الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وَمَنْ ادَّعَى قَتْلَ مَوْرُوثِهِ ذَكَرَ الْمُدَّعِي الْقَتْلَ) وَكَوْنَهُ (عَمْدًا أَوْ شِبْهَهُ أَوْ خَطَأً، أَوْ يَصِفُهُ) لِاخْتِلَافِ الْحَالِ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ: فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذِكْرِهِ، لِيَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ (وَذِكْرِ أَنَّ الْقَاتِلَ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ أَوَّلًا) أَيْ: أَنَّهُ شُورِكَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَلَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ؛ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ.
(وَلَوْ قَالَ) مُدَّعٍ إنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدَّهُ أَيْ: مُوَرِّثَهُ (نِصْفَيْنِ، وَكَانَ حَيًّا) حِينَ قَدَّهُ أَوْ أَنَّهُ ضَرَبَهُ (وَهُوَ حَيٌّ) فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ فَيُطَالَبُ خَصْمُهُ بِالْجَوَابِ.
(وَإِنْ ادَّعَى شَخْصٌ) عَلَى آخَرَ (إرْثًا: ذَكَرَ سَبَبَهُ) وُجُوبًا، لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِ الْإِرْثِ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ، فَكَذَا الدَّعْوَى.
(وَإِنْ ادَّعَى مُحَلَّى بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، وَكَانَ تَالِفًا، قَوَّمَهُ) بِالنَّقْدِ الْآخَرِ، فَإِنْ ادَّعَى مُحَلًّى بِذَهَبٍ؛ قَوَّمَهُ بِفِضَّةٍ، وَإِنْ ادَّعَى مُحَلًّى بِفِضَّةٍ؛ قَوَّمَهُ بِذَهَبٍ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ تَقْوِيمُهُ بِجِنْسِهِ إلَى الرِّبَا، قَالَ الْبُهُوتِيُّ قُلْتُ: وَكَذَا لَوْ ادَّعَى مَصُوغًا مِنْ أَحَدِهِمَا صِنَاعَةً مُبَاحَةً تَزِيدُ بِهَا قِيمَتُهُ أَوْ تِبْرًا تُخَالِفُ قِيمَتُهُ وَزْنَهُ (فَبِأَيِّهِمَا)، أَيْ: النَّقْدَيْنِ شَاءَ يُقَوِّمُ (لِلْحَاجَةِ) أَيْ: انْحِصَارِ الثَّمَنِيَّةِ فِيهِمَا (وَيُعْطَى بِقِيمَتِهِ عِوَضًا) .
[فَصْلٌ إذَا حَرَّرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ]
فَصْلٌ (وَإِذَا حَرَّرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ؛ فَلِلْحَاكِمِ سُؤَالُ خَصْمِهِ) أَيْ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (ابْتِدَاءَ الْجَوَابَ) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْمُدَّعِي لِلْقَاضِي سُئِلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِحْضَارَهُ وَالدَّعْوَى عَلَيْهِ تُرَادُ لِذَلِكَ (فَإِنْ أَقَرَّ) مُدَّعًى عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى (لَمْ يُحْكَمْ لَهُ) أَيْ: الْمُدَّعِي (إلَّا بِسُؤَالِهِ)
الْحَاكِمَ الْحُكْمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ حَقُّهُ) فَلَا يَسْتَوْفِيه الْحَاكِمُ إلَّا بِمَسْأَلَتِهِ (وَالْحُكْمُ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ قَدْ أَلْزَمْتُكَ ذَلِكَ، أَوْ قَضَيْتُ عَلَيْكَ لَهُ، أَوْ حَكَمْتُ بِذَلِكَ) أَوْ يَقُولَ أَخْرِجْ لَهُ مِنْ حَقِّهِ (وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ وَقَعَ الْحُكْمُ لَازِمًا لَا يَجُوزُ) لِلْحَاكِمِ (الرُّجُوعُ فِيهِ) أَيْ: الْحُكْمِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ (نَقْضُهُ) حَيْثُ وَافَقَ الصَّوَابَ.
وَإِنْ أَنْكَرَ الْخَصْمُ الدَّعْوَى بِأَنْ قَالَ مُدَّعٍ عَلَيْهِ لِمُدَّعٍ قَرْضًا أَوْ لِمُدَّعٍ ثَمَنًا: مَا أَقْرَضَنِي؛ أَوْ قَالَ: (مَا بَاعَنِي أَوْ قَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ مَا ادَّعَاهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ قَالَ: لَا حَقَّ لَهُ عَلَيَّ؛ صَحَّ الْجَوَابُ) لِنَفْيِهِ عَيْنَ مَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " لَا حَقَّ لَهُ " نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ كُلَّ حَقٍّ (مَا لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِسَبَبِ الْحَقِّ) فَلَا يَكُونُ قَوْلَهُ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ وَمَا بَعْدَهُ جَوَابًا، فَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ مَهْرَهَا عَلَى مُعْتَرِفٍ بِزَوْجِيَّتِهَا، فَقَالَ: لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا؛ لَمْ يَصِحَّ الْجَوَابُ، وَلَزِمَهُ الْمَهْرُ إنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِإِسْقَاطِهِ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةً أَوْ كِسْوَةً، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ قَرْضًا، فَاعْتَرَفَ بِهِ.
وَقَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا؛ لِثُبُوتِ سَبَبِ الْحَقِّ، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ مُزِيلُهُ (وَلِهَذَا)(لَوْ أَقَرَّتْ) مَرِيضَةٌ (بِمَرَضِهَا) مَرَضَ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ (وَأَنْ لَا مَهْرَ لَهَا) عَلَى زَوْجِهَا (لَمْ يُقْبَلْ) مِنْهَا ذَلِكَ (إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا أَخَذَتْهُ) نَصًّا. نَقَلَهُ مُهَنَّا (أَوْ أَنَّهَا أَسْقَطَتْهُ عَنْهُ فِي الصِّحَّةِ) يَعْنِي غَيْرَ مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ.
وَلَوْ قَالَ مُدَّعٍ لِمُدَّعًى عَلَيْهِ (لِي عَلَيْك مِائَةٌ) أُطَالِبَكَ بِهَا (فَقَالَ) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (لَيْسَ لَك عَلَيَّ مِائَةٌ؛ اُعْتُبِرَ قَوْلُهُ) أَيْ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (وَلَا شَيْءَ مِنْهَا) لِأَنَّ نَفْيَ الْمِائَةِ لَا يَنْفِي دُونَهَا كَ (يَمِينٍ) فَيَحْلِفُ إذَا وُجِّهَتْ عَلَيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ مِائَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا، وَلَا يَكْفِي الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ الْمِائَةِ (فَإِنْ نَكِلَ) عَنْ الْيَمِينِ (عَمَّا دُونَ الْمِائَةِ) بِأَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ مِائَةٌ، وَنَكِلَ أَنْ يَقُولَ وَلَا
شَيْءٌ مِنْهَا (حُكِمَ لَهُ) أَيْ: لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (بِمِائَةٍ إلَّا جُزْءًا) مِنْ أَجْزَاءِ الْمِائَةِ.
(وَمَنْ أَجَابَ مُدَّعِي اسْتِحْقَاقِ مَبِيعٍ بِقَوْلِهِ: مِلْكِي اشْتَرَيْته مِنْ زَيْدٍ مَثَلًا، وَهُوَ مِلْكُهُ؛ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ رُجُوعَهُ عَلَى زَيْدٍ بِالثَّمَنِ) أَيْ: ثَمَنِ الْمَبِيعِ الْمُسْتَحَقِّ إذَا أَثْبَتَهُ رَبُّهُ.
قَالَ فِي " تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ " وَهُوَ الصَّوَابُ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي جَاهِلًا وَالْإِضَافَةُ إلَى مِلْكِهِ فِي الظَّاهِرِ (كَمَا لَوْ أَجَابَ) مُشْتَرٍ (بِمُجَرَّدِ إنْكَارٍ) أَنَّهُ لَهُ (أَوْ اُنْتُزِعَ مِنْ يَدِهِ) أَيْ: الْمُشْتَرِي (بِبَيِّنَةِ مِلْكٍ سَابِقٍ) عَلَى شِرَائِهِ؛ فَيَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ فِيهِمَا بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ أَوْ اُنْتُزِعَ مِنْ يَدِهِ بِبَيِّنَةِ مِلْكِهِ (مُطْلَقٍ) عَنْ التَّارِيخِ فَيَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ.
(وَلَوْ قَالَ) مُدَّعًى عَلَيْهِ (لِمُدَّعٍ دِينَارًا: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ حَبَّةً؛ صَحَّ الْجَوَابُ، خِلَافًا لِابْنِ عَقِيلٍ) إذْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ حَبَّةً لَيْسَ بِجَوَابٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِي دَفْعِ الدَّعْوَى إلَّا بِنَصٍّ لَا بِظَاهِرٍ (وَيَعُمُّ الْحَبَّاتِ) ؛ أَيْ: حَبَّاتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ؛ فَتَعُمُّ (وَيَعُمُّ مَا لَمْ يَنْدَرِجْ فِي لَفْظَةِ حَبَّةٍ) أَيْ: مَا دُونُهَا (مِنْ بَابِ الْفَحْوَى) أَيْ: الظَّاهِرِ مِنْ عَرْضِ الْكَلَامِ، أَوْ يَعُمُّ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً؛ إذْ الظَّاهِرُ مِنْهُ نَفْيُ اسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مِنْ الدِّينَارِ.
وَلَوْ قَالَ مُدَّعًى عَلَيْهِ (لَك عَلَيَّ شَيْءٌ فَقَالَ) الْمُدَّعِي لَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ، وَإِنَّمَا لِي عَلَيْك أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ نَفَاهَا بِنَفْيِ الشَّيْءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ (لَكَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي عَلَيْك دِرْهَمٌ وَلَا دَانِقٌ، بَلْ) لِي عَلَيْكَ (أَلْفٌ) قُبِلَ مِنْهُ دَعْوَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى نَفْيِهِ لَيْسَ حَقِّي هَذَا الْقَدْرَ، وَلَوْ قَالَ: لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ إلَّا دِرْهَمٌ؛ صَحَّ ذَلِكَ. قَالَهُ الْأَزَجِيُّ.
وَإِنْ قَالَ مُدَّعًى عَلَيْهِ (إنْ ادَّعَيْت أَلْفًا بِرَهْنِ كَذَا لِي بِيَدِكَ أَجَبْتُ أَوْ إنْ ادَّعَيْت هَذَا الَّذِي ادَّعَيْته ثَمَنَ كَذَا بِعْتنِيهِ وَلَمْ أَقْبِضْهُ فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَلَا حَقَّ لَك عَلَيَّ فَجَوَابٌ) صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى قَيْدٍ يُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، مُنْكِرٌ لَهُ فِيمَا
سِوَاهُ.
قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمُحَرَّرِ " (لَا إنْ قَالَ) مُدَّعًى عَلَيْهِ (لِي مَخْرَجٌ مِمَّا ادَّعَاهُ) فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ ذَلِكَ جَوَابًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ (وَلِمُدَّعٍ) أَنْكَرَ خَصْمُهُ (أَنْ يَقُولَ لِي بَيِّنَةٌ) لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُهَا (وَلِلْحَاكِمِ) إنْ لَمْ يَقُلْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ (أَنْ يَقُولَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَضْرَمِيٌّ وَكِنْدِيٌّ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ هِيَ أَرْضِي وَفِي يَدِي، فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ أَلَك بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ فَلَكَ يَمِينُهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(فَإِنْ قَالَ) مُدَّعٍ سَأَلَهُ حَاكِمٌ أَلَك بَيِّنَةٌ؟ (نَعَمْ قَالَ لَهُ الْحَاكِمُ: إنْ شِئْت فَأَحْضِرْهَا، فَإِنْ أَحْضَرَهَا لَمْ يَسْأَلْهَا) الْحَاكِمُ عَمَّا عِنْدَهَا حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمُدَّعِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِلَا إذْنِهِ (وَلَمْ يُلَقِّنْهَا) الْحَاكِمُ الشَّهَادَةَ، بَلْ إذَا سَأَلَهُ الْمُدَّعِي سُؤَالَهُ الْبَيِّنَةَ قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فَلْيَذْكُرْهَا إنْ شَاءَ، وَلَا يَقُولُ لَهُمَا: اشْهَدَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ، وَكَانَ شُرَيْحٌ يَقُولُ لِلشَّاهِدَيْنِ: مَا أَنَا دَعَوْتُكُمَا وَلَا أَنْهَاكُمَا أَنْ تَرْجِعَا، وَمَا يَقْضِي عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ غَيْرُكُمَا، وَإِنِّي بِكَمَا أَقْضِي الْيَوْمَ، وَبِكَمَا أَتَّقِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ (فَإِذَا شَهِدَتْ) عِنْدَهُ الْبَيِّنَةُ (سَمِعَهَا، وَلَزِمَهُ فِي الْحَالِ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا بِسُؤَالِ مُدَّعٍ، وَحَرُمَ) عَلَيْهِ (تَرْدِيدُهَا، وَيُكْرَهُ) لَهُ (تَعَنُّتُهَا) أَيْ: طَلَبُ زَلَّتِهَا (وَانْتِهَارُهَا) أَيْ: زَجْرُهَا؛ لِئَلَّا يَكُونَ وَسِيلَةً إلَى الْكِتْمَانِ، وَلَا يُكْرَهُ (قَوْلُهُ) أَيْ: الْحَاكِمِ (لِمُدَّعًى عَلَيْهِ أَلَك فِيهَا دَافِعٌ أَوْ مَطْعَنٌ؟) بَلْ يُسْتَحَبُّ قَوْلُهُ قَدْ شَهِدَا عَلَيْك، فَإِنْ كَانَ لَكَ قَادِحٌ فَبَيِّنْهُ لِي. وَقَيَّدَهُ فِي " الْمُذَهَّبِ " وَ " الْمُسْتَوْعِبِ " بِمَا إذَا ارْتَابَ فِيهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِقَادِحٍ (وَاتَّضَحَ) لِلْحَاكِمِ (الْحُكْمُ، وَكَانَ الْحَقُّ لِمُعَيَّنٍ وَسَأَلَهُ) ؛ أَيْ الْحَاكِمُ (الْحُكْمَ؛ لَزِمَهُ) الْحُكْمُ فَوْرًا، وَلَا يَحْكُمُ بِدُونِ سُؤَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(وَلَا يَحْلِفُ مُدَّعٍ مَعَ إقَامَةِ بَيِّنَةٍ) لِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَنْ الْيَمِينِ.
(وَيَحْرُمُ الْحُكْمُ وَلَا يَصِحُّ مَعَ عِلْمِهِ بِضِدِّهِ) أَيْ: ضِدِّ مَا يَعْلَمُهُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ (أَوْ مَعَ لَبْسٍ
قَبْلَ الْبَيَانِ) وَيَأْمُرُ بِالصُّلْحِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] وَمَعَ عِلْمِهِ بِضِدِّهِ أَوْ اللَّبْسِ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا يَحْكُمُ بِهِ.
(وَيَحْرُمَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ) أَيْ: الْحَاكِمِ (لِتَرْكِهِ تَسْمِيَةَ الشُّهُودِ) قَالَ فِي " الْفُرُوعِ " وَذَكَرَ شَيْخُنَا أَنَّ لَهُ طَلَبَ تَسْمِيَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَدْحِ بِالِاتِّفَاقِ (وَيَتَوَجَّهُ مِثْلُهُ حَكَمْتُ بِكَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْتَنَدَهُ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَوْ نُكُولٍ) فَيَحْرُمُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ (لِذَلِكَ) .
(وَلَهُ الْحُكْمُ بِبَيِّنَةٍ وَبِإِقْرَارٍ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ)
(وَيُتَّجَهُ احْتِمَالُ) الْحُكْمِ بِبَيِّنَةٍ (لَا) أَيْ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ (فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَحَلِّ عَمَله) عِنْدَ انْفِرَادِهِ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ، بَلْ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ حُكْمٍ فَلَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِ غَيْرِهِ دَفْعًا لِلرِّيبَةِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ (وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ غَيْرُهُ) نَصًّا نَقَلَهُ حَرْبٌ؛ لِأَنَّ مُسْتَنَدَ قَضَاءِ الْقَاضِي هُوَ الْحُجَجُ الشَّرْعِيَّةُ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ أَوْ الْإِقْرَارُ، فَجَازَ الْحُكْمُ بِهِمَا إذَا سَمِعَهُمَا فِي مَجْلِسِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ أَحَدٌ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ مَسْلَمَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ؛ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّار» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
فَجَعَلَ مُسْتَنَدَ قَضَائِهِ مَا سَمِعَهُ لَا غَيْرَهُ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ فَبِسَمَاعِهِ أَوْلَى، وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ.
وَلَا يَحْكُمُ قَاضٍ (بِعِلْمِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ) الْمَسْأَلَةِ (وَفِي افْتِيَاتٍ عَلَيْهِ كَمَا مَرَّ) وَلَوْ فِي غَيْرِ حَدٍّ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا جَهْمٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَاحَاهُ رَجُلٌ فِي فَرِيضَةٍ؛ فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا شِجَاجٌ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ الْأَرْشَ،
ثُمَّ قَالَ: إنِّي خَاطِبٌ وَمُخْبِرُهُمْ أَنَّكُمْ قَدْ رَضِيتُمْ أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَر الْقِصَّةَ، وَقَالَ أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: لَا، فَهَمَّ بِهِمْ الْمُهَاجِرُونَ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ صَعِدَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ» ) رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيُّ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْخُذْ بِعِلْمِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُ حَدًّا عَلَى رَجُلٍ لَمْ آخُذْهُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ. وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ الْقَضَاءِ بِعِلْمِ الْقَاضِي يُفْضِي إلَى تُهْمَتِهِ وَحُكْمِهِ بِمَا يَشْتَهِي وَيُحِيلُهُ عَلَى عِلْمِهِ، لَكِنْ يَجُوزُ اعْتِمَادُ الْحَاكِمِ عَلَى عِلْمِهِ بِالِاسْتِفَاضَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَظْهَرِ الْبَيِّنَاتِ؛ وَلَا يَتَطَرَّقُ إلَى الْحَاكِمِ تُهْمَةٌ إذَا اسْتَنَدَ إلَيْهَا فَحُكْمُهُ بِهَا حُكْمٌ بِحُجَّةٍ لَا بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. ذَكَرَهُ فِي الطُّرُقِ الْحُكْمِيَّةِ (إلَّا عَلَى رِوَايَةٍ مَرْجُوحَةٍ) قَالَ الْمُنَقَّحُ: وَقَرِيبٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ عَمَلُ الْحُكَّامِ بِصُورَةٍ تُسَمَّى بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ (قَبُولِي الشَّاهِدِ الْبَاقِي) مِنْ شَاهِدَيْنِ بَعْدَ رَفِيقِهِ (الْقَضَاءَ) لِعُذْرٍ، فَيَقْضِي بِمَا سَمِعَهُ بَيْنَ الْمُقِرِّ، وَقَدْ عَمِلَ بِالطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ كَثِيرٌ مِنْ حُكَّامِنَا وَأَعْظَمُهُمْ الشَّارِحُ.
(وَيْحُكُمْ وَيَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي عَدَالَةٍ بَيِّنَةٍ وَجَرْحِهَا) بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِئَلَّا يَتَسَلْسَلَ؛ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَةِ الْمُزَكِّينَ أَوْ جَرْحِهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ لَاحْتَاجَ كُلٌّ مِنْ الْمُزَكِّينَ إلَى مُزَكِّينَ، ثُمَّ يَحْتَاجُونَ أَيْضًا إلَى مُزَكِّينَ، وَهَكَذَا.
(وَمَنْ جَاءَ) مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ (بِبَيِّنَةٍ فَاسِدَةٍ اسْتَشْهَدَهَا الْحَاكِمُ) لِئَلَّا يَفْضَحَهَا (وَقَالَ لِمُدَّعٍ زِدْنِي شُهُودًا) وَلَمْ يَقْبَلْهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] .