المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌37- الشيخ شمس الدين الأصفهاني، وهو: محمود بن أبي القاسم بن أحمد، أبو الثناء - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - جـ ٩

[ابن فضل الله العمري]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء التاسع]

- ‌[تراجم الحكماء والفلاسفة]

- ‌مقدمة المحقق

- ‌[المقدمة]

- ‌[من الحكماء المشارق]

- ‌1- أما (هرمس الأول)

- ‌2- وأما (هرمس الثاني)

- ‌3- وأما (هرمس الثالث) :

- ‌4- فيثاغورس

- ‌5- سقراط

- ‌6- أفلاطون

- ‌7- أرسطوطاليس

- ‌8- يعقوب بن إسحاق الكنديّ

- ‌9- أحمد بن الطّيّب السّرخسيّ

- ‌10- كنكه الهندي

- ‌11- صنجهل الهندي

- ‌12- أبو نصر الفارابيّ

- ‌13- يحيى بن عدي

- ‌14- أبو بكر محمّد بن زكريّاء الرّازيّ

- ‌15- أبو سليمان السّجستاني

- ‌16- ابن الخمّار

- ‌17- أبو الفرج بن هندو

- ‌18- الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا

- ‌ومن رسائله:

- ‌[وصية ابن سينا]

- ‌ومن شعر الشيخ الرئيس قاله في النفس

- ‌19- أبو الفرج عبد الله بن الطيب

- ‌20- أبو المؤيد محمد بن محمد بن المجلي الجزري، المعروف بابن الصايغ

- ‌21- ابن الخطيب الرّازيّ، ابن خطيب الرّيّ، وهو: محمّد بن عمر بن الحسين، أبو عبد الله- الإمام فخر الدّين

- ‌22- القطب المصريّ وهو: إبراهيم بن عليّ بن محمّد السّلميّ أبو إسحاق

- ‌23- عبد اللّطيف البغدادي

- ‌24- ابن الخوييّ: أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى، الشّافعيّ، شمس الدّين، أبو العبّاس

- ‌25- الرّفيع الجيليّ: أبو حامد، عبد العزيز بن عبد الواحد ابن إسماعيل بن عبد الهادي

- ‌26- الشّهاب السّهرورديّ المقتول: يحيى بن حبش بن أميرك

- ‌27- الخسرو شاهيّ: عبد الحميد بن عيسى، بن عمّويه، بن يونس، ابن خليل شمس الدّين، أبو محمّد، التبريزيّ، الشّافعيّ

- ‌29- البديع الاصطرلابيّ: وهو بديع الزّمان أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن أحمد البغداديّ

- ‌31- النّصير الطّوسيّ: محمد بن محمد بن الحسن، نصير الدّين، أبو عبد الله، الطّوسيّ الفيلسوف

- ‌32- القطب الشّيرازيّ: [محمود بن مسعود بن مصلح الفارسيّ

- ‌33- الشّيخ صفيّ الدّين الهنديّ: [محمد بن عبد الرّحيم بن محمد الأرمويّ، أبو عبد الله، صفي الدين

- ‌34- علي بن إسماعيل بن يوسف الإمام العلامة القدوة العارف ذو الفنون الشيخ علاء الدين قاضي القضاة شيخ الشيوخ أبو الحسن القونوي التبريزي

- ‌35- القاضي جلال الدّين القزوينيّ، أبو المعالي محمد ابن القاضي سعد الدّين أبي القاسم عبد الرّحمن بن عمر بن أحمد الشّافعيّ الدّلفيّ

- ‌37- الشّيخ شمس الدّين الأصفهانيّ، وهو: محمود بن أبي القاسم بن أحمد، أبو الثّناء

- ‌ومن فلاسفة المغاربة، وحكمائها، ومتكلميها ممن كان بالأندلس:

- ‌38- يحيى بن يحيى، أبو بكر، المعروف بابن السّمينة

- ‌41- أبو الحكم الكرمانيّ: عمرو بن عبد الرّحمن بن أحمد بن عليّ

- ‌42- ابن واقد [الوزير، أبو المطرّف عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الكبير بن يحيى ابن واقد بن مهنّد اللّخميّ]

- ‌43- محمد بن يوسف المنجّم

- ‌45- المبشّر بن فاتك: وهو: الأمير محمود الدّولة أبو الوفاء الآمريّ

- ‌48- محمد بن إبراهيم المتطبب صلاح الدين المعروف بابن البرهان الجرائحي

- ‌49- ابن الأكفاني: محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاريّ، شمس الدّين أبو عبد الله السّنجاريّ المولد والأصل، المصري الدار

- ‌فأما أول من استخرج الطب فرجلان:

- ‌50- اسقليبيوس بن ريوس

- ‌51- أيلق

- ‌أطباء العرب ممن كانوا في أول ظهور الإسلام ومن بعدهم

- ‌52- الحارث بن كلدة الثّقفيّ

- ‌53- النّضر بن الحارث بن كلدة

- ‌54- عبد الملك بن أبجر الكنانيّ

- ‌55- ابن أثال

- ‌56- أبو الحكم

- ‌57- حكم الدّمشقيّ

- ‌58- عيسى بن حكم الدّمشقيّ المعروف بالمسيح

- ‌59- تياذوق

- ‌60- زينب طبيبة بني أود

- ‌أطبّاء السّريان الكائنين في ابتداء الدولة العباسية:

- ‌61- جورجيس بن جبريل [بن يختيشوع]

- ‌63- جبريل بن بختيشوع بن جورجيس

- ‌64- بختيشوع بن جبريل بن بختيشوع

- ‌65- جبيرائيل بن عبيد الله بن بختيشوع

- ‌66- خصيب النصراني

- ‌67- عيسى المعروف بأبي قريش

- ‌68- ابن اللجلاج

- ‌69- عبد الله الطيفوري

- ‌70- إسرائيل بن زكريا الطيفوري

- ‌71- يزيد بن [زيد] بن يوحنّا

- ‌72- عبدوس بن زيد

- ‌73- ماسرجويه «طبيب البصرة»

- ‌74- سلمويه بن بنان «متطبّب المعتصم»

- ‌75- إبراهيم بن فزارون

- ‌76- إبراهيم بن أيوب الأبرش

- ‌78- يوحنّا بن ماسويه

- ‌79- ميخائيل بن ماسويه

- ‌80- حنين بن إسحاق العبادي

- ‌81- إسحاق بن حنين بن إسحاق العبادي أبو يعقوب

- ‌82- يوحنا بن بختيشوع

- ‌83- ثابت بن قرة الحرّاني، أبو الحسن

- ‌84- سنان بن ثابت بن قرة

- ‌85- ثابت بن إبراهيم بن زهرون الحراني

- ‌86- ابن وصيف الصابئ

- ‌87- غالب «طبيب المعتضد»

- ‌88- صاعد بن بشر بن عبدوس أبو منصور

- ‌89- ديلم

- ‌90- فنّون المتطبّب

- ‌91- نظيف- القسّ الرّومي

- ‌92- ابن بطلان، أبو الحسن المختار بن عبدون بن سعدون ابن بطلان النصراني

- ‌93- أحمد بن أبي الأشعث

- ‌94- أبو سهل النيلي. وهو: سعيد بن عبد العزيز

- ‌95- ابن الواسطي «طبيب المستظهر»

- ‌96- أبو طاهر البرخشي، أحمد بن محمد بن العباس

- ‌97- أبو غالب ابن صفية

- ‌98- أمين الدولة ابن التلميذ

- ‌99- معتمد الملك أبو الفرج يحيى بن صاعد بن يحيى بن التلميذ

- ‌100- أوحد الزمان وهو أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي ثم البغدادي

- ‌101- أبو القاسم هبة الله بن الفضل البغدادي

- ‌102- فخر الدين المارديني

- ‌103- أبو نصر المسيحي

- ‌104- أبو الفرج ابن توما

- ‌طبقات الأطباء ببلاد العجم

- ‌105- تياذورس

- ‌106- ربن الطبري

- ‌107- علي بن سهل بن ربن الطبري أبو الحسين

- ‌108- أحمد بن محمد الطبري

- ‌109- أبو منصور: الحسن بن نوح القمريّ

- ‌110- أبو سهل عيسى بن يحيى المسيحي الجرجاني

- ‌111- السيد أبو عبد الله محمد بن [يوسف] الإيلاقي

- ‌112- أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني

- ‌113- أحمد بن عبد الرحمن بن مندويه الأصبهاني، أبو علي

- ‌114- أبو القاسم عبد الرحمن بن علي ابن أحمد بن أبي صادق النيسابوري

- ‌115- السّموأل بن يحيى بن عباس

- ‌116- الشريف شرف الدين إسماعيل

- ‌أطبّاء الهند

- ‌117- شاناق الهندي

- ‌118- منكه الهندي

- ‌119- صالح بن بهلة الهندي

- ‌أطبّاء الشّام

- ‌120- أبو الفرج جرجس بن توما بن سهل بن إبراهيم اليبرودي

- ‌121- ظافر بن جابر السكري أبو حكيم

- ‌122- أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله الباهلي

- ‌123- ابنه: أبو المجد [محمد] بن أبي الحكم؛ أفضل الدولة

- ‌124- ابن البذوخ: أبو جعفر بن موسى بن علي القلعي

- ‌125- حكيم الزمان أبو الفضل عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن حسان الغساني الجلياني

- ‌126- المهذّب ابن النقاش

- ‌127- سكرة اليهودي الحلبي

- ‌129- ابن اللبّودي: يحيى بن محمد بن عبدان بن عبد الواحد

- ‌130- الرضي الرحبي، يوسف بن حيدرة بن الحسن أبو الحجاج

- ‌131- الشرف علي شرف الدين أبو الحسن

- ‌132- عمران [بن صدقة] الإسرائيلي

- ‌133-[موفق الدين] يعقوب بن صقلاب النصراني

- ‌134- رشيد الدين الصوري أبو المنصور ابن أبي الفضل بن علي

- ‌136- صدقة بن منجا بن صدقة السامري

- ‌137- المهذب يوسف بن أبي سعيد بن خلف السامري

- ‌138- أمين الدولة أبو الحسن بن غزال بن أبي سعيد السامري

- ‌139- المهذّب الدّخوار: أبو محمد عبد الرحيم بن علي بن حامد

- ‌140- الرشيد علي بن حليقة بن يونس بن أبي القاسم بن خليقة الأنصاري الخزرجي

- ‌141- ابن قاضي بعلبك: المظفر بن عبد الرحمن بن إبراهيم

- ‌142- العماد الدّنيسري: محمد بن العباس بن أحمد بن عبيد الربعي أبو عبد الله

- ‌143- العز السويدي: إبراهيم بن محمد الأنصاري الأوسي، عز الدين أبو إسحاق

- ‌144- موفق الدين يعقوب السامري أبو يوسف يعقوب بن غنائم

- ‌145- أبو الفرج يعقوب بن إسحاق بن القف النصراني

- ‌146- المهذب يوسف كاتب الزردكاش

- ‌147- النفيس أبو الفرج ابن إسحاق بن أبي الخير السامري

- ‌148- الأمين سليمان الحكيم وهو سليمان بن داود

- ‌149- أحمد بن شهاب الدين أبو محمد الكحال الجرائحي

- ‌150- الفتح السامري: هو ابن يوسف بن إسحاق بن مسلم

- ‌151- غنائم السامري، وهو ابن المهذب يوسف كاتب الزردكاش

- ‌فأما أطباء الغرب بما وقع في جانبه من مصر والاسكندرية

- ‌152- إسحاق بن عمران

- ‌153- إسحاق بن سليمان الإسرائيلي أبو يعقوب

- ‌154- أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد المعروف: بابن الجزار القيرواني أبو جعفر

- ‌155- حمدون أثا

- ‌156- يحيى بن إسحاق

- ‌157- أبو داود بن جلجل: وهو سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل الحكيم

- ‌159- الغافقي: وهو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سند

- ‌161- أبو محمد المصري

- ‌162- أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الداني

- ‌163- أبو مروان عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر الإيادي الإشبيلي

- ‌164- أبو العلاء زهر بن عبد الملك

- ‌165- ابنه أبو مروان ابن أبي العلاء، واسمه عبد الملك

- ‌166- أبو محمد ابن الحفيد أبي بكر بن زهر

- ‌167- أبو جعفر ابن الغزال

- ‌168- أبو العباس ابن الرومية، وهو أحمد بن محمد بن مفرّج النباتي

- ‌169- ابن الأصم

- ‌أما أطباء مصر:

- ‌170- بليطيان

- ‌171- سعيد بن توفيل

- ‌172- سعيد بن البطريق

- ‌173- التميمي: وهو أبو عبد الله محمد بن سعيد التميمي

- ‌174- ابن الهيثم: وهو أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم البصري ثم المصري

- ‌175- علي بن رضوان

- ‌176- افرائيم [بن الزفّان] الإسرائيلي

- ‌177- سلامة بن رحمون أبو الخير

- ‌178- بلمظفر ابن معرف: وهو نصر بن محمود بن المعرّف

- ‌179- أبو عمر وعثمان بن هبة الله بن أحمد بن عقيل القيسي جمال الدين

- ‌180- ابنه الفتح [فتح الدين بن جمال الدين بن أبي الحفائر]

- ‌181- ابنه المهذب [شهاب الدين ابن فتح الدين]

- ‌182- الخونجي: محمد بن ناماور أفضل الدين أبو عبد الله

- ‌183- أبو سليمان داود بن أبي المنى ابن فانة

- ‌184- ابنه: الموفق أبو شاكر موفق الدين

- ‌185- الرشيد أبو حليقة: وهو أبو الوحش ابن الفارس ابن أبي الخير بن أبي سليمان داود ابن أبي المنى ابن فانة

- ‌186- ابنه المهذب: أبو سعيد محمد بن أبي حليقة

- ‌187- أبو سعيد بن موفق الدين يعقوب

- ‌188- ابن البيطار: عبد الله بن أحمد المالقي النباتي، ضياء الدين أبو محمد

- ‌189- علي بن أبي الحزم: علاء الدين ابن النفيس القرشي الدمشقي

- ‌190- أحمد المغربي

- ‌191- السديد الدمياطي

- ‌192- فرج الله بن صغير

- ‌193- محمد بن صغير، ناصر الدين

- ‌مصادر التحقيق

- ‌الفهرست

الفصل: ‌37- الشيخ شمس الدين الأصفهاني، وهو: محمود بن أبي القاسم بن أحمد، أبو الثناء

ومنهم:

‌37- الشّيخ شمس الدّين الأصفهانيّ، وهو: محمود بن أبي القاسم بن أحمد، أبو الثّناء

«13»

الإمام العالم العلّامة، قدوة العلماء والحكماء والفقهاء، والفقراء. وإرث العلم والحكمة، واحد الدهر، معلم الوجود.

شمس أضاءت، وسماء على الدنيا فاءت، وإمام قدم دمشق وهي تحكي بغداد زمان عمارتها، وقرطبة حيث استقلّت بنو أمية بإمارتها، لكثرة نجوم العلماء الطالعة، وغيوم النعماء الهامعة، وابن تيمية ونباح قمره، وابن الزملكاني ولفيف سمره، والخطيب القزويني والإجماع عليه في المعقول معقود، وحلق المسجد والفقهاء بها قعود، فلم يبق إلا من اعترف بسؤدده «1» ، واغترف منه بيده، فحلف في فنّ الأصول فننها «2» الرطيب، ونسي به ابن خطيب الري فضلا عن القزويني الخطيب، ولم يعد يلتفت عليه بعد أن قدم في الأصول حلقة إقراء،

ص: 229

ولا شكت الوجاء إليه أقدام القرّاء.

طلع صباحا، وسطع مصباحا، وأتى في زيّ تاجر جاء بمتاع، فكانت فرائد الدرّ راهون أعلاقه «1» ، وكتم نفسه وضوء الشمس لا تخفي لوامع إشراقه.

نزل بدار ابن هلال، ودارة الهلال أحق بموضعه، وطلع دمشق وأفق السماء أولى بمطلعه، وتردّدت إليه العلماء، وسعت إليه العظماء، وأقام ينشر العلوم، ويمدّ جناح الفضائل على العموم، ويعلم في علم الأوائل أن القطب عليه دار، وأن الطوسي وإن نشر جناح الطاووس عجز عنه لما طار، وأن الآمدي امتدّ معه فقصّر في المضمار «2» ، وأن الفارابي لم ينجّه منه إلا الفرار، وأن ابن سينا ما يجيء سينة من حروفه، وهي حمل الفقار.

هذا، إلى علوم شرعية، وفهوم لوذعية «3» ، ومعرفة بالفقه على مذهب الشافعي، يجمع بين قوليه، ووجوه للأصحاب ناضرة ناظرة إليه، واختلاف في طرف الخراسانيين والعراقيين تتفرق، وتجتمع عليه مع علم حديث ما ابن شهاب «4» فيه عنده إلا.... كالأعمش «5» ، وعربية ما الجاحظ لديه فيها إلا كالأخفش، وحقيقة ما صاحب كل طريقة بالنسبة إليها معه إلا واقف في مجاز،

ص: 230

وتبحّر في تفسير جاء فيه بالإعجاز «1» ، وغير هذا من كرم ما البحر عنده إلا مبخّل، ولا السيل المنصبّ من مكانه العالي إلا مخلخل، ولا الغمام إلا وقد تقطّعت عراه، وغمض جفن لأنه كراه، وقيدت إذا همّ الليل عن سراه.

كل هذا إلى خلق يتخلّق به الأبرار، ويتحقق صفات الأخيار، ويدلّ على ما وراءها من العمل لما فيه نعم عقبى الدار.

كان في بلده جليلا، وفي عدده كثيرا، لا يجد مثله إلا قليلا، صحب السلطان محمد بن خذا بنده، وكان في سيارته من مدرّسي السيارة، وهم جماعة كان يقرر أن يكونوا حيث خيم السلطان.

وكان من أنظار القطب الشيرازي وأمثاله، وأحسن حالا منه، عند خواجا رشيد، لما كان يجده في نفسه على الشيرازي، ويرمي به طرفه من الغضاضة «2» ، ويتقصّد به جناحه من الإهاضة «3» .

وكان يعلي شمس شيخنا الأصبهاني ويرفعه، ويزين به أفق المجالس ويطلعه، وكان يحاضره ويسامره، ويفيده العلم ويذاكره. وكان يجزل له العطاء، ويدر له

ص: 231

الصّلات «1» ، وينوّه بذكره، وينبّه على جلالة قدره.

وقرأ عليه ابنه الوزير الكبير آخر وزراء الشرق بل ملك الرياسة بحكم الحق:

أمير محمد بن خواجا رشيد، وتخرّج به، وحصّل.

وقدم الشيخ الأصفهاني دمشق واستوطنها فارغا من تلك البلاد «2» ، على عظم مكانته فيها، وامتلاء صدور أهلها بتعظيمه، وأقام والطلبة تتسامع به وتتواصل إليه، وتأتيه من كل جهة ومكان، وكان شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية يثني عليه أحسن الثناء، ويصفه بالفضل الوافر والعلوم الجمّة «3» .

قال لي: ما قدم البلاد علينا مثل الشيخ شمس الدين الأصفهاني.

ورأيت شيخنا الأصفهاني قد زاره مرة، فقام إليه ومشى خطوات لتلقّيه، وعرض عليه أن يجلس مكانه فأبى. وكنا في ذلك الوقت نقرأ عليه. ودخل وأنا أقرأ في" المسح على الخفين من العمدة" في الأحكام الصغرى، فقال ابن تيمية للأصفهاني: ما نتكلّم وأنت حاضر!.

فقال له الأصفهاني: الله، الله يا مولانا، مولانا شيخ السنة، وإمام العلماء.

فقال لي ابن تيمية: ما في ها اليوم قراءة «4» . اليوم يوم فراغ لسماع فوائد الشيخ. وأشار إلى الأصفهاني. فلبثت ساعة رأيت فيها مجمع البحرين، ومطلع

ص: 232

النيرين، فكانا فحلين يتصارعان، وسيفين يتقارعان، ثم تركتهما، وأنا أظنّ أن مكة قد انطبق أخشابها «1» ، وأن المدينة قد تلاقت حرّتاها «2» ، ثم طفقت «3» أستثبت هل دمشق قد [..]«4» شرفاها؟، أو الأرض قد اجتمع طرفاها؟. ثم كنت لا أزال أسمع ابن تيمية يعظّمه. وكذلك ابن الزملكاني، وأما الخطيب؛ فإلى غاية لا تبلغ!!.

وقال ابن تيمية مرة في تقرير مدرس حضره جلّة العلماء، وحضره الأصفهاني، فتكلم رجل من أعيان العلماء فيه، فقال ابن تيمية: اسكتوا لنسمع ما يقول الشيخ. وأشار إلى الأصفهاني.

ثم قال الشيخ شمس الدين بزرك- والبزرك هو الكبير باللغة الفارسية-:

ثم كان الخطيب لفرط محبته في الحكمة وعلم الكلام يدعو الأصفهاني إليه ويدع من يقرأ بحضوره عليه ليستفيد.

وجرى بينه وبين ابن جملة «5» مرة نزاع في حديث، وكان النقل مع الشيخ فيه، فوبّخ ابن جملة على تجرئه على مثله، وغاية مثله أن يكون كأحد تلاميذه وطلبته الآخذين عنه.

ص: 233

وأقام الشيخ سنين بدمشق، كأنما هو مرفوع على الرءوس لإفراط التعظيم والإجلال. ثم لما طلب الخطيب إلى مصر، وولي القضاء بها، كان لا يزال يتشوق ويتشوف «1» إلى مقدمه عليه ومقامه بمصر. فلما طلبني السلطان شركته في ذلك، وزدت عليه، واتّصل خبره بالسلطان، وطلبه، وأقبل عليه، وأكرم وأدنى منه مجلسه، وبسطه، وأنسه، وأمره بالمقام بحضرته، فأقام وأجرى عليه مرتّبا، وأبقى عليه معلوم التصدير «2» بدمشق، مع الإقامة بمصر للإشغال بها.

ثم كنت يوما أنا وقاضي القضاة الخطيب القزويني عند السلطان بالدركاه «3» داخل باب مسجد رديني «4» بالآدر السلطانية، في عقد عقد لبعض الحرم، فأجرى ذكر الشيخ الأصفهاني وكانت المدرسة المعزّيّة «5» بمصر المعروفة بمنازل العز قد شغرت، فولّاها له، ثم بنى الأمير قوصون «6» له الخانقاه «7» التي

ص: 234

بالقرافة، وكان ينزل في كل وقت إليه، ويقعد قدّامه بين يديه، ويقضي كل حوائجه ويبعث بالجمل ليعمل بها أوقات، ويحضرها بنفسه، ويكون فيها مثل أحد تلاميذ الشيخ.

وعظمت منزلة الشيخ عند السلطان، وكبرت مكانته في صدره، حتى أمر قوصون أن يقول له: السلطان يقول لك: أنت عندنا كبير، ومكانتك نعرفها، ونريد أننا لا ترد عليك قط في شيء تطلبه منا، ونحن نوصيك بأنك لا تتحدّث في اثنين، ثم مهما أردت قل يسمع منك، وهما: عبد الله بن القاضي جلال الدين «1» ، وأوحد ابن أخي الشيخ مجد الدين الأقسرائي، شيخ خانقاتنا بسرياقوس «2» ؛ فإن هذين الاثنين قد ثبت عندنا نحسهما، وما يمكن أن نقبل فيهما شفاعة.

قلت: فكان الشيخ لهذا لا يرى التثقيل عند السلطان في شيء لئلا يطلب ما يستثقل به ويقضيه رعاية له.

ثم إن السلطان أبا سعيد بهادر خان «3» بعث كتابا إلى السلطان يطلب فيه

ص: 235

إنفاذ الشيخ إليه لاشتياق الوزير أمير محمد وأهل البلاد إليه، وأكّد في طلبه.

وجاء قرينه «1» كتاب من الوزير يقول فيه: إنه من أولاد الشيخ وتلاميذه، وكم يصبر الولد عن والده، والتلميذ عن شيخه؟ وسأل الصدقات السلطانية في تجهيزه. فقال لي السلطان: والله! نحن ما نسمح بالشيخ، ولكن قولوا له: قد بعث أبو سعيد يطلبك هو والوزير، وأهل تلك البلاد، وقد حيّوا السلطان بسببك، والسلطان قد جعل الأمر إليك.

فقال الشيخ: لا والله لا أفارق ظل السلطان، ولا أستبدل بهذه البلاد، فأنا ما فارقت تلك البلاد بنية من يعود إليها.

فأعجب السلطان هذا منه كل الإعجاب، ووقع منه أحسن المواقع، وجلّ في صدره، وعظم في عينه، وعرف محلّه، وتحقق مكانته في بلاده، وأنه مع ذلك لم يزد إلا حيث استعلت كلمة الإسلام وكانت مباعث الأنبياء والرسل- صلوات الله عليهم-.

ثم لما سعت نمال النميمة في القاضي جلال الدين، وتحتّم عزله، وكاد يفضي به الأمر إلى ما أعاذ الله منه نواب شريعته «2» ، وعلماء دينه الذي ارتضى، قام الشيخ في أمره حتى ولي قضاء الشام- على ما تقدم ذكره في ترجمته-.

ص: 236

ولما طلب السلطان أعيان الفقهاء للارتياد بعد جلال الدين لم يفصل رأيا حتى حضر الشيخ، وأخذ رأيه، وكان هو المعظّم في ذلك المجلس، والمقدّم عند السلطان على ذلك الجمع الجمّ.

ثم إن السلطان أمسك ابن صورة «1» ، وكان على نظر الأهراء السلطانية «2» ،

ص: 237

وكان الشيخ مزوّجا بابنته، وكان قد اتّهم بأخذ مال جليل للسلطان، وقد أمسكه السلطان وشدّد عليه في الطلب. فأتى الشيخ بنفسه إلى قوصون بسببه، فاعتذر إليه، وقال: هذه ساعة غضب السلطان، ما أقدر أكلّمه فيها!.

فقال له الشيخ: أنا أتحدّث مع السلطان. ثم أتاه وطلب الإذن عليه، فدخل فلما رآه وقف له، أكرمه، وأجلسه إلى جانبه، وقال له: في خير؟، ما جاء الشيخ إلا في حاجة؟!.

فقال له: نعم!. قال: ما هي؟. قال: ابن صورة.

قال: خذه، والله! ما أقدر أردك، ولولاك لكان له حال آخر. فخرج الشيخ فأخذه وانصرف.

قلت: وهو اليوم في مصر لإقراء أنواع العلوم الشرعية والعقلية، وعلم المعاني والبيان، والنحو والعربية، والإفتاء، وإفادة الطلبة، والإذن لنبهاء الفقهاء بالإفتاء، وإنشاء أهل العلم والتحصيل، حتى كثر عدد العلماء، واخضرّ به قلم الإفتاء، ولولاه لجفّ بموت من مات من العلماء، لأنه أذن لجماعة بمصر والشام وحلب، وتضرّم به وقود الأذهان والتهب.

وهو ممن قرأت عليه أصول الفقه، وعلم المعاني، والبيان. وممن أذن لي وأحسن، وجاد بما أمكن.

ولما رحل صاحبنا الشيخ الإمام الفاضل بدر الدين أبو عبد الله محمد الشبلي الحنفي «1» إلى الديار المصرية، كتبت إليه بسببه كتابا نسخته:-

ص: 238

" الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى- ومنهم واحد الدهر وكفى-.

سيدنا ومولانا، ومبصّرنا بمصالح آخرتنا وأولانا، ومتحفنا بما يقصّر منه عن شكرنا أولانا: السيد العالم الرباني «1» ، المكمّل لنقائص الصور والمعاني، المسلّك «2» على الطريقة، والمملك لأزمّة الحقيقة، قطب الأولياء «3» ، وارث الأنبياء، الإمام المجتهد المطلق، والبحر الزيد المطبق، الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والساعي يبلغ من مصالح الأمة في أدنى يوم ما يعجز في سنة، الحجة الواضحة، والمحجّة اللائحة، آخر المجتهدين، شمس الدنيا والدين، معلم المتكلّمين، إمام المتأخرين والمتقدمين:[البسيط]

سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد

ملء المسامع والأفواه والمقل «4»

لا زالت البصائر به منوّرة، والحدائق بسحبه منورة، والحقائق بعلمه

ص: 239

مصورة، والشرائع بذبّه «1» عن حوزتها مسوّرة «2» ، والبحار الزواخر في مغيض صدره مغوّرة، وشمس السماء بضياء شمسه مكوّرة، وأرض القدماء لدى رياضه اليانعة مبوّرة «3» ، ومنابت الخط إذا نظرت إلى ميامن قلمه تشاءمت بكعاب رماحه المدورة، ودول الأيام تسعد بخيالات أيامه المطوّرة، ولا برحت السيوف تعنو لهممه والسيوف تعزو النفع إلى كرمه، ولا فتيء فتي الدهر وشيخ أبنائه، ولا انفكّ أنف كل معاند راغما بسارّ أنبائه، ولا كان مكان فوق فرق الفرقد «4» إلا دون أدنى بنائه، حتى يلتحق بالزمرة السعداء، ويلقى الله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، خدم بها المملوك على قصوره وخضوع أبياته التي كان يتطاول بها في العلياء إلى شوامخ قصوره، مذكّرا بعبودية قديمة، لا يزال لها في كل حين بارقة على إطلاله. وقائلة «5» في ظلاله، وحائمة على زلاله، ومتشوّقة في آفاق الأقمار إلى مطلع هلاله، وملتفة إلى ما يغضّ الأبصار من بديع جلاله، مع وثوقه بأنه إن أغبّ «6» بتذكاره أو غاب، لا يلوي لحظه من سيده مطال «7» مطالب، ولا يغير عوائد تعوده وراب آرب، ولا يبرح له ذاكرا لا ينساه، ومؤانس له والدهر قليل المواساة، إلا صفوة إخوان بهم يبل الرمق، وقليل ما هم، ويقل القلق وهو كثير لولا هم، ومنهم السيد الأخ العزيز، الشيخ الجليل،

ص: 240

الإمام، العالم، الفاضل، الفقيه، المحدّث، المفنّن، مجموع الفضائل، فلان الماثل على حضرته المشرفة بها، والخائض إليها ظلم الليالي لا يبالي بجنح غيهبها «1» ، وهو على ما هو عليه من التحلي بالوفاء في الزمان الغادر، والاتصاف بالصفاء في وقت يبدو فيه الكدر، وأوله ما يبدو من الشفق المحمر في لج الصباح الزاخر، من ذوي الفضل المتعدّد، والعلم المتجدّد، والذهن الساطع، والرأي الصائب القاطع، واليد التي لم تقصر به في التصنيف، ولم تعذر بسببه فيها تهب المسامع التشنيف، هذا إلى ذهن شفّت سرائره، وعرفت أمائره «2» ، وتقى صلحت مضغة قلبه لتصلح سائره، وقد أمّ الآن الديار المصرية المحروسة التي هي الآن فلك شمسه وحضرة قدسه، وموضع ثمار العلماء من غرسه، وقد حمل ظمأه إلى بحره، وشقّ ظلمه إلى فجره، وجاب الفيافي في طلب العلم لديه، واشتمل ذيول الفجاج لحصول الأشمال عليه، وله أسوة بالعلماء الذين امتدت شمسه النيّرة نجومهم، وقدحت مشكاته المضيئة فهومهم، وأمطرت سحبه الروّيّة علومهم، وأطلق إذنه الشريف قلم فتاويهم، وشرف قدره المنيف لهمم معاليهم، ورعى إحسانه المطيف ذمم قصدهم، يقتحمون مناحل أيامهم، وجحافل لياليهم، وهو وإن لم يكن أظهر منهم استحقاقا، وأكثر لإحراز الفوائد استراقا، فما هو بدون جماعتهم، لا بأضعفهم طاقة عن جهة استطاعتهم، والمملوك ممن يثني بين يدي مولانا عليه باستحقاقه، ويصفه بما لا يقدر أحد فيه على شقاقه، وسيظهر له ما يزكي شهادة المملوك في الثناء على فضله والشكر له، وإن لم يكن المملوك من رجال هذا المقام، ولا من أهله، وإن لم يكن:

ص: 241

فقف وقفة قدامه تتعلّم «1»

وفي هذا كفاية ومقنع، وغاية وممتع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، انتهى.

وكنت كتبت على يده نسخة إذن له بالإفتاء، وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي رفع أقدار العلماء، ونقع بورد الشرائع غلل الظلماء، ورفع بصباح الحق المنير دجى الظلماء، ونصب أعلام الأئمة ليهتدى بهم كنجوم السماء.

نحمده على نعمه التي زينت بمجالس العلماء المعابد، وبيّنت فضل العلم إذ كان العالم الواحد أشد على الشيطان من ألف عابد.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تهتزّ بها الأقلام، وتعتزّ ألوية الأئمة الأعلام، وتبتزّ بأيدي حماتها حملة العلم ضوال الإسلام.

ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الذي هدى به من الأضاليل، وحمى من الأباطيل، وفضّله على الأنبياء، وجعل علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل «2» .

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمة الهدى، وأزمّة الندى، وتتمة كل خير يبتدأ، صلاة متصلة لا تنتهي إلى مدى، وسلم تسليما كثيرا. وبعد:

فلما كان مراد العلم أخصب ما انتجع، وزمان الطلب أحق ما يبكى على

ص: 242

فائته لو ارتجع، وهو الذي تشدّ إليه الرحال، وتجدّ إليه الرجال، وتمتطى إليه الهمم، ويخاض الليل وقتير الصباح ما دبّ في سواد اللمم، وتركب إليه الرياح، وتتخطى إليه الرماح، ولم يزل أهل الطلب تفارق فيه الكرى «1» ، وتشمّر الأهداب للسرى، وتنهض وقد أقعد الحرمان أكثر الورى، وتجول في طلبه الآفاق، وتجوب البلاد والنجوم في اللحاق، وتتفاوت في هذا ومثله رتب الطلب، وتتباين قصب العلم والطرب، ولأهل الحديث الشريف النبوي- زاده الله شرفا- في هذا الوسع مجال، وأنجع «2» ركائب تأتي عليها رجال عجال، ويزداد في توسع ذيل الارتحال، وتوسيع أردية الأصل قبل حط الرجال، من تفقّه في الدين وتنبه وما له خدين «3» ، واشتغل بمذهب أول الأئمة الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه حتى ودّ شقيق الشفق لو نسب إلى نعمانه، ورفيق أول السلف لو تأخّر إلى زمانه، وظهر من فضائله ما وضح وضوح النهار، وأظهر فضوح البحر وفي قلبه النار، وجدّل الأقران لما ناظر، وعلّل السّبب في رقة النسيم بلطائفه لما حاضر، وتفتّح في هذا المذهب المذهب، وأذكى ضرام فهمه فيه فكاد يتلهّب، من دلّه علمه على أن:" طلب العلم فريضة على كل مسلم"«4» ، وسبب السفور لجلاء كل مظلم، إذ كان العلم هو الذي يتماثل في وجوب طلبه المسلمون،

ص: 243

ويتفاضل في علوّ رتبه من قرأ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ

«1» .

وفي الحديث: (العلماء ورثة الأنبياء)«2» .

وقد جاء: (من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين)«3» .

وقال بعض السلف لرجل قال له: إلى متى يحسن بي التعلم؟.

قال: ما حسنت بك الحياة.

وطالب العلم نهم لا يشبع، ومغتنم لا يقنع، وإناء لا يمتلئ، ومجتهد لا يأتلي، فلما أخذ عن علماء بلده، ونفع بما منهله الغدير ولم يغترف غرفة بيده، لم يجد ذلك وإن كان البحر الزاخر ناقعا «4» لأوامه «5» ، ولا ذلك الخصب الممتد وإن أمرى نافعا لسوامه، ورأى أن تلك الرحاب الفساح في الطلب لا تسعه، وأن تلك المدد الطوال التي قضاها في التحصيل لا تقنعه، فأمّ مصر- حرسها الله تعالى- حيث هي المصر «6» الجامع، والأفق الذي تزينه من علمائه النجوم الطوالع. وأتى لا يريد إلا العلم ولقاء أهله، والزيادة منه لو وجد مزيدا في

ص: 244

فضله. فلم يدع غماما يستسقى ولا إماما عن مثله يتلقّى، ولا من يمتاح «1» له من قليب «2» ، ولا من يرتاح إليه على بعد فكيف والمزار قريب، حتى كادت ركائبه لا تنهض بما أوسقت «3» ، وسحائبه لا تبيض بما سقت، وكان" فلان" هو الذي استفاد وأفاد، وانتقى واستزاد، وضاهى في طلب العلم سري «4» الغمام، وباهى البدور الكوامل وزاد في التمام. الذي اقتحم الدجى لا ترهبه الأسنّة»

، ولافح الرياح لا تزاحمه الأعنّة «6» ، وفهم التنزيل فسكنت نفسه المطمئنة، وعلم الحديث فسلك به طريقا إلى العلم ليسلك الله له به طريقا إلى الجنة «7» .

طالما رفعت أعلام الدين بجداله الذي يمنع، وخضعت رؤوس الخصوم بجلاده الذي لا يمنع، ووضعت الملائكة أجنحتها له لأنه طالب علم رضى بما يصنع «8» .

وهو ممن حصّل من كلّ علم غاية أو طرفا، وحلّ كل علا وتبوّأ غرفا، وأجاد في

ص: 245

علم الفقه وتوجيهه، وعلم تشعّب طرقه ووجوهه، وعرف فيه وجوه الاختلاف ووجوب الائتلاف، ووجود المقتضي للترجيح، والمرتضى فيما يفتي به على الصحيح، ومن أين استنبطت الأدلّة، وعرف المعلول والعلّة. وتردّد إليّ، وقرأ عليّ، وبحث مع أفاضل العلماء لديّ، وناظر بحضوري أماثل الفقهاء، فملأ أذنيّ، وتكرر حضوره عندي، وظهر لي من مدده السحابي أن محلته لا تكدي.

ورأيته أهلا للإفتاء «1» والتدريس، والتصدير «2» ، وولاية المدارس، وغير ذلك، مما ينافس فيه من هذه الرتب العليّة المنافس.

وقد استخرت الله، وأذنت له أن يطلق قلمه بالإفتاء، ويلحق بشأو «3» الكهول في سن الفتاء «4» ، وأن يرشد الضّلّال ويرشف من قلمه الزلال، ويتصدّر لإشغال الطلبة ونشر الفقه على ما يوافق في النصّ والقياس مذهبه، واقفا فيما يفتي به عند الصحيح الراجح والحق الواضح، والذي عليه نص مذهب إمامه الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه، وأصحابه مما عليه الفتوى، وعلى ما ترشد إليه.

ومما أوصيه به من التقوى متيقنا أنه- أطال الله عمره- يموت ويبقى ما كتبت يداه، وأن الفتيا إذا خرجت من يده ربما وقعت في أيدي عداه. ثم إن الله سيسأله عما كتب، فليعدّ قبل أن يجيب على الفتوى الجواب، وليعد النظر مما

ص: 246

يكتب به فمن أعاد النظر لم يعدم الصواب. والله تعالى يمدّ له أجلا يسري به في ليل الشبيبة حتى يرى صباح المشيب، ومهلا لا تجف لأنديته ضرع ندي، ولا يخمد لهيب، وأن يبقيه خلفا في الإسلام، وما ذلك من عوائد كرم الله بعجيب، والمسؤول من الله أن يوفّق ولاة الأمور- أعزّهم الله بعزّ طاعته، وصرف كلّا منهم في الخير وسع استطاعته- لإعلاء قدره، واستجلاء بدره، واستملاء ما يكنّه من العلم الجمّ في صدره، وأن يكثروا به في هذا الزمان عدد الفضل القليل، ويأثروا منه الأثر الجميل، ويقدموا منه مستحقا لو أجالوا الفكر لم يجدوا مثله في هذا الجيل، ليصلوا به حبلا لولا مثل هذا في كل أوان لانقرض، ويقيموا بنيانا لولا شبه هذا في كل مكان لا نتقض «1» ، وينظروا لآخر الأمة في مدّ مدد العلم الذي لولا بقية العلماء- وهذا منهم- لم يخض".

فلما وصلت إليه تلقّاها بالقبول، وكتبها بخطه إذنا له بالفتوى، وكتب إليّ جوابه؛ فأجبته بما صورته:

" يقبّل الباسط «2» الأشرف «3» ، الطاهر «4» ، الزكيّ «5» ، المولويّ، السيدي،

ص: 247

الإماميّ، العلّامي، العامليّ «1» ، الفريديّ «2» ، الأوحديّ «3» ، الحجّيّ «4» ، المسلّكيّ «5» ، المخدوميّ «6» ، الشيخيّ، الشمسيّ، علم الأعلام «7» ، شيخ مشايخ

ص: 248

الإسلام «1» ، مفيد «2» أهل مصر والعراق والشام، فرد الوجود «3» ، ورد الجود، منشئ العلماء والمفتين، إمام المتكلّمين «4» ، سيف الحق «5» ، ملجأ الخلق، جامع الطرق «6» ، شمس الأفق «7» ، ولي أمير المؤمنين «8» ، لا زالت الأيام رافلة في حبره، والأقلام ناقلة لخبره، والأعلام الشوامخ، متضائلة لدى كبره، والكرام تعترف بفضله الذي تعدّ معه عبرة الغمام من عبره، والأحكام لا تطبع حديد مواضيها

ص: 249

إلا من زبره «1» ، والسهام لا تقطع آراؤها الصائبة قطع سيوفه، ولا تحزّ حزّ إبره، تقبيلا يؤدي حقّ شكره، ويوفي بعض نذره، ويولي القبل قبلة إحسانه، ويوصي بنيه بأداء ما في ذمّته وفرضه، وعجز عن ذكره بلسانه، وينهي ورود المثال العالي، فقام المملوك له ووقف على قدمه، ووقف لديه معرضا لخدمه، ونظر إليه فبهت، وحاول شكر أدنى معروفه فصمت، واستظلّ بظل غمامته، واستقلّ سرورا بسلامته، واستقبل الدهر برفع ملامته، وتأمل كرمه ومدّ يده إلى مدامته، وأفضى منه إلى فضاء ملؤه الكرم، ورسيله البحر وتلوه الدّيم «2» ، فترامى المملوك عليه، وكرع في غدير تلك الصحيفة وأمن به، وقد أوجس»

البرق في نفسه خيفة، وبايع مؤديه الرشيد لما رأى لمهدي مهديّه خليفة، وقلب وجهه في سماء ذلك السماح، وقلبه في سراء تلك المواهب التي لو جاراها البحر قالت له: إياك والطّماح «4» ، وجبنه في نعماء تلك النعم التي خطت إليها الرياح وتخطّت الرماح، واستبق مضمونه، ولسان محضره في وصف ندي عهده وكرم لم يزل يعد منه يدا مجدده، وهدى فرق به النحر لما أبصر فرقده، ومعروف ما برحت تعرف به الأعلام، وتصرف بالفتاوى الأقلام، وتشرف القبل بالتهاوي إلى مواطن الأقدام، وتلك صدقات مولانا التي شملت من شهد علمه الشريف باستحقاقه، ولهذا أطلق فيه رسن قلمه، ونبّه له، وسن طرفه من حلمه، وأذن له في الإفتاء الذي آن لأن يشرق في أفقه بدره الطالع، ويشرق «5» بغصص حدّه

ص: 250

عدوه الطامع، فجاء مسرورا من كريم جنابه، محبورا بإحسانه بعد أن حظي بالمثول في فنائه الرحيب، وأحسن عن المملوك في منابه المولى الشيخ الفقيه، الإمام العالم، الكامل الفاضل، الحافظ المحدّث، المتقن المتفنّن، العلامة، أوحد العلماء، جمال أهل الإفتاء «1» ، فخر المحدّثين «2» ، شمس العصر، بدر الدين الشبلي- زاده الله فضلا- ولله «3»

هو من مستحق قدم مولانا منه إماما، وأمطر طلبه العلم به غماما، وناوله قلم الإفتاء وكثر عدد العلماء به وقد قلّوا، وأرشد السواد الأعظم ببدره الطالع، ولولاه لضلّوا، وأهّل الصدور التصدير منه من مطويّ علمه المحاريب إحناء ضلوعها، وتجري السماء إذ لم تر مثله أعين دموعها، ووصل ووصف وأراه ما كساه فما ظن إلا أنه عليه من ورق الجنة قد خصف، وذكر وشكر، وما جاء إلا بالمعنى المتداول مما أجمع الناس عليه من إحسان مولانا وهو يظن أنه قد ابتكر، وقال وقال، وهيهات أن تبلغ البلاغة أو تحيط الفكر، وناول المملوك المثال العالي «4» الذي لا مثال له إلا ما كتبه كاتب اليمين، وذهّبه موقد جمر الشّفق وكابت به الدر الثمين، وقبّله وسابق نهب اللاثمين، وحلا بما

ص: 251

تضمّنه وإذا بالبحار الزواخر والرياض الزواهر، والسّحب إلا أنها سحب نيسان التي تولد الجواهر، والله الله في مسامحة المملوك في قصور هذا التمثيل، وفتور هذا التشبيه الذي كم له مثيل لشيء ما له مثيل، ولقد وقع هذا الإحسان بموقع من المملوك، وعمّ سائر القلوب وعدّ فضل النعم به إلا أنه غير محسوب، وأرى المملوك زمان مثوله بين يدي سيده حيث المزار قريب، والزمان عزّ ولولا هذا لم يكن صنعه الميل بغريب، ولقد رام المذكور على طلاقة لسنه، وامتداد رسنه، وقدرته على الكلام وكثرة حسنه، أن يعرّف المملوك بما أولاه من منه المنوعة فما قدر ولا زاد على أنه اعترف أنه لا يطيق واعتذر، وها هو الآن قد تصدّى لما أخذ عن مولانا علمه، وحرّك له عزمه، وأحيا الله به موات أموات هذا المذهب، واستعاد فوات ما لو لم يدرك مولانا بقية آخر رمقه بهذا ومثله من العلماء لكاد أن يذهب.

وألسنة أهل دمشق كلها بالأدعية لمولانا موليهم هذه النعمة بسببه ناطقة، وبضائع صنائع مولانا في سوق شكرهم نافقة. والمملوك عنهم المترجم، ولإدلاله قد طال ويقبّل تقبيل المتهجّم، والمملوك يستعرض المراسم العالية التي هو طوالع السعود لا ما يدّعيه المنجّم، لا رحت طلبته مثرية المطالب، مورية الهدى في الغياهب «1» ، مجرية الأقلام بالإفتاء، وفي آثارها ولا يلحق زمن الكواكب".

ص: 252