الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ يُعْتَبَرُ فِي الْبَيِّنَةِ الْعَدَالَةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا]
فَصْلٌ (وَيُعْتَبَرُ فِي الْبَيِّنَةِ الْعَدَالَةُ ظَاهِرًا، وَكَذَا) وَتُعْتَبَرُ (بَاطِنًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَوْلُهُ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَقَوْلُهُ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وَالْفَاسِقُ لَا يُؤْمَنُ كَذِبُهُ (لَا فِي عَقْدِ نِكَاحٍ) فَتَكْفِي الْعَدَالَةُ ظَاهِرًا، فَلَا يَبْطُلُ لَوْ بَانَا فَاسِقَيْنِ، وَتَقَدَّمَ.
وَيُعْتَبَرُ فِي قَبُولِ (مُزَكِّينَ مَعْرِفَةُ حَاكِمٍ خِبْرَتَهُمَا بِصُحْبَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ) أَوْ جِوَارٍ، وَيُعْتَبَرُ، (مَعْرِفَتُهُمْ) ؛ أَيْ: الْمُزَكِّينَ (كَذَلِكَ) ؛ أَيْ: كَالْمَعْرِفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ (لِمَنْ يُزَكُّونَهُ) مِنْ الشُّهُودِ (فَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِهَا) ؛ أَيْ: الْعَدَالَةِ لِأَنَّهَا شَرْطٌ (وَلَوْ قِيلَ إنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ) قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لِأَنَّ الْغَالِبَ الْخُرُوجُ عَنْهَا (أَوْ لَمْ يَطْعَنْ فِيهَا) ؛ أَيْ: الْبَيِّنَةِ (الْخَصْمُ) فَيُجِيبُ الْعِلْمُ بِالْعَدَالَةِ كَالْإِسْلَامِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ (قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مَنْ قَالَ إنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ الْعَدَالَةُ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنَّمَا الْأَصْلُ فِيهِ الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب: 72] انْتَهَى.
فَالْفِسْقُ وَالْعَدَالَةُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَطْرَأُ عَلَى الْآخَرِ، وَعَنْهُ؛ أَيْ: الْإِمَامِ أَحْمَدَ (تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ) لِقَبُولِهِ: صلى الله عليه وسلم شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ.
وَقَوْلِ عُمَرَ: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ وَلِأَنَّ
ظَاهِرَ الْمُسْلِمِ الْعَدَالَةُ لِأَنَّهَا أَمْرٌ، فَفِي سَبَبِهَا الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، دَلِيلُهُ الْإِسْلَامُ فَإِذَا وُجِدَ اُكْتُفِيَ بِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنْ جُهِلَ إسْلَامُهُ رُجِعَ إلَى قَوْلِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: ظَاهِرُ الْمُسْلِمِ الْعَدَالَةُ مَمْنُوعٌ، بَلْ الظَّاهِرُ عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ إظْهَارُ الطَّاعَةِ وَإِسْرَارُ الْمَعْصِيَةِ.
وَقَوْلُ عُمَرَ مُعَارِضُ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِشَاهِدَيْنِ فَقَالَ لَهُمَا: لَسْت أَعْرِفُكُمَا، وَلَا يَضُرُّكُمَا أَنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمَا، وَالْأَعْرَابِيُّ الَّذِي قَبِلَ عليه الصلاة والسلام شَهَادَتَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ صَحَابِيٌّ، وَهُمْ عُدُولٌ.
(وَيَكْفِي فِي تَزْكِيَةِ الشَّاهِدِ) عَدْلَانِ يَقُولَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا: (أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ) وَلَوْ لَمْ يَقُلْ: أَرْضَاهُ لِي وَعَلَيَّ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَدْلًا لَزِمَ قَبُولُهُ عَلَى مُزَكِّيهِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَكْفِي قَوْلُهُ لَا أَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا (وَيَكْفِي فِيهَا) ؛ أَيْ: التَّزْكِيَةِ (الظَّنُّ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ، وَتَجِبُ فِيهَا الْمُشَافَهَةُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَا إخْبَارٌ، فَلَا تَكْفِي فِيهَا رُقْعَةُ الْمُزَكِّي؛ لِأَنَّ الْخَطَّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الشَّهَادَةِ) وَهَذِهِ مِنْهَا (وَلَوْ رَضِيَ) مَشْهُودٌ عَلَيْهِ (أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ فَاسِقٍ، لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِهَا) ؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ حَقٌّ لِلَّهِ (وَبَيِّنَةٌ بِجَرْحٍ مُقَدَّمَةٌ) عَلَى بَيِّنَةٍ بِتَعْدِيلٍ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ يُخْبِرُ بِأَمْرٍ بَاطِنٍ خَفِيٍّ عَلَى الْعَدْلِ، وَشَاهِدُ الْعَدَالَةِ يُخْبِرُ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ مُثْبِتٌ لِلْجَرْحِ وَالْمُعَدِّلُ نَافٍ لَهُ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَإِذَا عَصَى فِي بَلَدِهِ، فَانْتَقَلَ فَجَرَّحَهُ اثْنَانِ فِي بَلْدَةٍ وَعَدَّلَهُ اثْنَانِ فِي الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ، قُدِّمَتْ التَّزْكِيَةُ (وَتَعْدِيلُ الْخَصْمِ وَحْدَهُ) لِشَاهِدٍ عَلَيْهِ تَعْدِيلٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْ عَدَالَتِهِ لَحِقَهُ، وَلِأَنَّ إقْرَارَهُ بِعَدَالَتِهِ إقْرَارٌ بِمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ لِخَصْمِهِ، فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ (أَوْ تَصْدِيقِهِ) ؛ أَيْ: الْخَصْمِ (لِلشَّاهِدِ) عَلَيْهِ (تَعْدِيلٌ لَهُ) فَيُؤْخَذُ بِتَصْدِيقِهِ الشَّاهِدَ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدُونِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ.
(وَلَا يَصِحُّ مِنْ نِسَاءٍ تَزْكِيَةٌ وَتَجْرِيحٌ) لِقُصُورِ مَعْرِفَتِهِنَّ (وَلَا تَصِحُّ تَزْكِيَةٌ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ) كَقَوْلِ مُزَكٍّ (أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ فِي شَهَادَتِهِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ) فَقَطْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْعَدَالَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَلَمْ تُوجَدْ.
(وَمَنْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُ مَرَّةً) بِأَنْ شَهِدَ فَعُدِّلَ، ثُمَّ شَهِدَ فِي قَضِيَّةٍ أُخْرَى
(لَزِمَ الْبَحْثُ عَنْهَا) ؛ أَيْ: الْعَدَالَةِ (مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ) بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ (عُرْفًا) لِأَنَّ الْأَحْوَالَ تَتَغَيَّرُ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ، فَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ عُرْفًا لَمْ يُبْحَثْ عَنْ عَدَالَتِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاؤُهَا.
(وَمَتَى ارْتَابَ الْحَاكِمُ عَلَى عَدْلَيْنِ لَمْ يَخْتَبِرْ قُوَّةَ ضَبْطِهِمَا وَقُوَّةَ دِينِهِمَا؛ لَزِمَهُ الْبَحْثُ) عَمَّا شَهِدَا بِهِ (وَسُؤَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا عَنْ كَيْفِيَّةِ تَحَمُّلِهِ) بِأَنْ يَقُولَ: هَلْ هُوَ مَا شَهِدْت بِهِ أَوْ أَخْبَرْت بِهِ أَوْ أُقِرَّ عِنْدِي (بِهِ رُؤْيَةً أَوْ سَمَاعًا أَوْ إقْرَارًا وَمَتَى) تَحَمَّلْتَ الشَّهَادَةَ؟ لِيَذْكُرَ تَارِيخَ التَّحَمُّلِ، وَأَيْنَ تَحَمَّلْتهَا فِي مَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ بَيْتٍ؟ (وَ) يَسْأَلُهُ (هَلْ تَحَمَّلَ) الشَّهَادَةَ (وَحْدَهُ) بِأَنْ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ غَيْرَهُ حِينَ التَّحَمُّلِ، (أَوْ) كَانَ (مَعَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ اتَّفَقَا) فِي جَوَابِهِمَا عَنْ ذَلِكَ (وَعَظَهُمَا وَخَوَّفَهُمَا) لِحَدِيثِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: كُنْت عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ وَهُوَ قَاضٍ بِالْكُوفَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَى عَلَى رَجُلٍ حَقًّا، فَأَنْكَرَهُ فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا لَهُ، فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: وَاَلَّذِي تَقُومُ بِهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَقَدْ كَذَبَا عَلَيَّ، وَكَانَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ مُتَّكِئًا، فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ الطَّيْرَ لَتَخْفِقُ بِأَجْنِحَتِهَا وَتَرْمِي مِمَّا فِي حَوَاصِلِهَا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» فَإِنْ صَدَقْتُمَا فَاثْبُتَا، وَإِنْ كَذَبْتُمَا فَغَطِّيَا رُءُوسَكُمَا وَانْصَرِفَا، فَغَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَانْصَرَفَا (فَإِنْ ثَبَتَا) بَعْدَ وَعْظِهِمَا (حُكِمَ) بِشَهَادَتِهِمَا بِسُؤَالِ مُدَّعٍ (وَإِلَّا) يَثْبُتَا (لَمْ يَقْبَلْهُمَا) قَالَ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شُهُودِهِ كُلَّ قَلِيلٍ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ.
(وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ - لَا إنْ لَمْ يُقِمْهَا وَسَأَلَ حَبْسَ خَصْمِهِ) فِي غَيْرِ حَدٍّ حَتَّى تُزَكَّى بَيِّنَتُهُ أُجِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيُقَالُ لَهُ: إنْ جِئْت بِالْمُزَكِّينَ فِيهَا، وَإِلَّا أَطْلَقْنَاهُ (أَوْ أَقَامَ، بَيِّنَةً) وَسَأَلَ (كَفِيلًا) ؛ أَيْ: بِخَصْمَيْهِ (فِي غَيْرِ حَدٍّ) حَتَّى تُزَكَّى شُهُودُهُ أُجِيبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً وَسَأَلَ (جَعْلَ مُدَّعًى
بِهِ) مِنْ عَيْنٍ مَعْلُومَةٍ بِيَدِ عَدْلٍ حَتَّى بَيِّنَتُهُ تُزَكَّى أُجِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَقَامَتْ امْرَأَةٌ بَيِّنَةً بِطَلَاقِهَا، وَسَأَلَتْ (تَجَنُّبَ مُطَلِّقِهَا بَائِنًا إيَّاهَا) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (حَتَّى تُزَكِّي) بَيِّنَتَهَا أُجِيبَتْ إلَى ذَلِكَ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا احْتِيَاطًا، وَإِنْ أَقَامَتْ شَاهِدًا وَاحِدًا لَمْ يُحَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَثْبُتُ بِهِ طَلَاقٌ فَأَشْبَهَ عَدَمَهُ (أَوْ أَقَامَ) مُدَّعٍ (شَاهِدًا) عَلَى خَصْمِهِ (بِمَالٍ وَسَأَلَ حَبْسَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْآخَرَ أُجِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْبَحْثِ فِيهَا، فَلَا حَاجَةَ إلَى أَكْثَرَ مِنْهَا، بَلْ فِي حَبْسِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا ضَرَرٌ كَثِيرٌ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُدَّعِي إحْضَارُ الْمُزَكِّينَ أَوْ الشَّاهِدِ الثَّانِي فِيهَا وَلَا يُحْبَسُ مُدَّعًى عَلَيْهِ (إنْ أَقَامَهُ) ؛ أَيْ: الشَّاهِدَ مُدَّعٍ (بِغَيْرِ مَالٍ) وَسَأَلَ حَبْسَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْآخَرَ (أَوْ سَأَلَ حَبْسَهُ لِغَيْبَةِ بَيِّنَةٍ) فَلَا يُجِيبُهُ (لَكِنْ يُجَابُ الْمُدَّعِي لِلْمُلَازَمَةِ) لِخَصْمِهِ (وَيَأْتِي، وَإِنْ جَرَحَهَا) ؛ أَيْ: الْبَيِّنَةَ (الْحُكْمُ بَعْدَ تَعْدِيلِهَا، أَوْ أَرَادَ جَرْحَهَا، كُلِّفَ) الْخَصْمُ بِهِ؛ أَيْ: الْجَرْحِ بِبَيِّنَةٍ لِحَدِيثِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» (وَيُنْظَرُ لِجَرْحٍ وَإِرَادَتِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) لِقَوْلِ عُمَرَ فِي كِتَابِهِ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: وَاجْعَلْ لِمَنْ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْتَ لَهُ حَقَّهُ، وَإِلَّا اسْتَحْلَلْتَ الْقَضِيَّةَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ أَنْفَى لِلشَّكِّ وَأَجْلَى لِلْغَمِّ (وَيُلَازَمُ الْمُدَّعِي) فِي الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِئَلَّا يَهْرَبَ، فَيَضِيعَ حَقُّهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ فِيهَا (فَإِنْ أَتَى بِهَا) ؛ أَيْ: بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عُمِلَ بِهَا، وَإِلَّا يَأْتِ بِهَا فِي الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ (حُكِمَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ عَجْزَهُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ مُدَّعَاهُ مِنْ الْجَرْحِ.
(وَيَتَّجِهُ ثُمَّ إنْ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ) ؛ أَيْ: بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ (بِبَيِّنَةِ جَرْحٍ عُمِلَ بِهَا) لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ أَمْرًا مُمْكِنًا سَابِقًا عَلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَلَا يُسْمَعُ جَرْحٌ لَمْ يُبَيَّنْ سَبَبُهُ)(وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ) أَقْوَى أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ جَرْحٌ لَمْ يُبَيِّنْ جَارِحٌ سَبَبَهُ إنْ اخْتَلَفَ مَذْهَبُ قَادِحٍ وَحَاكِمٍ، أَمَّا (مَعَ اتِّحَادِ مَذْهَبِ حَاكِمٍ، وَمُجَرِّحٍ) بِأَنْ كَانَا يَرَيَانِ
عَدَمَ بَيَانِ سَبَبِ الْجَرْحِ، فَيُسْمَعُ الْجَرْحُ، وَلَا يُكَلَّفُ جَارِحٌ بَيَانَ السَّبَبِ؛ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (بِذِكْرِ قَادِحٍ فِيهِ عَنْ رُؤْيَةٍ أَوْ اسْتِفَاضَةٍ) بِأَنْ يَسْتَفِيضَ عَنْهُ ذَلِكَ؛ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أَسْبَابِ الْجَرْحِ كَشَارِبِ يَسِيرِ النَّبِيذِ فَقَدْ يُجَرِّحُهُ بِمَا لَا يَرَاهُ الْقَاضِي جُرْحًا (فَلَا يَكْفِي) قَوْلُ شَاهِدٍ (أَشْهَدُ أَنَّهُ فَاسِقٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ أَوْ بَلَغَنِي عَنْهُ كَذَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86](بَلْ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْته يَشْرَبُ الْخَمْرَ) أَوْ رَأَيْته يَظْلِمُ النَّاسَ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ ضَرْبِهِمْ أَوْ يُعَامِلُ بِالرِّبَا (أَوْ) عَنْ سَمَاعٍ مِنْهُ بِأَنْ يَقُولَ: (سَمِعْته يَقْذِفُ) وَنَحْوَهُ (وَيُعَرِّضُ جَارِحٌ بِزِنًا) أَوْ لِوَاطٍ.
(فَإِنْ صَرَّحَ) بِالرَّمْيِ بِالزِّنَا (وَلَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ) بِأَنْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ (حُدَّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] وَإِنْ أَقَامَ مُدَّعًى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّ هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ شَهِدَا بِهَذَا الْمُدَّعَى بِهِ عِنْدَ حَاكِمٍ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِفِسْقِهِمَا بِطَلَبِ شَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّهَا إذَا رُدَّتْ لِفِسْقٍ لَمْ تُقْبَلْ مَرَّةً ثَانِيَةً.
تَتِمَّةٌ: وَإِنْ عَدَّلَهُ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ، وَجَرَّحَهُ وَاحِدٌ قُدِّمَ التَّعْدِيلُ؛ لِتَمَامِ نِصَابِهِ، وَإِنْ عَدَّلَهُ اثْنَانِ وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ قُدِّمَ الْجَرْحُ وُجُوبًا، وَإِنْ قَالَ الَّذِينَ عَدَّلُوهُ مَا جَرَّحَاهُ بِهِ قَدْ تَابَ مِنْهُ قُدِّمَ التَّعْدِيلُ لِمَا مَعَ بَيِّنَتِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ.
(وَإِنْ جَهِلَ حَاكِمٌ لِسَانَ خَصْمٍ تَرْجَمَ لَهُ) ؛ أَيْ: الْحَاكِمِ عَنْ الْخَصْمِ (مَنْ يَعْرِفُهُ) ؛ أَيْ: لِسَانَ الْخَصْمِ.
قَالَ أَبُو حُمْرَةَ: كُنْت أُتَرْجِمُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ «وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ قَالَ: حَتَّى كُنْت أَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُتُبَهُ، وَأَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إذَا كَتَبُوا إلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.
(وَلَا يُقْبَلُ فِي تَرْجَمَةٍ وَفِي جَرْحٍ وَفِي تَعْدِيلٍ وَفِي رِسَالَةٍ) ؛ أَيْ: مَنْ يُرْسِلُهُ الْحَاكِمُ لِيَبْحَثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ (وَفِي تَعْرِيفٍ عِنْدَ حَاكِمٍ) وَأَمَّا التَّعْرِيفُ عِنْدَ شَاهِدٍ فَيَأْتِي فِي الشَّهَادَةِ (فِي حَدِّ زِنًا) وَلِوَاطٍ (إلَّا أَرْبَعَةُ) رِجَالٍ عُدُولٍ كَشُهُودِ الْأَصْلِ، (وَلَا) يُقْبَلُ فِي تَرْجَمَةٍ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا (فِي غَيْرِ مَالٍ) كَنِكَاحٍ وَنَسَبٍ وَطَلَاقٍ وَقَذْفٍ وَقِصَاصٍ (إلَّا رَجُلَانِ وَ) لَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ (فِي مَالٍ إلَّا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) لِأَنَّهُ نَقَلَ مَا يَخْفَى عَلَى الْحَاكِمِ بِمَا يَسْتَنِدُ الْحَاكِمُ إلَيْهِ أَشْبَهَ الشَّهَادَةَ (وَذَلِكَ شَهَادَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ) ؛ أَيْ: فِيمَنْ يُتَرْجِمُ أَوْ يَجْرَحُ أَوْ يُعَدِّلُ أَوْ يُرْسَلُ أَوْ يُعَرِّفُ (وَفِي مَنْ رَتَّبَهُ حَاكِمٌ يَسْأَلُ سِرًّا عَنْ الشُّهُودِ لِتَزْكِيَةٍ أَوْ جَرْحٍ شُرُوطُ الشَّهَادَةِ الْآتِيَةِ وَتَجِبُ الْمُشَافَهَةُ) فِيمَنْ يُعَدِّلُ أَوْ يَجْرَحُ وَنَحْوِهِ؛ فَلَا تَكْفِي كِتَابَتُهُ أَنَّهُ عَدْلٌ أَوْ ضِدُّهُ وَنَحْوُهُ كَالشَّهَادَةِ، وَإِذَا رَتَّبَ الْحَاكِمُ مَنْ يَسْأَلُ سِرًّا عَنْ الشُّهُودِ فَإِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ مَنْ جَهِلَ عَدَالَتَهُ كَتَبَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ وَكُنْيَتَهُ وَصَنْعَتَهُ وَسُوقَهُ وَمَسْكَنَهُ وَمَنْ شَهِدَ لَهُ وَعَلَيْهِ.
وَمَا شَهِدَ بِهِ فِي رِقَاعٍ وَدَفَعَهَا إلَى أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ، وَيَجْتَهِدُ أَنْ لَا يَعْرِفَهُمْ الْمَشْهُودُ لَهُ وَلَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَلَا الشُّهُودُ، وَيَدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ رُقْعَةً، وَلَا يُعْلِمُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَسْأَلُوا عَنْهُ، فَإِنْ رَجَعُوا بِتَعْدِيلِهِ قَبِلَهُ مِنْ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَيَشْهَدَانِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.
(وَمَنْ نُصِّبَ لِلْحُكْمِ بِجَرْحٍ أَوْ تَعْدِيلٍ، أَوْ نُصِّبَ لِسَمَاعِ بَيِّنَةٍ؛ قَنَعَ الْحَاكِمُ