الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى، لأن جبريل أدَّاه بالمعنى، ولم تجز القراءة
بالمعنى، لأن جبريل أداه باللفظ، ولم يبَحْ له إيحاؤه بالمعنى.
والسرّ في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه، والإعجاز به، فلا يقدر أحد
أن يأتي بلفظٍ يقوم مقامه، وإنَّ تحتَ كل حرف منه معاني لا يحيط بها كثرة.
فلا يقدر أحد أن يأتي ببدله بما يشتمل عليه، والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزّل إليهم على قسمين: قسم يَرْوونه بلفظه الْموحَى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كلّه مما يرْوَى باللفظ لشقّ، أو بالمعنى لم يؤْمن التبديل والتحريف، فتأَمل.
وقد رأيت عن السلف ما يعضّد كلام الجويني، فأخرج ابن أبي حاتم، من
طريق عقيل، عن الزّهري - أنه سئل عن الوحي فقال: الوحي ما يوحِي الله إلى نبي من أنبيائه، فيثبته في قلبه، فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام الله.
ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد، ولا يأمر بكتابته، ولكن يحدِّث به الناس حديثاً، ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه.
فصل
وقد ذكر العلماء للوحي كيفيّات:
إحداها: أن يأتِيَه الملَك في مثل صلصلة الجرس، كما صح في مسند أحمد عن
عبد الله بن عمرو: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل تحسّ بالوحي، فقال: أسمع صلاصل.
ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقْبض.
قال الخطابي: والمراد أنه صوت متداول يسمعه ولا يتبيّنه أولّ ما يسمعه حتى
يفهمه بعد.
وقيل: هو صوت خَفْق أجنحة الملَك.
والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه للوحي، فلا يُبقي فيه مكاناً لغيره.
وفي الصحيح أن هذه الحالة أشد حالات الوحي عليه.
وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد.
الثانية: أن ينفُثَ في روعه الكلام نَفْثاً، كما قال صلى الله عليه وسلم:" إن روحَ القُدس نَفث في روعي ".
أخرجه الحاكم، وهذا قد يرجع إلى الحالة الأولى أو التي بعدها.
بأن يأتي في أحد الكيفيتين وينفث في رُوعه.
الثالثة: أن يأتيه في صفة الرجل فيكلمه، كما في الصحيح: وأحياناً يتمثَّلُ لي
الملك رجلا فيكلمني فأعِي ما يقول - زاد أبو عَوَانة في صحيحه: وهو أهونُه
عليَّ.
الرابعة: أن يأتيه الملَك في النوم.
وعدّ قوم من هذا سورة الكوثر، كما رَوَى مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغْفَى إغفاءةً ثم رفع رأسه
متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله، فقال: أنزل عليَّ آنفا سورة الكوثر
…
الخ.
وقال الإمام الرافعي في أماليه: ففهموا من الحديث أنها نزلت في تلك
الإغفاءة.
وقالوا: مِنَ الوحي ما كان يأتيه في النوم، لأن روْيا الأنبياء وحي.
قال: وهذا صحيح، لكن الأشبه أن يقال: إن القرآن كله نزل في اليقظة، وكأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزّلة في اليقظة، أو عُرِض عليه الكوْثَر الذي وردت فيه السورة، فقرأها عليهم، وفسرها لهم.
قال: وورد في بعض الروايات أنه أغمي عليه.
وقد يحمل ذلك على الحالة التي كانت تَعْتَريه عند نزول الوحي.
ويقال لها بُرَحاء الوحي.
قلت: الذي قاله الرافعي في غاية الاتجاه، وهو الذي كنتُ أميل إليه قبل
الوقوف عليه.
والتأويل الأخير أصح من الأول، لأن قوله إنما يدفع في كونها
نزلت قبل ذلك، بل نقول: نزلت في تلك الحالة، وليست الإغفاءة إغفاءةَ نوم، بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا.