الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حادثة كان أقوى للقلب، وأشدَّ عناية بالمرسل إليه.
ويستلزم ذلك كثرة نزول
الملك إليه، وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل.
وقيل معنى (لنثبِّتَ به فؤادَكَ) ، أي لنحفظه، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أمِّياً لا يقرأ ولا يكتب، ففرِّق عليه ليثبت عليه حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنه كان كاتباً قارئاً، فيمكنه حفْظُ الجميع.
قال ابن فُورك: قيل أنزلت التوراة جملة، لأنها نزلت على نبي يقرأ ويكتب
- وهو موسى - وأنزل الله القرآن مفرَّقاً، لأنه نزل غير مكتوب على نبي أميّ.
وقال غيره: إنما لم ينزّل جملة واحدة، لأنَّ منه الناسخ والمنسوخ، ولا يتأتَّى
ذلك إلا فيما نزل مفرقاً.
ومنه ما هو جواب لسؤال، ومنه ما هو إنكار على قول قِيل أو فعل فُعِل.
وقد تقدّمَ ذلك في قول ابن عباس، ونزّله جبريل بجواب
كلام العباد وأعمالهم، وفَسّر به قوله: (ولا يأتونك بِمَثَل إلَاّ جئْنَاك بالحقّ
وأحسنَ تفسيراً) .
أخرجه عنه ابن أبي حاتم.
فالحاصل أن الآية تضمّنت حكمتين لإنزاله مفرقاً.
تذنيب
ما تقدم في كلام هؤلاء من أنَّ سائر الكتب أنزلت جملة ً هو مشهور في
كلام العلماء وعلى ألسنتهم، حتى كاد يكون إجماعا.
وقد رأيتُ بعض فضلاء العصر أنكر ذلك، وقال: إنه لا دليل عليه، بل الصواب أنها نزلت مفرقات كالقرآن.
وأقول: الصواب الأول، والدليل على ذلك آيةُ الفرقان السابقة.
أخرج ابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: قالت
اليهود: يا أبا القاسم، لولا أنزل هذا القرآن جملة، كما أنزلت التوراة على
موسى. فنز لت.
وأخرجه من وجهٍ آخر عنه - بلفظ: قال المشركون.
وأخرج نحوه عن قَتَادة والسدّي.
فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك، وإنما هو على تقدير ثُبوت قَوْلِ
الكفار.
قلت: سكوتُه تعالى عن الرد عليهم في ذلك وعُدُوله إلى بيان حكمته دليلٌ
على صحته، ولو كانت الكتبُ كلها مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول: إن ذلك سنةُ الله في الكتب أنزلها على الرسل السابقة، كما أجاب بمثل ذلك عن قولهم:(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ)، فقال:(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) .
وقولهم: (أبعثَ اللهُ بَشراً رسولاً) .
وقال: (وما أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك إلَاّ رجالاً نُوحي إليهم) .
وقولهم: كيف يكون رسولا ولا له همٌّ إلا النساء، فقال: (ولقد
أرْسلنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وجعَلْنَا لهم أزواجاً وذُريّة
…
) . الآية.
إلى غير ذلك.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً قولُه تعالى - في إنزال التوراة على موسى يوم
الصعقة: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) .
(وألْقَى الألْوَاحَ) .
(ولما سكتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ أخذ الألْوَاح، وفي نسختها هُدًى ورحمةٌ) .
(وإذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فوقَهُمْ كأنه ظلَّةٌ وظنوا أنه واقعٌ بهم خذُوا ما آتينَاكم بقوَّة) .
فهذه الآيات كلها دالّة على إتيانه التوراة جملة.
أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جُبير عن ابن عباس، قال: أعطي
موسى التوراة في سبعة ألواح من زَبرْجد، فيها تِبْيان لكل شيء وموعظة، فلما جاء بها ورأى بني إسرائيل عكوفا على عبادة العِجْل رمى بالتوراة من يده فتحطمت، فرفع الله منها ستةَ أسباع وأبقى سبعاً.
وأخرج من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده - رفعه، قال: الألواحُ التي أنزلت على موسى كانت من سِدْر الجنة، كان طول اللوح اثني عشر ذراعاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ثابت بن الحجاج، قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة
فكبُر عليهم فأبوا أن يأخذوه حتى ظلل الله عليهم الجبل، فأخذوه عن ذلك.
فهذه آثار صحيحة في إنزال التوراة جملة، يؤخذ من الأثر الأخير منها
حكمةٌ أخرى لإنزال القرآن مفرّقاً، فإنه أدْعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنه كان ينفر من قبوله كثير من الناس، لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي.
ويوضّح ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة، قالت: إنما نزل أول ما نزل
منه سورةٌ من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام.
ولو نزل أول شيء: " لا تشربوا الْخَمْرَ " - لقالوا: لا ندع
الخمر أبدا.
ولو نزل: " لا تَزْنوا " لقالوا لا نَدَع الزنى أبداً.
ثم رأيتُ هذه الحكمة مصرحا بها في الناسخ والمنسوخ لمكيّ.
وأخرج البيهقي في الشّعَب، من طريق أبي خَلَدة عن عمر، قال: تعلَّمُوا
القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم خمساً خمساً.
ومعناه - إن صح - إلقاؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا القَدْر حتى يحفظه، ثم يلقي إليه الباقي لا إنزاله خاصة بهذا القدر.
ويوضح ذلك ما أخرجه البيهقي أيضاً عن خالد بن دينار، قال، قال أبو
العالية: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه من جبريل خمساً خمساً.