الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
21- ابن الخطيب الرّازيّ، ابن خطيب الرّيّ، وهو: محمّد بن عمر بن الحسين، أبو عبد الله- الإمام فخر الدّين
«13»
حبر الأعلام، وبحر الكلام، طالما أغضّ المناظر، وخصّ بالعجب كل ناظر، وقطف الكلام منوّرا، وجلا سدف «1» الظلام منورا، ونظر في كل فنّ، وحضر له تحقيق في كل ظن، وجاء بحلية المناقب، وزينة النجوم الثواقب، وطاب بذكره
كل سمر، وصدق منه حديث ابن عمر.
هذا إلى توقير الملوك لجنابه، وتوفير خاطره الذي لو شاء لجنى به، وتعظيم حلّ به الذّرى، وحلّي ببعضه الورى، وخلى سهلا ما بين الثريا والثرى، لعلم قصّر من لببه، ومسك الناس بسببه، وجال ما بين الخافقين وجاب به، فامتدت الجداول من منبعه، وعدّت يد الأنواء دون إصبعه، وسرى صيته والرياح رواكد، وشرّق في البلاد وغرّب والنجوم إلى الصباح رواصد، وقطع في التصانيف النافعة شقق الأيام العريضة، وجعل جناح النسر في الليالي الطوال مثل جناح البعوضة، حتى طافت الأقطار وطارت في كل مطار، وهاهي الآن ملتزمة في الأيدي مثل خطوط الراح، وفي نظر العيون مثل فلق الصباح.
وحدّثني شيخنا قاضي القضاة جلال الدين القزويني «1» - وقد جرى ذكره- قال: كانت الملوك تتقي حدّ لسانه، حتى احتاج صاحب الألموت إلى إعمال الحيلة في مداراته، وتسبب لمال قبله منه، وأخافه لاستصلاح خاطره، لأنه كان لا يزال يبحث في فساد عقيدته، وتزييف أقواله، فينفر الناس عن دعاته، ويرد بالحرمان مساعي سعاته.
وإذا كان هذا فعله بصاحب الألموت، وهو الذي كان من عاداه يموت، فكيف
كان من يتهيّب الآجال، وما عنده إلا نساء في زيّ رجال؟!.
ذكره ابن أبي أصيبعة فقال:" أفضل المتأخرين، وسيد الحكماء المتقدمين «1» ، قد أشرعت سيادته، واشتهرت في الآفاق مصنفاته وتلامذته، وكان إذا ركب يمشي حوله ثلاثمائة تلميذ من الفقهاء، وغيرهم. وكان خوارزم شاه يأتي إليه.
وكان ابن الخطيب شديد الحرص على تحصيل العلوم الشرعية والحكمية.
جيد الفطرة، حادّ الذهن، حسن العبارة، كثير البراعة، قويّ النظر في منازع الطب «2» ومباحثه، عارفا بالأدب وشعوبه، وله شعر بالعربي والفارسي.
وكان عبل «3» البدن، ربع القامة، كبير اللحية، وكان في صوته فخامة. وكان يخطب في بلده الري، وغيرها من البلاد، ويتكلم على المنبر بأنواع من الحكمة.
وكان الناس يقصدونه من البلاد، ويهاجرون إليه من كل ناحية على اختلاف مطالبهم في العلوم، وتفننهم فيما يشتغلون به، فكان كل منهم يجد عنده النهاية القصوى فيما يرومه «4»
وكان الإمام فخر الدين قد قرأ الحكمة على مجد الدين الجيلي، بمراغة، وكان مجد الدين هذا من الأفاضل العظماء في زمانه، وله تصانيف جليلة «5»
وحكى لنا القاضي شمس الدين الخوئي، عن الشيخ فخر الدين ابن الخطيب أنه قال: والله إني لأتأسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل، فإن الوقت والزمان عزيز «6»
وحدثني محيي الدين قاضي مرند «1» قال: كان الشيخ فخر الدين بمرند أقام بالمدرسة التي كان أبي مدرّسها، وكان يشتغل عنده بالفقه، ثم اشتغل بعد ذلك لنفسه بالعلوم الحكمية، وتميّز حتى لم يكن أحد يضاهيه، واجتمعت به أيضا بهمدان [وهراة]«2» ، واشتغلت عليه.
قال: وكان لمجلسه جلالة عظيمة، وكان يتعاظم حتى على الملوك، وكان إذا جلس للتدريس يكون قريبا منه جماعة من تلاميذه الكبار، مثل: زين الدين الكشي، والقطب [المصري]«3» ، وشهاب الدين النيسابوري، ثم يليهم بقية التلامذة، وسائر الخلق على قدر مراتبهم، فكان من يتكلم في شيء من العلوم يباحثونه أولئك التلامذة الكبار، فإن جرى بحث مشكل أو معنى غريب شاركهم الشيخ فيما هم فيه، ويتكلم في ذلك المعنى بما يفوق الوصف «4» وحدّثني شمس الدين محمد الوتار الموصلي قال: كنت في بلد هراة «5» في سنة ست وستمائة، وقد كان قصدها فخر الدين ابن الخطيب من بلد" باميان"«6» وهو في أبّهة عظيمة، وحشم كبير، فلما ورد إليها تلقّاه السلطان
بها، وهو حسين بن خرمين، وأكرمه إكراما كثيرا، ونصب له بعد ذلك منبرا وسجادة في صدر الإيوان «1» ليجلس في ذلك الموضع، ويكون له يوم مشهود يراه فيه سائر الناس، ويسمعون كلامه. وكنت ذلك اليوم حاضرا مع جماعة من الناس، وإلى جانبي شرف الدين ابن عنين «2» ، الشاعر- رحمه الله، وذلك المجلس حفل جدا بكثرة الناس، والشيخ فخر الدين في صدر الإيوان، وعن جانبيه يمنة ويسرة صفان من مماليكه الترك متكئين على السيوف، وجاء إليه السلطان حسين بن خرمين- صاحب هراة- فسلّم، وأمره الشيخ بالجلوس إلى جانبه، أو قريبا منه، وجاء إليه أيضا السلطان محمود ابن أخت شهاب الدين الغوري صاحب فيروز كوه «3» فسلّم، وأشار إليه الشيخ بالجلوس في موضع آخر قريبا
منه من الناحية الأخرى، وتكلم الشيخ في النفس بكلام عظيم، وفصاحة بليغة.
قال: وبينما نحن عنده في ذلك الوقت، وإذا بحمامة تدور في الجامع، وخلفها صقر يكاد أن يقتنصها، وهي تطير في جوانب الجامع، إلى أن أعيت، فدخلت الإيوان الذي فيه الشيخ، ومرت طائرة بين الصفين إلى أن رمت بنفسها عنده. فذكر لي شرف الدين ابن عنين أنه عمل شعرا على البديهة، ثم نهض لوقته واستأذنه في أن يورد ما قاله في المعنى. فأمره الشيخ [بذلك] فقال:[الكامل]
جاءت سليمان الزمان بشكوها «1»
…
والموت يلمع من جناحي خاطف
من نبّأ الورقاء أن محلّكم
…
حرم «2» وأنك ملجأ للخائف؟
فطرب لها الشيخ فخر الدين، وأدناه وأجلسه قريبا منه، وبعث إليه بعد ما قام من مجلسه خلعة كاملة، ودنانير كثيرة، وبقي دائما يحسن إليه.
قال لي شمس الدين الوتّار: لم ينشد قدامي لابن خطيب الري سوى هذين البيتين، وإنما بعد ذلك زاد فيها أبياتا أخر، هذا قوله.
وقد وجدت هذه الأبيات المزادة في ديوانه على هذا المثال: [الكامل]
يا ابن الكرام المطعمين إذا شتووا
…
في كل مخمصة وثلج خاشف «3»
العاصمين إذا النفوس تطايرت
…
بين الصوارم والوشيج الراعف
من نبّأ الورقاء أن محلّكم
…
حرم وأنك ملجأ للخائف
وفدت إليك وقد تدانى حتفها
…
فحبوتها ببقائها المستأنف
ولو انها تحبى بمال لانثنت
…
من راحتيك بنائل متضاعف
جاءت سليمان الزمان بشكوها
…
والموت يلمع من جناحي خاطف
قرم «1» لواه القوت حتى ظلّه
…
بإزائه يجري بقلب واجف «2»
قال: ومما حكاه شرف الدين ابن عنين أنه حصل من جهة فخر الدين ابن خطيب الري، وبجاهه، في بلاد العجم نحو ثلاثين ألف دينار.
وقال: ومن شعره فيه قوله، وسيّرها إليه من نيسابور إلى هراة:[الكامل]
ريح الشمال عساك أن تتحمّلي
…
خدمي إلى صدر الإمام الأفضل
وقفي بواديه المقدس وانظري
…
نور الهدى متألّقا لا يأتلي «3»
من دوحة فخرية عمرية
…
طابت مغارس مجدها المتأثّل «4»
مكيّة الأنساب زاك أصلها
…
وفروعها فوق السماك الأعزل «5»
واستمطري جدوى لديه فطالما
…
خلف الحيا في كل عام ممحل «6»
تغدو سحائبها تعمّ كما بدت «7»
…
لا يعرف الوسمي منها والولي «8»
بحر تصدّر للعلوم ومن رأى
…
بحرا تصدّر قبله في محفل؟
ومتيم «1» في الله يسحب للتقى
…
والدين سربال «2» العفاف المسبل
ماتت به بدع تمادى عمرها
…
دهرا وكان ظلامها لا ينجلي
فعلا به الإسلام أرفع هضبة
…
ورسا سواه في الحضيض الأسفل
غلط امرؤ بأبي عليّ «3» قاسه
…
هيهات قصّر عن مداه أبو علي
لو أن رسطاليس «4» يسمع لفظة
…
من لفظه لعرته هزّة أفكل «5»
ويحار بطليموس لو لاقاه من
…
برهانه في كل شكل مشكل «6»
فلو انهم جمعوا لديه تيقّنوا
…
أن الفضيلة لم تكن للأول
وبه يبيت الحلم معتصما إذا
…
هزّت رياح الطيش صفحة «7» يذبل «8»
يعفو عن الذنب العظيم تكرما
…
ويجود مسئولا وإن لم يسأل
أرضى الإله بفضله ودفاعه
…
عن دينه وأقرّ عين المرسل
يا أيها المولى الذي درجاته
…
ترنو إلى فلك الثوابت من عل
ما منصب إلا وقدرك فوقه
…
فبمجدك الساميّ يهنى ما تلي
فمتى أراد الله رفعة منصب
…
أفضى إليك فنال أشرف منزل
لا زال ربعك «1» للوفود محطة «2»
…
أبدا وجودك كهف كل مؤمّل «3»
وحدثني نجم الدين يوسف بن شرف الدين علي بن محمد الأسفراييني قال:
وكان الشيخ الإمام ضياء الدين عمر- والد الإمام فخر الدين- من الري، وتفقّه، واشتغل بعلم الخلاف «4» والأصول، حتى تميّز تميّزا كثيرا، وصار قليل المثل. وكان يدرّس بالري، ويخطب في أوقات معلومة هنالك، ويجمع عنده خلق كثير من حسن ما يورده في نطقه وبلاغته، حتى اشتهر بذلك بين الخاص والعام في تلك النواحي، وله تصانيف عدة توجد في الأصول، والوعظ، وغير ذلك. وخلّف ولدين أحدهما الإمام فخر الدين، والآخر: هو الأكبر سنا كان يلقب بالركن، وكان هذا الركن قد قرأ شيئا من الخلاف، والفقه، والأصول، إلا أنه كان أهوج كثير الاختلال، فكان أبدا لا يزال يسير خلف أخيه الإمام فخر الدين، ويتوجه إليه في أي بلد قصده، ويشنّع عليه، ويسفّه المشتغلين بكتبه، والناظرين في أقواله، ويقول: ألست أكبر منه؟ وأكثر معرفة بالخلاف والأصول؟، فلم يقول الناس فخر الدين، فخر الدين!!. ولا أسمعهم يقولون: ركن الدين، ركن الدين؟. وكان ربما صنف شيئا بزعمه، ويقول: هذا من كلام فخر الدين، والجماعة يعجبون منه، وكثير منهم يصفونه ويهزؤون منه.
وكان الإمام فخر الدين كلما بلغه شيء من ذلك صعب عليه، ولم يؤثر أن
أخاه بتلك الحالة، ولا أحد يسمع قوله. وكان دائم الإحسان إليه، وربما يسأله المقام في الري، أو في غيره، وهو يتفقده، ويصله بكل ما يقدر عليه، فكان كلما سأله ذلك يزيد في فعله، ولا ينقص من حاله، ولم يزل كذلك لا ينقطع عنه، ولا يسكت عما هو فيه إلى أن اجتمع الإمام فخر الدين بالسلطان خوارزم شاه، وأنهى إليه حال أخيه، وما يقاسي منه، والتمس منه أن يتركه في بعض المواضع، ويوصي عليه أن لا يمكّن من الخروج والانتقال عن ذلك الموضع، وأن يكون له ما يقوم بكفايته من كل ما يحتاج. فجعله السلطان في بعض القلاع التي له، وأطلق له إقطاعا يقوم به كل سنة بما مبلغه ألف دينار، ولم يزل هناك مقيما حتى قضى الله فيه أمره «1» .
قال: وكان الإمام فخر الدين علّامة وقته في كل العلوم، وكان الخلق يأتون إليه من كل ناحية، وكان الخطيب أيضا بالري، وكان له مجلس عظيم للتدريس، فإذا تكلم بزّ القائلين، وكان عبل البدن باعتدال، عظيم الصدر والرأس، كثّ اللحية، ومات وهو في سن الكهولة، أشمط «2» شعر اللحية، وكان كثيرا ما يذكر الله تعالى ويستغفره، ويسأله الرحمة والقبول، والتجاوز عن زلله، ويقول:
إنني حصلت من العلوم ما يمكن تحصيله بحسب الطاقة البشرية، وما بقيت أوثر إلا لقاء الله تعالى، والنظر إلى وجهه الكريم.
قال: وخلّف فخر الدين ولدين ذكورا؛ أكبرهما: يلقب بضياء الدين، وله اشتغال ونظر في العلوم. والآخر:- وهو الصغير- لقبه: شمس الدين، وله فطرة فائقة، وذكاء حاذق، وكان كثيرا ما يصفه الإمام فخر الدين بالذكاء ويقول:" إن عاش هذا فإنه يكون أعلم مني! ". وكانت النجابة تتبين فيه من الصغر.
ولما توفي الإمام فخر الدين بقيت أولاده مقيمين في هراة، ولقب ولده الصغير بعد ذلك فخر الدين، لقب والده. وكان الوزير علاء الملك العلوي متقلدا لوزارة السلطان خوارزم شاه، وكان علاء الملك عالما فاضلا متقنا لعلوم الأدب، ويشعر «1» بالعربية والفارسية، وكان قد تزوج بابنة الشيخ فخر الدين، ولما جرى أن" جنكيز خان" ملك التتار قهر خوارزم شاه، وكسره، وقتل أكثر عسكره، وفقد خوارزم شاه، توجه علاء الملك قاصدا إلى جنكيز خان، ومعتصما به، فلما وصل إليه أكرمه، وجعله من جملة خواصّه.
وعندما استولى التتار على بلاد العجم، وخربوا قلاعها ومدنها، وكانوا يقتلون في كل مدينة من بها، ولا يبقون أحدا بها. تقدم علاء الملك إلى جنكيز خان، وقد توجّهت فرقة من عساكره إلى مدينة هراة، ليخربوها، ويقتلوا من بها.
فسأله أن يعطيه أمانا لأولاد الشيخ فخر الدين ابن خطيب الري. وأن يجيئوا بهم مكرّمين إليه. فوهب لهم ذلك وأعطاهم أمانا. ولما ذهب أصحابه إلى هراة وشارفوا أخذها، نادوا فيها بأن لأولاد فخر الدين ابن الخطيب الأمان، فلينعزلوا ناحية في مكان، ويكون هذا الأمان معهم.
وكان في هراة دار الشيخ فخر الدين هي دار السلطنة، كان خوارزم شاه قد أعطاها له، وهي أعظم دار تكون وأكبرها، وأبهاها زخرفة واحتفالا. فلما بلغ أولاد فخر الدين ذلك أقاموا بها مأمونين، والتحق بهم خلق كثير من أهاليهم، وأقربائهم، وأعيان الدولة، وكبراء البلد، وجماعة كثير من الفقهاء، وغيرهم، ظنا أن يكونوا في أمان لاتصالهم بأولاد فخر الدين، ولكونهم خصيصين بهم، وفي دارهم، وكانوا خلقا عظيما. فلما دخل التتار إلى البلاد وقتلوا من وجدوا بها، وانتهوا إلى الدار، نادوا بأولاد فخر الدين أن يروهم. فلما شاهدوهم أخذوهم
وهم: ضياء الدين، وشمس الدين، وأختهم. ثم شرعوا بسائر من كان في الدار، فقتلوهم عن آخرهم بالسيف، وتوجهوا بأولاد الشيخ فخر الدين من هراة إلى سمرقند، لأن ملك التتار جنكيز خان في ذلك الوقت بها، وعنده علاء الملك.
قال: ولست أعلم ما تم لهم بعد ذلك.
قال: وكان أكثر مقام الشيخ- رحمه الله تعالى- بالري، وتوجه أيضا إلى بلد خوارزم، ومرض بها، وتوفي في عقابيله ببلدة هراة.
وأملى في شدة مرضه وصية على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصفهاني، وذلك في يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر المحرم سنة ست وستمائة، وامتدّ مرضه إلى أن توفي يوم العيد غرة شوال من السنة المذكورة.
وانتقل إلى جوار ربه- رحمه الله تعالى-، وهذه نسخة الوصية:
بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وهو في آخر عمره وعهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، وهو الوقت الذي يلين فيه كل قاس، ويتوجّه إلى مولاه كل آبق: إني أحمد الله تعالى بالمحامد التي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات مشاهدتهم «1» ، بل أقول كل ذلك من نتائج الحدوث والإمكان.
فأحمده بالمحامد التي تستحقها إلاهيته «2» ، ويستوجبها لكمال ألوهيته،
عرفتها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب مع جلال رب الأرباب.
وأصلي على الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله الصالحين، ثم أقول بعد ذلك:
اعلموا إخواني في الدين، وإخواني في طلب اليقين!، أن الناس يقولون إن الإنسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخلق، وهذا العام مخصوص من وجهين:
الأول: أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سببا للدعاء، والدعاء له أثر عند الله تعالى.
والثاني: ما يتعلق بمصالح الأطفال، والأولاد، والمعارف، وأداء المظالم والجنايات.
أما الأول: فاعلم أنني كنت رجلا محبا للعلوم، فكنت أكتب في كل شيء شيئا لا أقف على كميته، وكيفيته، سواء كان حقا أو باطلا، أو غثا، أو سمينا.
إلا أن الذي نظرته في الكتب المعتبرة لي أن هذا العالم محسوس تحت تدبير مدبّر منزّه عن مماثلة المتحيزات، والأعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة.
وقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن [العظيم] ، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك الأودية العميقة، والمناهج الخفية، فلهذا أقول:-
كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم، والأزلية، والتدبير، والفعالية، فذاك هو الذي أقول به، وألقى الله تعالى به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فكل ما ورد في
القرآن، والأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأمة، المتبعين للمعنى الواحد، فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين! إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فلك ما مرّ به قلمي «1» ، وخطر ببالي، فأستشهد علمك، وأقول: إن علمت مني أني أردت به تحقيق باطل، أو إبطال حق، فافعل بي ما أنا أهله. وإن علمت مني أني ما سعيت إلا في تقرير ما اعتقدت أنه هو الحق، وتصوّرت أنه هو الصدق، فلتكن رحمتك معي، فذلك جهد المقل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في الزلة. فأعني، وارحمني، واستر زلتي، وامح حوبتي، يا من لا يزيد ملكه عرفان العارفين، ولا ينتقص بخطإ المجرمين!.
وأقول: ديني متابعة سيد المرسلين محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. وكتابي: هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما.
اللهم! يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا مقيل العثرات، ويا راحم العبرات، ويا قيّام المحدثات والممكنات!!، أنا كنت حسن الظن بك، عظيم الرجاء في رحمتك، وأنت قلت:(أنا عند ظن عبدي بي)«2»
وأنت قلت: [أمّن يجيب المضطر إذا دعاه]«1»
وأنت قلت: [وإذا سألك عبادي عني فإني قريب]«2» .
وهب أني ما جئت بشيء فأنت الغني الكريم، وأنا المحتاج اللئيم، وأعلم أنه ليس لي أحد سواك، ولا أجد أكرم منك، ولا أجد محسنا سواك، وأنا معترف بالزلة والقصور، والعيب والفتور، فلا تخيب رجائي، ولا تردّ دعائي، واجعلني آمنا من عذابك قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت، وسهّل عليّ سكرات الموت، ولا تضيّق عليّ سبب الآلام والأسقام، فأنت أرحم الراحمين".
وأما الكتب العلمية التي صنفتها، أو استكثرت من إيراد السؤالات على المتقدمين فيها؛ فمن نظر في شيء منها، فإن طابت له تلك السؤالات فليذكرني في صالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وليحذف القول السيئ، فإني ما أردت إلا تكثير البحث، وتشحيذ الخواطر، والاعتماد في الكل على الله تعالى.
وأما المهم الثاني: وهو إصلاح أمر الأطفال، والعورات، والاعتماد فيه على الله تعالى، ثم على نائبه في أرضه السلطان محمد- اللهم اجعله قرين محمد الأكبر في الدين والعلو- إلا أن السلطان الأعظم لا يمكنه أن يشتغل بمهمات الأطفال، فرأيت أن أفوّض وصاية ولديّ إلى- فلان- وأمرته بتقوى الله تعالى، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" وسرد الوصية إلى آخرها «3»
ثم قال: وأوصيه، ثم أوصيه، ثم أوصيه بأن يبالغ في تربية ولدي أبي بكر، فإن آثار الذكاء والفطنة ظاهرة عليه، ولعلّ الله تعالى يوصله إلى خير.
وأمرته وأمرت تلامذتي وكل من لي عليه الحق، أني إذا متّ يبالغون في إخفاء موتي، ولا يخبرون أحدا به، ويكفنوني، ويدفنوني على الوجه الشرعي، ويحملونني إلى الجبل المصاقب لقرية مزداخان «1» ، ويدفنوني هناك، وإذا وضعوني في اللحد قرؤوا عليّ ما قدروا عليه من الهبات القرآن، ثم ينثرون عليّ التراب بعد الإتمام، ويقولون: يا كريم! جاءك الفقير المحتاج إليك، فأحسن إليه".
وهذا منتهى وصيتي من هذا الباب، والله تعالى الفعّال لما يشاء وهو على ما يشاء قدير، وبالإجابة وبالإحسان جدير".
ومن شعر فخر الدين ابن الخطيب: أنشدني بديع الدين البندهي مما سمعه من الشيخ فخر الدين ابن خطيب الري لنفسه، فمن ذلك قال:[الطويل]
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في غفلة من جسومنا
…
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا
وكم قد رأينا من رجال ودولة
…
فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها
…
فزالوا جميعا والجبال جبال «2»
وقال [الطويل]
فلو قنعت نفسي بميسور بلغة
…
لما سبقت في المكرمات رجالها
ولو كانت الدنيا مناسبة لها
…
لما استحقرت نقصانها وكمالها
ولا أرمق الدنيا بعين كرامة
…
ولا أتوقّى سوءها واختلالها
وذلك أني عارف بفنائها
…
ومستيقن ترحالها وانحلالها
أروم أمورا يصغر الدهر عندها
…
وتستعظم الأفلاك طرا وصالها
وقال أيضا [البسيط]
أرواحنا ليس ندري أين مذهبها
…
وفي التراب توارى هذه الجثث
كون يرى وفساد جاء يتبعه
…
الله أعلم، ما في خلقه عبث «1»