الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ما أصاب مِنْ مصِيبةٍ في الأرض ولا في أنْفُسكم)
.
معناها أنَّ الأمور كلها مقدَّرة مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن
تكون.
قال صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء.
والمصيبة هنا عبارة عن كل ما يُصيب من خير أو شر.
وقيل أَراد به المصيبة في العُرْف، وهو ما يصيب من الشر، وخص ذلك
بالذكر، لأنه أهم على الناس.
فانظر هذا اللطف العظيم من هذا الرب الكريم في
دعاء عباده بهذه الآية إلى إراحة أنفسهم شفقةً عليهم وهي قطب دائرة العبادة
عليه، ومدارها، وهو ثبات الباعث عليها، ألا ترى ما وعدهم به من الأجر على الصبر على المصائب مع ما في الرضا بها من الراحة والسلامة، وما في الجزع من الهمِّ والغمِّ والعقوبة، وكيف يسخطُ الجاهل بعواقب الأمور، وإنما أجهلك بها لتسأله أَنْ يختارَ لك ما لا تختاره لنفسك، إذ هو عالم بما يصلح لك، والكلام على هذه الآية طويل تكفّل بجمعه علماء أجلة كالغزالي وابن عطاء الله والقشيري وغيرهم، جزاهم الله عنَّا ما هو أهله.
فإن قلت: قد فصل في هذه الآية مصائب الأرض، كالزلازل والقحوط.
وفي أنفسكم بالمرض والموت والفقر، وأجمل في التغابن، فما الحكمة؟
فالجواب إنما فصل فيها موافقة لما قبلها، لأنه فصَّل في سورة الحديد أحوال
الدنيا والآخرة بقوله: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) .
فناسب ذلك التفصيلُ التفصيلَ في الآية.
وأما سورة التغابن، فناسب الإجمال الوارد فيها من ذلك المشترك، وتحصَّل نظم السورتين على أَتَمِّ مناسبة.
فإن قلت: ما لنا نفرح بالخير ونجزع من الشر، وقد قال تعالى:(لكيلا تَأسوْا على ما فاتَكمْ ولا تَفْرَحوا بما آتاكم) .
وقد قال أبو بكر رضي الله عنه لما أوتي بمال كثير: اللهم لا نستطيع أن نفرح إلَاّ بما زيَّنت لنا.
وقد حثى أيوب من الجراد الذي سقط عليه، فقال الله له: ألم يكن فيما أبليتك - أي أعطيتك - غِنًى عن هذا، فقال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركاتك.
فالجواب أن النهي إنما هو عن الفرح الذي يعود إلى الكبر والطغيان، وعن
الحزن الذي يخرج عن الصبر والتسليم.
وقد ذكر القرافي فرقاً بين الرضا بالقضاء وبين الرضا بالمقضيِّ.
وضرب له مثلاً بالطبيب إذا وصف للعليل دواءً مرًّا، أو قطع يده المتآكلة.
فإن قال بئس ترتيب الطبيب ومعالجته، وكان غير هذا يقوم
مقامه بما هو أيسر فهو تسخّط بقضاء الطبيب، وإذاية له، وجناية عليه، بحيث لو سمعه الطبيب كره ذلك، وشقَّ عليه.
وإن قال: هذا، لدواء مرٌّ قاسيْتُ منه شدائد، وقطع اليد لي منها آلام عظيمة مبرّحة فهذا سخْطٌ بالمقضي الذي هو الدواء والقَطْع لا بالقضاء الذي هو ترتيب الطبيب ومعالجته، فهذا ليس يقدح في الطبيب، ولا يؤلمه إذا سمع بذلك، بل يقول له: صدقت، الأمر كذلك، فعلى هذا إذا ابتلي الإنسان بمرض فتألم من المرض بمقتضى طبعه فهذا ليس عدم رضا بالقضاء، بل عدم رضاً بالمقضيِّ.
وإن قال: أي لشيء عملته حتى أصابني مثل هذا، أو ما ذَنْبي، أو ما كنت استَأهِل مثل هذا، فهذا عدم رضا بالقضاء، فنحن مأمورون بالرضا بالقضاء، ولا نتعرض لجهة ربنا إلا بالإجلال والتعظيم، ولا نعترض عليه في ملكه.
وأما أنَّا أُمِرْنا أن تطيب لنا البلايا والرزايا ومؤلمات الحوادث فليس كذلك، ولم ترد الشريعة بتكليف أحد ما ليس في طبعه، ولم يُؤمر الرَّمِدُ باستطابة الرمد المؤلم، ولا غيره من المرض، بل ذمَّ اللهُ قوماً لا يتألّمون ولا يجدون للبأساء وقْعاً بقوله:(ولقد أخذناهم بالعذاب فما اسْتَكَانوا لربِّهم وما يتَضَرَّعون) ، فمن لم يتمسكن، ويذل للمؤلمات، ويظهر الجزع منها، ويسأل ربه إقالة العثرة - فهو جبار عَنِيد، وشيطان مَرِيد.
فإن قلت: يفهم من هذا أن من قدر الله عليه بمعصيته يجب عليه الرضا بها.
وليس كذلك؟
فالجواب أن الرضا بالمقضيّ قد يكون واجباً كالإيمان بالله والواجباتِ إذا
قدرها الله للإنسان، وقد يكون مندوباً في المندوبات، وحراماً في المحرمات.
والرضا بالكفر كفر، ومباحاً في المباحات.
وأما بالقضاء فواجب على الإطلاق