الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِكَسْرِ الْقَافِ، أَوْ سَيْفٌ بِقِرَابٍ فَهُوَ (إقْرَارٌ بِهِمَا) لِأَنَّ الْفَصَّ جُزْءٌ مِنْ الْخَاتَمِ؛ أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي ثَوْبٌ فِيهِ عَلَمٌ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِقِرَابِهِ بَاءُ الْمُصَاحَبَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ سَيْفٌ بِقِرَابٍ، بِخِلَافِ تَمْرٍ فِي جِرَابٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الظَّرْفَ غَيْرُ الْمَظْرُوفِ، وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِخَاتَمٍ، وَأَطْلَقَ ثُمَّ جَاءَهُ بِخَاتَمٍ فِيهِ فَصٌّ، وَقَالَ مَا أَرَدْت الْفَصَّ لَمْ يُقْبَلْ، قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْخَاتَمَ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ.
(وَإِقْرَارُهُ) ؛ أَيْ: الشَّخْصَ (بِشَجَرٍ أَوْ شَجَرَةٍ) يَشْمَلُ الْأَغْصَانَ (وَلَيْسَ إقْرَارًا) بِأَرْضِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يَتْبَعُ الْفَرْعَ، بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِالْأَرْضِ؛ فَيَشْمَلُ غَرْسَهَا وَبِنَاءَهَا (فَلَا يَمْلِكُ) مُقِرٌّ لَهُ بِشَجَرَةٍ (غَرْسَ) أُخْرَى (مَكَانَهَا لَوْ ذَهَبَتْ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْأَرْضِ (وَلَا أُجْرَةَ) عَلَى مُقِرٍّ لَهُ بِشَجَرٍ أَوْ شَجَرَةٍ (مَا بَقِيَتْ) وَلَيْسَ لِرَبِّ الْأَرْضِ قَلْعُهَا وَثَمَرَتُهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَبِيعَ مِثْلُهُ، وَتَقَدَّمَ.
وَإِقْرَارُهُ (بِأَمَةٍ حَامِلٍ لَيْسَ إقْرَارًا بِحَمْلِهَا) لِأَنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَمُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ، وَدُخُولُهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَمِثْلُهُ لَوْ أَقَرَّ بِفَرَسٍ أَوْ أَتَانٍ أَوْ نَاقَةٍ حَامِلٍ (وَ) إنْ قَالَ (لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ) أَوْ لَهُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، أَوْ لَهُ عِنْدِي إمَّا عَبْدٌ وَإِمَّا ثَوْبٌ (يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا) لِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ لِأَشْيَاءَ وَإِمَّا بِمَعْنَاهَا (وَيُعَيِّنُهُ) أَيْ: يَلْزَمُهُ تَعْيِينُهُ، وَيَرْجِعُ إلَيْهِ فِيهِ كَسَائِرِ الْمُجْمَلَاتِ.
(وَلَوْ أَقَرَّ بِبُسْتَانٍ شَمِلَ الْأَشْجَارَ) وَالْبِنَاءَ وَالْأَرْضَ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ كَكَوْنِ الْأَرْضِ أَرْضَ غَيْرِهِ.
[خَاتِمَة الْكتاب]
(خَاتِمَةُ) الْكِتَابِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ (تُقْبَلُ تَوْبَةُ) الْعَبْدِ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى (مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، أَوْ مَا لَمْ يُعَايِنْ الْمَلَكَ أَوْ مَادَامَ مُكَلَّفًا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ) سَلَفًا وَخَلَفًا.
(فَحُجَّةُ) الْقَائِلِينَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَدِيثُ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ
وَالْحَاكِمِ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» ) ؛ أَيْ: يَقْرَبُ مِنْ الزَّهُوقِ، وَيُقَالُ غَرْغَرَ إذَا جَادَ بِنَفْسِهِ.
(وَحُجَّةُ) الْقَائِلِينَ بِالْقَوْلِ (الثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى) الْأَشْعَرِيِّ: «سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَتَى تَنْقَطِعُ مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ مِنْ النَّاسِ، قَالَ: إذَا عَايَنَ» ، يُعَيِّنُ إذَا عَايَنَ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِقَبْضِ رُوحِهِ (وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ) بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ (حَدِيثُ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَلِيٍّ) :«لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي مُهْلَةٍ مِنْ التَّوْبَةِ مَا لَمْ يَأْتِهِ مَلَكُ الْمَوْتِ بِقَبْضِ رُوحِهِ، فَإِذَا نَزَلَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَلَا تَوْبَةَ حِينَئِذٍ» .
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ نُزُولِ الْمَلَكِ يَنْسَدُّ عَلَى الْمَنْزُولِ بِهِ بَابُ التَّوْبَةِ، سَوَاءٌ عَايَنَهُ أَوْ لَمْ يُعَايِنْهُ.
(وَأَمَّا التَّكْلِيفُ فَوَاضِحٌ، وَهُوَ قَوِيٌّ) جِدًّا؛ إذْ الْمَدَارُ عَلَيْهِ (قَالَ فِي " تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ " وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَالصَّوَابُ قَبُولُهَا) ؛ أَيْ: التَّوْبَةَ (مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا، وَإِلَّا فَلَا. انْتَهَى) .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ الْإِقْلَاعُ عَنْ الذَّنْبِ فِي الْحَالِ، وَالنَّدَمُ عَلَى فِعْلِهِ فِي الْمَاضِي، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَ الذَّنْبَ (وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ رَابِعٍ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ مِنْهُ) ، وَلَهَا تَفَاصِيلُ أُخَرُ يَضِيقُ عَنْهَا هَذَا الْمَحَلُّ، فَهِيَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّاهَا.
وَبِهَذَا اسْتَحَقَّ التَّائِبُ أَنْ يُسَمَّى حَبِيبَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَلَوْلَا أَنَّ التَّوْبَةَ اسْمٌ جَامِعٌ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ الرَّبُّ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ذَلِكَ الْفَرَحَ الْعَظِيمَ.
(وَيَتَّجِهُ أَنَّ عِلْمَ مَا مَرَّ) مِنْ الْأَحَادِيثِ (لَا يَنْضَبِطُ لَنَا) لِقِصَرِ عُقُولِنَا عَنْ إدْرَاكِ حَقَائِقِهِ.
(وَيَتَّجِهُ أَنَّ مَنْ تَابَ وَأَسْلَمَ - وَالرُّوحُ) بَاقِيَةٌ فِي بَدَنِهِ تَتَرَدَّدُ (فِيهِ - فَهُوَ مَقْبُولٌ شَرْعًا) فَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِنَا (وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ هَذَا الْإِسْلَامُ بَاطِنًا) لِتَقْصِيرِهِ بِالتَّأْخِيرِ.
(وَ) يَتَّجِهُ (أَنَّ مَنْ ذُبِحَ أَوْ أُبِينَتْ حَشْوَتُهُ لَا يَنْفَعُهُ) نُطْقُهُ بِالتَّوْبَةِ، وَنَدَمُهُ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنْهُ (بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا) ؛ لِقَوْلِهِمْ أَيْ: الْأَصْحَابِ (هُوَ كَمَيِّتٍ؛ فَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ، وَرُبَّمَا يُجْزَمُ بِعَدَمِ عَقْلِهِ فِي الْأُولَى) وَهِيَ فِيمَا إذَا ذُبِحَ (وَلَوْلَا إخْبَارُ الصَّادِقِ الْعَلِيمِ أَنَّ إيمَانَ فِرْعَوْنَ إنَّمَا كَانَ وَقْتَ إدْرَاكِ الْغَرَقِ وَنُزُولِ الْمَوْتِ بِهِ لَحُكِمَ شَرْعًا بِإِسْلَامِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: اتَّفَقُوا - أَيْ: الْعُلَمَاءَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَرَبَتْ؛ أَيْ: دَنَتْ نَفْسُهُ مِنْ الزَّهُوقِ، فَمَاتَ لَهُ مَيِّتٌ أَنَّهُ يَرِثُهُ وَإِنْ قَدَرَ الْكَافِرُ عَلَى النُّطْقِ فَأَسْلَمَ؛ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنَّهُ مَتَى شَخَصَ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْتِ إلَّا نَفَسٌ وَاحِدٌ فَمَاتَ مَنْ أَوْصَى لَهُ بِوَصِيَّةٍ؛ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّهَا، وَمَنْ قَتَلَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ أُقِيدَ بِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ فِيمَنْ قَتَلَ رَجُلًا قَدْ ذَهَبَ الرُّوحُ مِنْ بَعْضِ جَسَدِهِ قَالَ: هُوَ يَضْمَنُهُ انْتَهَى)
كَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ (فَعَلَى هَذَا لَا يَسَعُنَا إلَّا الْحُكْمُ شَرْعًا بِإِسْلَامِ مَنْ أَقَرَّ عِنْدَ مَوْتِهِ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) غَيْرَ مُكْرَهٍ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَهُوَ اتِّجَاهٌ حَسَنٌ.
(اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا) وَإِخْوَانَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ (مِمَّنْ أَقَرَّ بِهَا) ؛ أَيْ: الشَّهَادَةَ (مُخْلِصًا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ) عِنْدَ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ (وَاجْعَلْ الْمَوْتَ لَنَا دَائِمًا عَلَى بَالٍ) لِنَكُونَ مُتَيَقِّظِينَ لِلتَّوْبَةِ
(وَتُوَفَّنَا مُسْلِمِينَ أَحْسَنَ حَالٍ) غَيْرَ مَفْتُونِينَ (وَأَسْمِعْنَا مِنْك، وَفَهِّمْنَا الْوَارِدَ عَنْك، وَعَلِّمْنَا مِنْ عِلْمِك) فَإِنَّهُ {لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32](وَحَقِّقْنَا بِنُورِ تَوْحِيدِك) الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الدِّينِ وَآخِرُهُ، وَظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ، وَتَحْقِيقِ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِقْرَارِ بِهَا فَإِنَّهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي تَحْقِيقِهَا تَفَاضُلًا لَا يَنْضَبِطُ حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ الرُّبُوبِيَّةَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَبَيْنَ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي دَعَاهُمْ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ الْقَوْلِيِّ وَالْعَمَلِيِّ؛ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الْعَالَمَ خَلَقَهُ اثْنَانِ، وَلَا إنَّ مَعَ اللَّهِ رَبًّا يَنْفَرِدُ دُونَهُ بِخَلْقِ شَيْءِ، بَلْ كَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61] وَكَانُوا مَعَ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ وَحْدَهُ يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى يَجْعَلُونَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ إلَيْهِ، وَيَقُولُونَ إنَّمَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَالتَّوْحِيدُ وَالْإِشْرَاكُ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ، وَيَكُونُ فِي أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَلِهَذَا قَالَ الْجُنَيْدُ: التَّوْحِيدُ قَوْلُ الْقَلْبِ، وَالتَّوْكِيلُ عَمَلُ الْقَلْبِ.
أَرَادَ بِذَلِكَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَرَنَهُ بِالتَّوْكِيلِ جَعَلَهُ أَصْلَهُ، وَإِذَا أُفْرِدَ لَفْظُ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ قَوْلَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ (وَأَيِّدْنَا بِرُوحِ تَأْيِيدِك وَاسْلُكْ بِنَا طَرِيقَ السُّنَّةِ، وَجَنِّبْنَا طَرِيقَ الْبِدْعَةِ) إذْ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ فِي بِدْعَةٍ (وَهَبْ لَنَا فُرْقَانًا نُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ) لِنَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي اتِّبَاعِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي (وَهَبْ لَنَا الْإِخْلَاصَ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُك، وَقَدِّسْنَا مِنْ أَوْصَافِ بَشَرِيَّاتِنَا، وَعَافِنَا مِنْ عِلَّةٍ) ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ (وَطَهِّرْنَا مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَأَخْرِجْ حُبَّ الرِّئَاسَةِ مِنْ قُلُوبِنَا) فَإِنَّهُ الدَّاءُ الْعُضَالُ (وَلَا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا) بِذُنُوبِنَا (آمِينَ) .
قَالَ مُؤَلَّفُهُ الشَّيْخُ مَرِعِي سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَفَا عَنْهُ (قَدْ أَفْرَغْت فِي هَذَا الْجَمْعِ طَاقَتِي وَجُهْدِي، وَبَذَلْت فِيهِ فِكْرَتِي وَقَصْدِي، وَلَمْ يَكُنْ فِي ظَنِّي أَنْ أَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ لِعِلْمِي) مِنْ نَفْسِي (بِالْعَجْزِ عَنْ الْخَوْضِ فِي تِلْكَ الْمَسَالِكِ) وَقَدْ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا الْقَوْلَ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَضَائِلُهُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ (وَقَدْ أَكْثَرْتُ فِيهِ مِنْ التَّوْجِيهِ لِنَفْعِ الطَّالِبِ الْوَجِيهِ، فَمَا كَانَ) فِي اتِّجَاهَاتِي (مِنْ صَوَابٍ فَمِنْ اللَّهِ) تَعَالَى (أَوْ خَطَأٍ، وَأَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ الْعَفْوَ عَنِّي، وَهَذَا أَقْوَى مَا قَدَرَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ، فَمَنْ أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهُ فَلِيَرْجِعْ إلَيْهِ. عَلَيَّ فِي الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أُسْوَةٌ حَيْثُ قَالَ: هَذَا رَأْيِي فَمَنْ جَاءَنَا بِخَيْرٍ مِنْهُ قَبِلْنَاهُ) انْتَهَى.
(وَقَدْ فَرَغْت مِنْ تَسْوِيدِهِ) ؛ أَيْ: تَسْوِيدِ هَذَا الْجَمْعِ (بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ) مِنْ مِصْرَ الْقَاهِرَةِ خَلَّصَهَا اللَّهُ مِنْ أَيْدِي طَائِفَةِ الفرنساوية الْكَافِرَةِ، فَقَدْ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا قَبْلَ هَذَا الْعَامِ، وَصَيَّرُوهَا دَارَ حَرْبٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَفْتَخِرُ بِهَا سَائِرُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَابِعِ صَفَرِ الْخَيْرِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ بَعْدَ الْأَلْفِ لَا غَيْرَ، وَعَادَتْ مَأْوًى لِعَبَدَةِ الصَّلِيبِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَلْجَأً لِكُلِّ غَرِيبٍ، يَقْتَطِفُ مِنْهَا ثِمَارَ دَقَائِقِ الْعُلُومِ، وَيَنْسَلِخُ عَنْهَا وَقَدْ فَاقَ أَقْرَانَهُ كَالْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ النُّجُومِ، فَنَرْجُو مَنْ جَعَلَهَا مِنْ أَنْفَعْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِعَهَا مِنْ أَيْدِي هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ اللِّئَامِ (عَقِبَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثَانِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ وَمِنْ تَبْيِيضِهِ عَقِبَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثَانِيَ عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَأَلْفٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مُخْلِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ) ، وَسَبَبًا لِلْفَوْزِ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَرَزَقَ الطَّالِبَ بِهِ النَّفْعَ الْعَمِيمَ إنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ جَوَادٌ كَرِيمٌ (نَصِيحَةٌ: عَلَيْك أَيّهَا الطَّالِبُ الْمُسْتَرْشِدُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ وَرِضَاهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ سِرًّا وَجَهْرًا مَعَ صَفَاءِ الْقَلْبِ مِنْ كُلِّ كَدَرٍ، وَتَرْكِ حُبِّ الْعُلُوِّ وَالرِّئَاسَةِ وَكُلِّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ وَفِعْلٍ مَلُومٍ كَغِلٍّ وَحِقْدٍ وَحَسَدٍ وَغَضَبٍ وَعُجْبٍ وَنَكَدٍ وَكِبْرٍ وَتِيهٍ وَخُيَلَاءَ وَزَهْوٍ وَهَوًى وَرِيَاءٍ، وَغَرَضِ سُوءٍ، وَقَصْدٍ رَدِيءٍ وَمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ، وَمُجَانَبَةِ كُلِّ مَكْرُوهٍ لِلَّهِ سبحانه وتعالى، وَعُدَّ نَفْسَك مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، وَلَا تُهْمِلْ النَّظَرَ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَلَا تَفْخَرْ بِأَعْمَالِك فَلَيْسَ إلَيْك مِنْ فِعْلِك شَيْءٌ وَانْدَمْ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ عُمْرِك فِي الصِّبَا وَالْغَيِّ، وَإِذَا جَلَسْت مَجْلِسَ ذِكْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَاجْلِسْ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَتَلَقَّى النَّاسَ بِالْبِشْرِ
وَالِاسْتِبْشَارِ، وَحَادِثْهُمْ بِمَا يَنْفَعُ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلَا تُجَالِسْ غَيْرَ الْأُمَنَاءِ الْأَتْقِيَاءِ الْأَخْيَارِ، وَأَقْبِلْ عَلَى مَنْ يُقْبِلُ عَلَيْك، وَارْفَعْ مَنْزِلَةَ مَنْ عَظُمَ لَدَيْك، وَأَنْصِفْ حَيْثُ يَجِبُ الْإِنْصَافُ، وَاسْتَعْفِفْ حَيْثُ يَجِبُ الِاسْتِعْفَافُ، وَلَا تُسْرِفْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْإِسْرَافَ، وَإِنْ رَأَيْت نَفْسَك مُقْبِلَةً عَلَى الْخَيْرِ فَاشْكُرْ) اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ رَأَيْتهَا (مُدْبِرَةً عَنْهُ فَازْجُرْهَا) عَمَّا هُنَالِكَ (أَوْ ذُكِّرْتَ بِاَللَّهِ فَاذْكُرْ) تَكُنْ مَعَ الذَّاكِرِينَ (وَإِنْ بُلِيتَ فَاصْبِرْ) إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (أَوْ جَنَيْتَ فَتُبْ وَاسْتَغْفِرْ) إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُسْتَغْفِرِينَ (أَوْ هَفَوْتُ فَاعْتَذِرْ) إلَى رَبِّك تَكُنْ مِنْ الْفَائِزِينَ (وَإِذَا قُمْتَ مِنْ مَجْلِسِك فَقُلْ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك) لِمَا رُوِيَ: أَنَّ خَاتِمَةَ الْمَجْلِسِ: " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك، وَأَتُوبُ إلَيْك ".
فَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ رَحْمَةٍ كَانَتْ كَالطَّابَعِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ لَغْوٍ كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهَا تُقَالُ فِي آخِرِ الْوُضُوءِ بَعْدَ أَنْ يُقَالَ " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ ".
وَهَذَا الذِّكْرُ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ وَالِاسْتِغْفَارَ فَإِنَّ صَدْرَهُ الشَّهَادَتَانِ اللَّتَانِ هُمَا أَصْلَا الدِّينِ وَجِمَاعُهُ، فَإِنَّ جَمِيعَ الدِّينِ دَاخِلٌ فِي الشَّهَادَتَيْنِ، إذْ مَضْمُونُهُمَا أَنْ لَا يَعْبُدَ
إلَّا اللَّهَ، وَأَنْ يُطَاعَ رَسُولُهُ، وَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي هَذَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهَذَا آخِرُ مَا يَسَّرَ اللَّهُ جَمْعَهُ مِنْ كَلَامِ عُلَمَائِنَا وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، فَإِنِّي مُعْتَرِفٌ مِنْ نَفْسِي بِالْعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ، وَبِضَاعَتِي مُزْجَاةٌ فِي الْعِلْمِ وَالتَّحْرِيرِ، وَلَكِنَّ هَذَا حَسْبَ الطَّاقَةِ مَعَ تَشَتُّتِ الْخَاطِرِ بِالْفِتَنِ وَالْفَاقَةِ، فَإِنْ أَكُنْ مُحْسِنًا فَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْعَامِهِ عَلَيَّ، وَأَلْطَافِهِ الْوَاصِلَةِ إلَيَّ، وَإِنْ يَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى سُوءِ فَهْمِي، وَقِلَّةِ عِلْمِي، فَإِنِّي أَرْجُو مِنْ كَرْمِ مَنْ عَثَرَ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ، وَاطَّلَعَ عَلَى مَا حَوَاهُ مِنْ خَطَأٍ وَصَوَابٍ التَّجَاوُزَ عَنْ الْخَطَأِ، وَالْعَفْوَ عَنْ الزَّلَلِ، وَإِصْلَاحَ مَا فِيهِ مِنْ الْخَلَلِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَأَلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ.
وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْ تَسْوِيدِ هَذَا الْكِتَابِ بِعَوْنِ اللَّهِ الْمِلْك الْوَهَّابِ فِي أَوَّلِ نَهَارِ يَوْمِ السَّبْتِ مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ الْحَرَامِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ وَأَلْفٍ عَلَى يَدِ الْحَقِيرِ الْفَقِيرِ الْمُعْتَرِفِ بِالذَّنْبِ وَالتَّقْصِيرِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ بْنِ مُلَّا أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ أَفَنْدِي بْنِ الْحَاجِّ خَلِيلٍ الدَّاغِسْتَانِيِّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِوَالِدِيهِ وَأَحْسَنَ إلَيْهِمَا وَإِلَيْهِ وَمَشَايِخِهِ وَشُرَكَائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ آمِينَ.