الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَيَّ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَوْ ارْتَشَيْتَ وَنَحْوَهُ) كَ ظَلَمْتَنِي بِضَرْبٍ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةٍ وَحَبْسٍ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ (وَلَوْ لَمْ يُثْبِتْ) افْتِيَاتُهُ عَلَيْهِ (بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّ فِي تَوَقُّفِهِ عَلَى الْإِثْبَاتِ حَرَجًا، وَرُبَّمَا يَكُونُ ذَرِيعَةً لِلِافْتِيَاتِ (وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ) لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (وَلَهُ أَنْ يَنْتَهِرَهُ إذَا الْتَوَى) عَنْ الْحَقِّ لِئَلَّا يَطْمَعَ فِيهِ.
[فَصْلٌ يُسَنُّ لِلْقَاضِي أَنْ يُحْضِرَ مَجْلِسَهُ فُقَهَاءَ الْمَذَاهِبِ وَمُشَاوَرَتُهُمْ]
فَصْلٌ (وَيُسَنُّ لِقَاضٍ أَنْ يُحْضِرَ مَجْلِسَهُ فُقَهَاءَ الْمَذَاهِبِ وَمُشَاوَرَتُهُمْ فِيمَا يُشْكِلُ) إنْ أَمْكَنَ، وَسُؤَالُهُمْ إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ لِيَذْكُرُوا جَوَابَهُمْ وَأَدِلَّتَهُمْ فِيهَا؛ فَإِنَّهُ أَسْرَعُ لِاجْتِهَادِهِ وَأَقْرَبُ لِصَوَابِهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قَالَ الْحَسَنُ إنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَغَنِيٌّ عَنْ مُشَاوَرَتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ ذَلِكَ الْحَاكِمُ بَعْدَهُ.
(قَالَ) الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه لَمَّا وُلِّيَ سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ كَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ يُشَاوِرُهُمَا، وَوُلِّيَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَضَاءَ الْكُوفَةِ، فَكَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ يُشَاوِرُهُمَا (مَا أَحْسَنَهُ لَوْ فَعَلَهُ الْحُكَّامُ يُشَاوِرُونَ وَيَنْظُرُونَ)، فَإِنْ اتَّضَحَ لَهُ الْحُكْمُ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ فَوْرًا وَلَا: اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ (وَإِلَّا) يَتَّضِحُ لَهُ الْحُكْمُ أَخَّرَهُ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الْحَقُّ؛ فَيَحْكُمَ بِهِ.
(وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ) إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا (تَقْلِيدُ غَيْرِهِ وَلَوْ أَعْلَمَ مِنْهُ) لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ. نَقَلَ ابْنُ الْحَكَمِ: عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ. قَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ، وَلَوْ كَانَ حَكَمَ بِحُكْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ هَذَا.
(قَالَ) الْإِمَامُ أَحْمَدُ (لَا تُقَلِّدْ أُمُورَك أَحَدًا غَيْرَكَ وَعَلَيْكَ بِالْأَثَرِ) وَقَالَ لِلْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ: لَا تُقَلِّدْ دِينَكَ الرِّجَالَ؛ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْلَمُوا أَنْ يَغْلَطُوا (فَإِنْ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ افْتِيَاتًا عَلَيْهِ (إلَّا إنْ خَالَفَ نَصًّا) مِنْ
كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ آحَادًا (أَوْ إجْمَاعًا) لِوُجُوبِ إنْكَارِهِ وَنَقْضِ حُكْمِهِ بِهِ.
(وَلَوْ حَكَمَ وَلَمْ يَجْتَهِدْ؛ لَمْ يَصِحَّ حُكْمُهُ، وَلَوْ أَصَابَ الْحَقَّ) إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.
(وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ كَثِيرًا) لِخَبَرِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا حَمَلَهُ الْغَضَبُ عَلَى الْجَوْرِ فِي الْحُكْمِ، بِخِلَافِ غَضَبٍ يَسِيرٍ لَا يَمْنَعُ فَهْمَ الْحُكْمِ هُوَ (أَوْ حَاقِنٌ) أَوْ حَاقِبٌ (أَوْ فِي شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ هَمٍّ أَوْ مَلَلٍ أَوْ كَسَلٍ أَوْ نُعَاسٍ أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ) أَوْ تَوَقَانِ جِمَاعٍ أَوْ شِدَّةِ (مَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ فَزَعٍ) غَالِبٍ أَوْ حُزْنٍ، قِيَاسًا عَلَى الْغَضَبِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ حُضُورَ الْقَلْبِ وَاسْتِيفَاءَ الْفِكْرِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْغَالِبِ؛ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ (فَإِنْ خَالَفَ الْقَاضِي، وَحَكَمَ) فِي حَالٍّ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فَأَصَابَ الْحَقَّ نَفَذَ حُكْمُهُ؛ وَإِلَّا لَمْ يَنْفُذْ.
(وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقَضَاءُ مَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ غَلَطٌ يُقِرُّ عَلَيْهِ لَا قَوْلًا وَلَا فِعْلًا فِي حُكْمٍ) وَتَقَدَّمَ فِي الْخَصَائِصِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمَّةِ، وَقَوْلُهُ:" فِي حُكْمٍ " احْتِرَازٌ عَمَّا وَقَعَ «لَمَّا مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ حَالُهُ، فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: مَا لِنَخْلِكُمْ؟ قَالُوا قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ.
(وَيَحْرُمُ) عَلَى الْحَاكِمِ (قَبُولُهُ رِشْوَةً) بِتَثْلِيثِ الرَّاءِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ فِي " زَادِ الْمُسَافِرِ " وَزَادَ: " وَالرَّائِشَ " وَهُوَ السَّفِيرُ بَيْنَهُمَا، وَالرِّشْوَةُ: مَا يُعْطَى بَعْدَ طَلَبِهِ لَهَا، وَيَحْرُمُ (بَذْلُهَا) مِنْ الرَّاشِي لِيَحْكُمَ لَهُ بِبَاطِلٍ، أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ حَقَّهُ إلَّا أَنْ يَبْذُلَهَا (لِدَفْعِ ظُلْمِهِ) وَإِبْرَائِهِ عَلَى وَاجِبِهِ؛
فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي حَقِّهِ. قَالَ عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَانِعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ مَا لَهُ كَمَا يَسْتَفِيدَ الرَّجُلُ أَسِيرَهُ.
(وَكَذَا) يَحْرُمُ عَلَى حَاكِمٍ قَبُولُ (هَدِيَّةٍ) لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَجِيءُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ، أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا نَبْعَثُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَيَأْخُذُ شَيْئًا إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْتُ عُفْرَةَ إبْطَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ قَرَأْتُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ: الْهَدِيَّةُ تَفْقَأُ عَيْنَ الْحُكْمِ. وَظَاهِرُهُ (وَلَوْ) أُهْدِيَتْ إلَيْهِ (فِي غَيْرِ عَمَلِهِ) لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهَا اسْتِمَالَةُ الْحَاكِمِ لِيَعْتَنِيَ بِهِ فِي الْحُكْمِ فَتُشْبِهُ الرِّشْوَةَ (إلَّا مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حُكُومَةٌ، فَيُبَاحُ) لَهُ أَخْذُهَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ إذَنْ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْهَدِيَّةُ مِنْ (ذِي رَحِمِهِ) الْمَحْرَمِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ صَدِيقٍ كَانَ يُلَاطِفُهُ أَوْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خَصْمٌ (وَكَمُفْتٍ) فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ وَهِيَ الدَّفْعُ إلَيْهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ (وَرَدُّهَا) ؛ أَيْ: رَدُّ الْقَاضِي الْهَدِيَّةَ حَيْثُ جَازَ لَهُ أَخْذُهَا (أَوْلَى) لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لِحُكُومَةٍ مُنْتَظَرَةٍ (فَإِنْ خَالَفَ) الْحَاكِمُ فَأَخَذَ الرِّشْوَةَ أَوْ الْهَدِيَّةَ (حَيْثُ حُرِّمَ) أَخْذُهُمَا (رُدَّتَا لِمُعْطٍ) لِأَنَّهُ أَخَذَهُمَا بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْمَأْخُوذِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ (وَاسْتِعَارَتُهُ) أَيْ: الْقَاضِي مِنْ غَيْرِهِ (كَالْهَدِيَّةِ) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ (وَكَذَا لَوْ خَتَنَ وَلَدَهُ) وَنَحْوَهُ (فَأَهْدَى لِوَلَدِهِ) وَلَوْ قُلْنَا إنَّهَا لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى الرِّشْوَةِ، فَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَالْأَوْلَى أَنَّهُ كَالْهَدِيَّةِ عَلَى التَّفْصِيلِ.
السَّابِقِ (وَإِنْ أَهْدَى لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ) مِنْ أَرْبَابِ الْوِلَايَةِ (لَمْ يَجُزْ) لِلشَّافِعِ (أَخْذُهَا) لِيَشْفَعَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ مَظْلَمَةٌ، أَوْ يُوَصِّلَ إلَيْهِ حَقَّهُ، أَوْ يُوَلِّيَهُ وِلَايَةً يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ (لِأَنَّهَا) أَيْ: الْهَدِيَّةَ لِلشَّافِعِ (كَالْأُجْرَةِ وَالشَّفَاعَةُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ) فَيَحْرُمُ أَخْذُ شَيْءٍ فِي مُقَابَلَتِهَا.
وَيَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ يَبْذُلَ فِي ذَلِكَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ، أَوْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، قَالَهُ فِي " الِاخْتِيَارَاتِ " (وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ) فِيمَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ السُّلْطَانِ: لَا أُجِيزُ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا، يُرْوَى:«هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ» وَالْحَاكِمُ خَاصَّةً لَا أُحِبُّ لَهُ إلَّا مِمَّنْ كَانَ لَهُ بِهِ خَلْطَةٌ وَوَصْلَةٌ وَمُكَافَأَةٌ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ. انْتَهَى.
(وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا فِيمَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَأَدَّاهَا فَأُهْدِيَتْ لَهُ هَدِيَّةٌ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا إلَّا بِنِيَّةِ الْمُكَافَأَةِ) وَمِثْلُهُ دَفْعُ رَبِّ اللُّقَطَةِ لِوَاجِدِهَا عِنْدَ رَدِّهَا إلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا، وَتَقَدَّمَ فِي الْجَعَالَةِ.
(وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ) أَيْ: الْقَاضِي (وَشِرَاؤُهُ إلَّا بِوَكِيلٍ لَا يُعْرَفُ بِهِ) أَيْ: أَنَّهُ وَكِيلُهُ؛ لِئَلَّا يُحَابَى، وَالْمُحَابَاةُ كَالْهَدِيَّةِ، وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لِمُفْتٍ - وَلَوْ فِي مَجْلِسِ فَتْوَاهُ - لِأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَهُ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يُحَابِيَ (فَلَيْسَ لَهُ) أَيْ: الْقَاضِي (وَلَا لِوَالٍ أَنْ يَتَّجِرَ بِنَفْسِهِ) لِمَا رَوَى أَبُو الْأَسْوَدِ الْمَالِكِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «مَا عَدَلَ وَالٍ اتَّجَرَ فِي رَعِيَّتِهِ أَبَدًا» .
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى التِّجَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَكْفِيهِ؛ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَصَدَ السُّوقَ لِيَتَّجِرَ فِيهِ حَتَّى فَرَضُوا لَهُ مَالًا يَكْفِيهِ، وَلِوُجُوبِ الْقِيَامِ بِعِيَالِهِ؛ فَلَا يَتْرُكْهُ لِوَهْمِ مَضَرَّةٍ.
(وَتُسَنُّ لَهُ) أَيْ: الْقَاضِي (عِيَادَةُ الْمَرْضَى وَشَهَادَةُ الْجَنَائِزِ وَتَوْدِيعُ غَازٍ وَحَاجٍّ، مَا لَمْ يَشْغَلْهُ) ذَلِكَ عَنْ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقُرَبِ، وَفِيهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَلَهُ حُضُورُ بَعْضِ ذَلِكَ وَتَرْكُ بَعْضِهِ، لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِنَفْعِ نَفْسِهِ بِتَحْصِيلِ الْأَجْرِ وَالْقُرْبَةِ، بِخِلَافِ الْوَلَائِمِ؛ فَإِنَّهُ يُرَاعِي فِيهَا حَقَّ الدَّاعِي؛ فَيَنْكَسِرُ فِيهَا قَلْبُ مِنْ لَمْ يُجِبْهُ إنْ أَجَابَ غَيْرَهُ (وَهُوَ) أَيْ: الْقَاضِي (فِي دَعَوَاتٍ) إلَى الْوَلَائِمِ
(كَغَيْرِهِ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَحْضُرُهَا، وَأَمَرَ بِحُضُورِهَا، وَقَالَ:«مَنْ لَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . وَمَتَى كَثُرَتْ وَازْدَحَمَتْ تَرَكَهَا كُلَّهَا. (وَيُتَّجَهُ وَحُكْمُ ضِيَافَةٍ خُصَّ بِهَا) الْقَاضِي كَحُكْمِ (هَدِيَّةٍ) وَتَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ مُتَّجَهٌ.
(وَلَا يُجِيبُ قَوْمًا وَيَدَعُ قَوْمًا بِلَا عُذْرٍ) لِمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا عُذْرٌ كَمُنْكَرٍ أَوْ بُعْدِ مَكَان أَوْ اشْتِغَالٍ زَمَنًا طَوِيلًا دُونَ الْأُخْرَى أَجَابَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِهَا.
(وَيُوصِي الْقَاضِي نَفْسَهُ وُجُوبًا ثُمَّ الْوُكَلَاءَ وَالْأَعْوَانَ بِبَابِهِ بِالرِّفْقِ بِالْخُصُومِ وَقِلَّةِ الطَّمَعِ) لِئَلَّا يَضُرَّ النَّاسَ، (وَيَجْتَهِدُ أَنْ يَكُونُوا شُيُوخًا أَوْ كُهُولًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ) لِيَكُونُوا أَقَلَّ شَرًّا، فَإِنَّ الشَّبَابَ شُعْبَةٌ مِنْ الْجُنُونِ، وَالْحَاكِمُ تَأْتِيهِ النِّسَاءُ وَفِي اجْتِمَاعِ الشَّبَابِ بِهِنَّ مَفْسَدَةٌ.
(وَيُبَاحُ) لِقَاضٍ قَالَ فِي " الْمُبْدِعِ " وَالْأَشْهَرُ يُسَنُّ لَهُ (أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «اسْتَكْتَبَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَغَيْرَهُمَا» ، وَلِكَثْرَةِ اشْتِغَالِ الْحَاكِمِ وَنَظَرِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ؛ فَلَا يُمْكِنُهُ تَوَلِّي الْكِتَابَةِ بِنَفْسِهِ.
(وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ) أَيْ: كَاتِبِ الْقَاضِي (مُسْلِمًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} [آل عمران: 118]
وَقَالَ عُمَرُ: " لَا تُؤَمِّنُوهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ، وَلَا تُقَرِّبُوهُمْ وَقَدْ أَبْعَدَهُمْ اللَّهُ، وَلَا تُعِزُّوهُمْ وَقَدْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ "(عَدْلًا) لِأَنَّهُ مَوْضِعُ أَمَانَةٍ (وَسُنَّ كَوْنُهُ حَافِظًا عَالِمًا) لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى أَمْرِهِ (فَقِيهًا أَمِينًا حُرًّا) خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ (وَرِعًا نَزِهًا لَا يُسْتَمَالُ بِهَدِيَّةٍ) لِئَلَّا يُخْدَعَ (جَيِّدَ الْخَطِّ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ سَبْعَةٌ بِتِسْعَةٍ، صَحِيحَ الضَّبْطِ) لِئَلَّا يُفْسِدَ مَا يَكْتُبُهُ
بِجَهْلِهِ (وَيَجْلِسُ الْكَاتِبُ بِحَيْثُ يُشَاهِدُ الْقَاضِي مَا يَكْتُبُهُ) لِأَنَّهُ أَبْعَدُ لِلتُّهْمَةِ، وَأَمْكَنُ لِإِمْلَائِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَعَدَ نَاحِيَةً جَازَ؛ لِأَنَّ مَا يَكْتُبُهُ يُعْرَضُ عَلَى الْقَاضِي (وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُهُ) أَيْ: الْكَاتِبِ (بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ: الْقَاضِي، لَيُشَافِهَهُ (بِمَا يُمْلِي عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَإِنْ تَوَلَّى الْقَاضِي الْكِتَابَةَ بِنَفْسِهِ جَازَ) وَالْأَوْلَى الِاسْتِنَابَةُ
(وَيَجْعَلُ الْقَاضِي الْقِمَطْرَ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ (وَهُوَ مَا يُجْمَعُ فِيهِ الْقَضَايَا؛ مَخْتُومًا بَيْنَ يَدَيْهِ) لِيُنَزِّلَ فِيهِ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لَهُ مِنْ أَنْ يُغَيَّرَ.
(وَسُنَّ حُكْمُهُ بِحَضْرَةِ شُهُودٍ) بِحَيْثُ (يَسْمَعُونَ كَلَامَ الْمُتَحَاكِمَيْنِ) لِيَسْتَوْفِيَ بِهِمْ الْحُقُوقَ وَتَثْبُتَ بِهِمْ الْحِجَجُ وَالْمَحَاضِرُ.
(وَيَحْرُمُ) عَلَى قَاضٍ (تَعْيِينُهُ قَوْمًا بِالْقَبُولِ) أَيْ: قَبُولِ الشَّهَادَةِ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُمْ؛ لِوُجُوبِ قَبُولِ شَهَادَةِ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ (لَكِنْ لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ شُهُودًا يَشْهَدُهُمْ النَّاسُ يَسْتَغْنُونَ بِإِشْهَادِهِمْ عَنْ تَعْدِيلِهِمْ)(وَيَسْتَغْنِي الْحَاكِمُ عَنْ الْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ) لِأَنَّ فِيهِ رِفْقًا بِالنَّاسِ (وَلَيْسَ لَهُ) أَيْ: الْقَاضِي (مَنْعُ الْفُقَهَاءِ مِنْ عَقْدِ عُقُودٍ وَكِتَابَةِ حِجَجٍ) أَيْ: الْإِشْهَادَاتِ (وَمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الشَّرْعِ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إذَا كَانَ الْكَاتِبُ فَقِيهًا) عَالِمًا بِأُمُورِ الشَّرْعِ وَشُرُوطِ الْعَقْدِ (كَأَنْ يُزَوِّجَ الْمَرْأَةَ وَلِيُّهَا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ؛ فَيَكْتُبُ كَاتِبٌ عَقْدَهَا، أَوْ يَكْتُبُ رَجُلٌ عَقْدَ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ إقْرَارٍ) أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (أَوْ كَانَ ذَلِكَ حِرْفَةَ الْكَاتِبِ) يَرْتَزِقُ بِهَا (فَإِنْ مَنَعَ الْقَاضِي ذَلِكَ حَرُمَ) لِأَنَّهُ مِنْ الْمَكْسِ نَظِيرُ مَنْ يَسْتَأْجِرُ حَانُوتًا مِنْ حَاكِمِ الْقَرْيَةِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ غَيْرَهُ فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يُرِيدُ مَنْعَ الْجَاهِلِينَ؛ لِئَلَّا يَعْقِدَ عَقْدًا فَاسِدًا؛ فَالطَّرِيقُ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بِتَعْزِيرِ مَنْ يَعْقِدُ نِكَاحًا فَاسِدًا، كَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه فِيمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَفِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ.