السّها «3» مستكينه
أرى قلم الإفتاء قد فات وقته
…
وكان نظير الغصن تجبى فنونه
أرى منطق التدريس أخرس نطقه
…
وأصبح إن قال، النهى «4» لا تبينه
أرى مجلس التصدير أقوت رحابه
…
ولم يرض إيداع الصدور حنينه
لقد أغلق التصنيف أبواب كتبه
…
وأغفت لأحداث الزمان عيونه
فمن للمرجّي خاب ما كان يرتجي
…
ومات أريحي كريم يعينه
لعمرك ما يجدي الحنين على امرئ
…
تحطّ بأكناف القبور ظعونه
تمهّل به يا حامل النعش إنه
…
يقطّع أصلاب الرجال شطونه «5»
وهل يعلم الآتي إلى لحده به
…
بأن الهلال المستنير دفينه
لقد عطّل الدست الرحيب إمامه
…
وفارقه مأمونه وأمينه
وو الله إن الموت أكرم نازل
…
بحرّ ولا يقضي عليه غبونه
فهل ساكن في الدهر ليس يسوؤه
…
ومستأمن للدّهر ليس يخونه
وذو غرر بالموت أن لا تغرّه
…
أمانيه في الدنيا، نعم وظنونه
لتبك المعالي بالدماء سواكبا
…
أباها ويبكي للبكاء حزينه
فيا أيها الناعي «1» رويدك إنه
…
يودّ بمن ينعي لنا لو تكونه
غلطت، أهل قاضي القضاة قضى ردى
…
أم الشام بالزلزال هدّت حصونه
ترفّق ولا تبغي العلى بوفاته
…
فذكراك ميعاد البكا وضمينه
لعلّ حزينا يملك الصبر قلبه
…
يجود بصبر فاضل أستدينه
فيا سائق الأظعان قدام جلّق «2»
…
وفي التربة الفيحاء يلقى تريبه
تعمّد بنا تلك القبور فإننا
…
نرود بها روضا جنيّا جنينه
وقف بي على ذاك الضريح مسلّما
…
فإن فؤادي في التراب رهينه
إليك وإلا لا يئنّ صبابة
…
كئيب ولا تبدو عليه شؤونه
تولّى ابن إدريس وولّيت ذاهبا
…
فما عاد للتدريس حرز يصونه
تضعضعت الدنيا فلم يبق مذهب
…
لعمري لقد هزّ الجبال سكونه
فمن بعده هل في الطريقين سالك
…
وهل لاح في الوجهين بشر يزينه
فكل طريق منه قد سدّ مذهب
…
وفي كل وجه بان عيب يشينه
ولولا كرام من بنيه أعزّة
…
لأوحش منه سيفه ووضينه»
ومن مثل بدر الدين بل ليس مثله
…
فما غاض بحر العلم وهو معينه
فما مثل من قد مات في الناس سيّد
…
ولا مثل هذا الحيّ تحمي عرينه
ويعزّ عليه أن يكتب إلى مولانا معزّيا، او يسلّيه عمّن لم يجد هو ولا جميع أهل الدنيا عنه مسلّيا، وإنما هي عادة الأيام، وسنّة الدين والإسلام، فالله يعظم
أجر مولانا، ويرحم ميته، ويحسن عزاء الإسلام فيمن شيد بجهاده بناءه وثبّته، فلقد كان- والله- من حماة الدين بسيفه وقلمه، وكماة الكلام في المدارس والمنابر بعلمه وعلمه، فرحم الله تلك المزايا الكرام، وفتح لها أبواب الجنة، وأدخلها إليها بسلام، والعزاء مشترك، ومن نظر بعين الحقيقة علم أن الدّهر أخذ أقلّ مما ترك.
وتوفي في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين «1» ، عن أربع وسبعين سنة.
قلت: ولما ولي كراي المنصوري «2» كفالة الشام، أتاها وقد هبّت به ريح العدو المتنسّم، والثغور قد استطار برعب من جاورها قلب بارقها المتبسّم، طلب خيل الحجر التي جرت العادة بطلبها معونة من البلاد إذا قدم العدو، وعدم الهدوّ، ولم يكن الاضطرار قد بلغ إلى حد تطلب فيه المعونة، وتحمل به إلى البلاد المؤونة، وشرع النجم ابن هلال في توزيع ذلك الطلب، وتفريع ذلك الظلم الذي باء منه بسوء المنقلب، فطلب من جهات الملك والوقف ما كاد يكون لها ثمنا، واتّخذها له مأكلة حتى كاد يتفقّأ «3» سمنا، وكان أخا بطنة، يأكل حتى يكاد يتبعّج، وجرأة لا يبالي من أي باب منه على النار يتولّج.
فاجتمع أهل البلد إلى جلال الدين لأنه إمامهم المتّبع، ورأس المصلّين في
الجماعة وهم له تبع، فقام هو والعلامة مجد الدين أبو بكر التونسي «1» في درء هذه المظلمة، وإخفاء نجم ابن هلال الطالع في هذه الليلة المظلمة. فجمعا أهل الجامع الأموي ومن انضمّ تحت أعلام الخطابه، وأسرع إلى هذه الدعوة المجابه، وخرجوا بالمصحف العثماني والأثر النبوي، وكراي راكب في موكبه، قد شمخ العجب بهامته، فحين رآهم سأل عنهم، فلما أخبر الخبر جنّ جنونه، وظنّ ظنونه، فأمر الحاجب أن يأتيهم فيأمرهم بالرجوع بالمصحف والأثر، ويتقشّع سواد ذلك الجمع الذي حضر «2» ، ثم يأتيه منهم من يعي عنه الخطاب، ويسمع منه الجواب، فأتاه الخطيب والتونسي، وقدّما إليه الإنذار، وأغلظا، ولا سيما التونسي في الإنكار، فأومأ إلى الخطيب ليضربه بيده، وأمر بالتونسي فرمي، وكشف عن جسده، ثم ضربه ضربا جاز أدنى الحد في عدده، فخرجا، والناس تتحرّق ولا ماء يطفي النار، وكان من العجب المقدر وغرائب الاتفاق التي تذكر أن السلطان كان قد أمر بإمساك كراي، وخرج المجهّز لإمساكه، ثم بقي في وثاق المحبس إلى حين هلاكه.
ويقال: إن التونسي كتب في ذلك اليوم له من الحروف ما كان من أسباب ما حلّ به من الصروف، أتي كراي بخلعة السلطان فركب بها، وجلس في الإيوان، فأحضر محضر ذلك التشريف معه كتابا قرئ وهو في تلك الحال، وقد ظنّ أن الدهر عن طباعه قد استحال، فإذا فيه المرسوم إلى الأمراء بإمساكه، فأمسك،
وقيّد، والخلعة عليه، ما حلّت أزرارها، ولا أرته عينه إلا ما كأنه غرارها، ولا أجدته الأيام إلا وفي نفعها ضرارها.
وكان الخطيب قد كتب إلى السلطان كتابا مضمونه:
(الحمد لله رافع السماء وبانيها، وساطح الأرض وداحيها، ومثبتها بالجبال وراسيها، ومزيح الملوك عن أسرّتها وكراسيها. أرسل- سيدنا- محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخلائق جميعا دانيها وقاصيها.
وبعد:
ذلك لمّا تقدّم المرسوم الشريف العالي، المولوي السلطاني، الملكي الناصري، أدام الله أيامه، وجعل النصر وراءه وأمامه، بأن يستخرج من الأملاك التي بالبلاد الشامية حق أربعة شهور، ولا يعفى عن وقف، ولا عما يكون ليتيم أو مسكين.
فأردنا أن ننبّه الذي رسم بأن الأوقاف لا تعفى، وأن يؤخذ من الجامع الشريف ما أخفى، فطلعنا في يوم الاثنين، في شهر الاستغفار «1» ، جمع علماء المسلمين، وأئمة الدين، الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في حقهم:" علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"«2» ، وقد حملنا على رؤوسنا كتاب
الله المبين، وأثر سيد الأولين والآخرين، حتى نعلم أن الجامع لا يوجب لأن يؤخذ منه حبة، ولا يتعرّض إليه من في قلبه دين. فبدا إلينا حاجب الملك الذي ولّاه أمور الدين، وجعله بجهله حاكما على المسلمين، ولم يمكّنّا من الدخول إلى نائب السلطنة المعظّمة، حتى نشكو إليه ضرر المساكين، شهد الله العظيم أنهم ما استهابوا، ولا هابوا كلام ذي القوة المتين، إلا جوّدوا الضرب على الرءوس والأكتاف والمتين «1» ، وقد طلع من كان قبلنا إلى الذي استفتح البلاد، وكان كافرا بالله العظيم، فنزل عن ظهر جواده، ومشى إليه خاضعا متذلّلا كالمسكين يتذلل وهو تذلّل مستكين، وعفا عن العباد والبلاد، وأوصى جيوشه أن لا يسعوا في الأرض مفسدين، احتراما لكتاب الله، ولأثر سيد الأولين والآخرين- صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-. فلما طلعنا ورددنا خائبين، طلب نائب السلطنة إماما من أئمة المسلمين، وقد نفخ الشيطان في معاطسه «2» حين خلّاه بما يحدث رهينا أيّ رهين، وجلد ذلك الإمام، وعمل شيئا ما سبقه إليه أحد من العالمين، وجعل يقول- بجهله وقلة عقله وقد أمر بقتله-: أحرقني إن كان لك برهان من البراهين!.
فراقب ذلك الإمام مولاه، وناداه في سرّه ونجواه:" يا من لا يشغله شان عن شان، ولا تغلطه مسائل السائلين، اقض بالحق على الظالم يا ديّان يوم الدين".
أيها العبد الصالح! إنا خشينا عليك أن تفتن كما فتن الذين من قبلك ثم تولّوا مدبرين، فإذا حكم ربّ السماء والأرض، ونادى يوم القيامة: أحضروا الظالمين. فكيف ينطق من قد افترى على العلماء والفقهاء وأئمة الدين؟، وما احترم كتاب الله الذي أنزل فيه أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ
نَعِيمٍ
«1» .
فهذا الكتاب يجتمع عليه فقهاء الديار المصرية، ويحكموا فيمن لا خاف يوم تنشر فيه الدواوين، وتحشر فيه الخلائق أجمعين، وينادي مناد من قبل الله- عز وجل هذا يوم يجزي الله المتقين، ويخسر فيه الظالمون. وقد علم سيدنا ومولانا السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين «2» - وهو أعلم بمن كان قبله من الملوك والسلاطين- بأن لا يوجب أن يؤخذ من العامة أموالهم، ولا يتعرّض إليهم من في قلبه دين، إلا إذا التقت الفئتان، ونودي: هذا يوم لا قبله ولا بعده، وكانت أمراء الدولة قد اضمحلّ ما عندهم من الأموال والسلاح والخيل، فهنالك عمّن تخلف عن ذلك اليوم فقد أمسى بما كسبت يداه وهو رهين.
واعلم أن ما يسبق أحد من خلق الله إلى الجنة غير المجاهدين، فيجب عليك أن تنصر كتاب الله، وكلام الله، وتأخذ الحق ممن افترى وطغى، فيقف على هذا الكتاب فقهاء الديار المصرية، والسلام".
ومنهم:
36-
السّيد العبريّ: برهان الدّين عبيد الله بن محمّد [الشريف] الحسينيّ الشافعيّ [الفرغانيّ][العاقوليّ]«1» العبريّ «2» «13»
الإمام العلّامة، ابن الإمام العلامة. لسان جبل على الكلام، وبيان جعل لكشف الظلام، سلّ على الباطل حسامه «3» ، وجذب من يده خطامه «4» .
ولي القضاء فأرضى، وأقام سنّة وفرضا، وهو- على ما بلغنا- حيّ يحيا به العوالم، وتجلى به العواتم، وبكف نداه وينهم، ويأمر الدهر فيأتمر، ويقف الجواد دون مداه ويستمر. قال الدهلي «5» : ولد بتبريز «6» ، وهو الآن قد جاوز الستين.
إمام في العقليات، منطقها، وحكمتها، وطبّها، وله قوة عظيمة في الخلافيات والجدل، بحّاث مناظر في الغاية، لم نر أحدا يقدر على التدريس مثله. يلقي الدروس في علوم شتى، أكثر من ثلاثين علما في مشكلات الكتب لأفاضل الزمان في كل يوم في بيته، ولم يناظره أحد إلا وغلب معه.
وكان فقيها في مذهب الإمام أبي حنيفة- رحمه الله تعالى-، عريقا في أصوله وفروعه، مفتيا لهم. ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، وحفظ الحاوي على ابن مصنّفه جلال الدين محمد، وصار إماما في مذهبه، أصلا وفرعا. يفتي في المذهبين.
وولي قضاء القضاة بجميع مملكة إيران، شرح" الطوالع «1» "، و" المصباح «2» "،
و" المنهاج «1» " في أصول الفقه، و" إيلاقي" في الطب، و" نقد الصحائف" في الكلام.
وعمل كتابا في المنطق في يوم، وأخذ العلوم عن القاضي محيي الدين أبي الحسن بن أبي الفضل بن عبد الحميد بن محمد القزويني قاضي القضاة. وأخذ العقليات عن قطب الدين الشيرازي «2» ، والعبيدي، ووالده. وكان من جملة المحققين. وروى" جامع الأصول" عن القطب الشيرازي، و" شرح السنة «3» " عن محيي الدين القزويني.
وروى عن أبيه، عن شيوخه، منهم: العلامة سيف الدين الباخرزي «4» .
قال: وله نظم مليح، وخط حسن، وجاه عظيم، وحشمة في الغاية، وترجمته عند السلاطين:" أستاذ البشر العقد الحادي عشر" وله ابن هو: شمس الدين محمد. قال الدهلي: هو المشتهر [ببيرك] فاضل في أكثر العلوم، حسن الجد والخط والعبارة، ولد سنة عشر وسبعمائة، وأخذ عن السيد أكثر فضلاء الشرق، ومنهم: النصير الحلي، وروى المشارق عن الروي عن الصنعاني.