الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله «1» : [المتقارب]
عجبت لقولنج هذا الوزي
…
رأنى ومن أين قد جاءه؟
وفي كل يوم له حقنة
…
تنظف بالزيت أمعاءه
ومنهم:
18- الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا
«13»
رجل الدنيا وواحدها، وعديم النظراء وواجدها، ولّد المعاني وولدها، وعقم
القرائح ووأدها، لا يجيء أرسطو منه سينه، ولا أفلاطون في جبلته طينه، لو أنه في زمن اليونان لجلس في صدر الرواق، ولا ستقلت طرائف المشائين حوله المشي على الأحداق، لعلم جمع بين علوم الإسلام واليونان، ووقع على ما يلقط مثله من الأفنان، ولم يقنع إلا بكل عباب، ولا رضي من جنات التصانيف حتى دعي إليها من كل باب، لو قرن به الفارابي لفر، أو الكندي لما كدّ نفسه ولا كر، بل لو تقدم في عصور الأوائل لتكلم وسكت كل قائل، وأقرّ كل طائر الصيت بأنه ما هو عنده طائل.
علم أعلام، ومملي كلام، ومالئ طروس «1» وأقلام. شعلة ذكاء، لم يبق شرق ولا غرب حتى أضاء فيه شعاعها، وامتدّ إليه شراعها، وأشرقت عليه شمسها، وانبسطت به شمسها، وغلب عليه صيتها، وغلّ به عفريتها، ومشت فيها الحكماء على قانونه «2» ، ورأت الشفاء بمضمونه، وعرفت الحكماء بإشاراته،
وسلكت مثل النحل سبلها ذللا بعباراته، وعلمت أنه فيلسوف الإسلام، والمسلّم إليه في كل علم بسلام، والمقدم في سائر الطبقات، والمعظّم على الأوقات، والمحرّم من العلم المحرم إليه في الميقات.
كان ندرة في العالم، وزهرة في بني آدم، والمفاض عليه من العلوم ما تزجر بحاره، ولا يزخر إلا لج فوائد فرائده، وصدره محاره، منبع العلم، وموضع الحلم، ومرتع الفضائل، ومربع الكرم، ووسمي «1» الربيع متضائل، أعجوبة الزمان وغريبة آل سامان «2» .
فخرت دولة ما وراء النهر منه بوزير شرف دستها «3» ، وصرف بجمعه لجهات
الممالك شتها، وتقلد أمورها، وقلد المنة بولايته أميرها، وتزيّا بزيّ أرباب الدول، وأصبح في أصحاب الخول «1» ، واقتنى الغلمان الأتراك، ووقع بالحب في الأشراك، وكان غلمانه يلبسون الديباج المنسوج بالذهب، ويشدون مناطق الذهب المرصعة بالجواهر، ويزهر بهم جلوته، وتعمر خلوته، يبيت معهم الليالي في الحمام، ويبادر بتنعمه بهم صروف الحمام «2» ، حتى قال له ملكه: كيف تنهانا عن الإتيان في الحمام؟ فقال: لأن الملك يحب أن يعيش طويلا، وأنا أحب أن أعيش طيبا. وكان لا يملك صبرا عن غلمانه، ولا يشغل إلا بهم فراغ زمانه، حتى كانوا سبب حمامه، وجلب سمامه. وكان السبب في فعلتهم، ومرشدهم في هذا إلى ضلّتهم، أنهم سرقوا له مالا جليلا، ثم خافوه، وسئموا فعله الطويل بهم وعافوه، فشابوا له درياق «3» مثرود يطوس، كان يستعمله بسمّ أبى إلا أن يقتله، فتعلّل «4» به عامه حتى ساق الأجل إليه حمامه. وكانت الوزارة نقصا عيب به، وأطلقت الحكماء ألسنتها فيه بسببها، وقالوا: أذلّ العلم، ورضي من الفانية بالاستكثار!. فقال: لي أسوة بأرسطو في صحبة الاسكندر. وفيما قاله نظر، لأن أرسطو كان معلما للاسكندر ومشيرا، وابن سينا كان مكلّفا ووزيرا.
قال ابن أبي أصيبعة:" هو [إن كان] أشهر من أن يذكر، وفضائله أعظم من أن تسطر، ونحن نقتصر من وصفه على قدر ما ذكره عن نفسه. ووصفه أبو عبيد الجوزجاني «5» صاحبه من أحواله والذي ذكره هو قال: كان أبي رجلا من أهل
بلخ «1» ، وانتقل إلى بخارى «2» ، في أيام نوح بن منصور «3» ، واشتغل بالتصرف، وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية يقال لها" خرميثن" من ضياع بخارى، وهي من أمهات القرى، وبقربها قرية يقال لها" أفشنة" وتزوج منها بوالدتي، وقطن بها، وسكن، وولدت منها بها، ثم أولدت أخي بها، ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن والأدب، وأكملت العشرة من العمر، وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقتضي مني العجب «4» .
وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعدّ من الإسماعيلية، وقد سمع منهم
ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم، وكذلك أخي، وربما كانوا يذكرونه بينهم وأنا أسمع وأدرك ما يقولونه، ولا تقبله نفسي، وابتدؤوا يدعونني إليه ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة، وحساب الهند، وأخذ يوجهني إلى رجل كان يبيع البقل ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه، ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتليّ «1» وكان يدعى المتفلسف، وأنزله أبي إلى دارنا، رجاء تعليمي منه، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد إلى إسماعيل الزاهد «2» ، وكنت من أجود السالكين، وقد ألفت طرق المطالبة «3» ، ووجوه الاعتراض على المجيب على الوجه الذي جرت عادة القوم به.
ثم ابتدأت بكتاب" إيساغوجي" على البابلي. ولما ذكر لي أن حد الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو، فأخذت في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله، وتعجّب مني كل التعجب، وحذّر والدي من شغلي بغير العلم «4» .
وكان أي مسألة قالها لي أتصورها خيرا منه، حتى قرأت ظواهر المنطق عليه،
وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبر «1» .
ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق، وكذلك كتاب" أقليدس"«2» ، فقرأت من أوله إلى خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت بنفسي حلّ بقية الكتاب بأسره.
ثم انتقلت إلى" المجسطي"»
ولما فرغت من مقدماته، وانتهيت إلى الأشكال الهندسية قال الناتلي: تولّ قراءتها وحلها بنفسك ثم اعرضها عليّ لأبين لك صوابه من خطئه، وما كان الرجل يقوم بالكتاب، فأخذت أحل ذلك الكتاب فكم من شكل ما عرفه إلا وقت ما عرضته عليه، وفهّمته إياه «4» .
ثم فارقني الناتلي متوجها إلى كركانج، واشتغلت أنا بتحصيل الكتب في الفصوص والشروح، من الطبيعي والإلهي، وصارت أبواب العلم تنفتح عليّ.
ثم رغبت في علم الطب وصرت أقرأ الكتب الصعبة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أني برّزت فيه في أقل مدة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرءون عليّ علم الطب. وتعاهدت المرضى فانفتح عليّ من أبواب المعالجات
المقتبسة من التجربة ما لا يوصف «1» ، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه، وأناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة، ثم توفرت على العلم والقراءات سنة ونصف، فأعدت قراءة المنطق، وسائر أجزاء الفلسفة، وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت في النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهورا فكل حجة أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية «2» ، ورتبتها في تلك الظهور، ثم نظرت فيما عساها تنتج، وراعيت شروط مقدماته حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسألة، وكلما كنت أتحير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع، وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسر المتعسر «3» .
وكنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والدرس، والكتابة، فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إليّ قوّتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومهما أخذني أدنى نوم، أحلم بتلك المسائل [بأعيانها] اتضح لي وجوهها في المنام «4» .
وكذلك حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني. وكل ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن ولم أزدد فيه إلى اليوم، حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي، والرياضي، ثم عدلت إلى الإلهي، وقرأت كتاب" ما بعد الطبيعة" فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليّ غرض
واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة «1» ، وصار لي محفوظا. وأنا مع ذلك لا أفهم المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه.
وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الورّاقين وبيد دلّال مجلّد ينادي عليه، فعرضه عليّ، فرددته [ردّ] متبرّم!، معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: اشتر مني هذا فإنه رخيص! أبيعكه بثلاثة دراهم!، وصاحبه محتاج إلى ثمنه «2» .
فاشتريته؛ وإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في:" أغراض كتاب ما بعد الطبيعة"!. فرجعت إلى بيتي، فأسرعت قراءته، فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لي محفوظا على ظهر القلب. وفرحت بذلك، وتصدقت في ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء، شكر الله عز وجل.
وكان سلطان بخارى في ذلك الوقت نوح بن منصور، واتفق له مرض [أتلج]«3» الأطباء فيه، وكان اسمي اشتهر بينهم بالتوفر على العلم والقراءة، فأجروا ذكري بين يديه، وسألوه إحضاري، فحضرت وشاركتهم في مداواته، وتوسمت بخدمته، فسألته يوما الإذن لي في دخول دار كتبهم، ومطالعتها، وقراءة ما فيها من كتب الطب. فأذن لي؛ فدخلت دارا ذات بيوت كثيرة «4» ، في كل بيت صناديق من الكتب منضّدة بعضها على بعض، في بيت منها كتب العربية والشعر، وفي آخر الفقه، وكذلك في كل بيت كتب علم مفرد.
وطالعت فهرست «1» كتب الأوائل، وطلبت ما احتجت إليه منها، ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط. وما كنت رأيته من قبل، ولا رأيته أيضا من بعد. فقرأت تلك الكتب، وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كل رجل في علمه «2» .
فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدّد لي بعده شيء! «3» .
وكان في جواري رجل يقال له: أبو الحسن العروضي «4» ، فسألني أن أصنف له كتابا جامعا في هذا العلم، فصنّفت له: المجموع، وسميته به، وأتيت فيه على سائر العلوم، سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة من عمري!.
وكان في جواري أيضا رجل يقال له: أبو بكر البرقي «1» الخوارزمي «2» ، فقيه النفس، متوجه في الفقه والتفسير، والزهد، مائل إلى هذه العلوم، فسألني شرح الكتب [له]، فصنفت له كتاب:" الحاصل والمحصول" في قريب من عشرين مجلدا، وصنفت له في الأخلاق كتابا سميته:" كتاب البر والإثم" وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده، ولم يعر أحدا أن ينسخ منه «3» .
ثم مات والدي، وتصرّفت بي الأحوال، وتقلدت شيئا من أعمال السلطان، ودعتني الضرورة إلى الإحلال ببخارى «4» ، والانتقال إلى" كركانج"«5» ، وكان أبو الحسن السهلي، المحب لهذه العلوم بها وزيرا. وقدمت على الأمير بها وهو علي بن المأمون، وكنت على زي الفقهاء، إذ ذاك بطيلسان «6» تحت الحنك، وأثبتوا
لي مشاهرة «1» دارّة تقوم بكفاية مثلي.
ثم دعت الضرورة إلى الانتقال إلى" نسا"«2» ومنها إلى" باورد"«3» ، ومنها إلى" طوس"«4» ، ومنها إلى" سمنيقان" ومنها إلى" جاجرم"«5» ، رأس حد خراسان، ومنها إلى جرجان، وكان قصدي الأمير قابوس. فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه في بعض القلاع، وموته هناك.
ثم مضيت إلى" دهستان"«6» ، ومرضت به مرضا صعبا، وعدت إلى جرجان، فاتصل [بي] أبو عبيد الجوزجاني «7» .
وأنشدت في حالي قصيدة فيها بيت القائل: [الكامل]
لمّا عظمت فليس مصرّ واسعي
…
لمّا غلا ثمني عدمت المشتري
قال أبو عبيد «1» الجوزجاني: فهذا ما حكاه لي الشيخ من لفظه «2»
ومن هاهنا شاهدت أنا من أحواله كان بجرجان رجل يقال له: أبو محمد الشيرازي، يحب هذا العلم، وقد اشترى للشيخ دارا في جواره، أنزله بها، وأنا أختلف إليه في كل يوم، أقرأ" المجسطي" واستملي المنطق.
وصنف لأبي محمد الشيرازي كتاب:" المبدأ والمعاد"، وكتاب" الأرصاد الكلية".
وصنف هناك كتبا كثيرة: كأول القانون، و" مختصر المجسطي"، وكثيرا من الرسائل. ثم صنف في أرض الجبل بقية كتبه «3» .
كتاب:" المجموع" مجلد،" الحاصل والمحصول" عشرون مجلدا،" الإنصاف" عشرون مجلدا،" البر والإثم" مجلدان،" الشفاء" ثمانية عشر مجلدا،"