الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يضرّه، فالذي أضافكَ إليه مع عصيانك أتراه لا يرزقك، أو إن رجَعتَ
إليه لا يَقْبَلك، أو إن استغفرته لا يغفر لك، كلا، والله، بل يقبلك على ما
فيك من العيوب، فسبحان مَنْ خلق الْخَلق ليرزقهم، ويظهر قدرته فيهم.
ويُميتهم ليظهر قَهْرَه، ويُحْييهم ليظهر جلالته، ويدخلهم جنّتَه ليظهر فَضْله، ويعذبهم ليظهر عدله فيهم ونِقْمته، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) .
(عَطَاءً حِسَاباً) :
أي كافياً، من أحْسَبَه الشيء إذا كفاه.
وقيل معناه على حسب أعمالهم.
ويقال أصل هذا أن تعطيه حتى يقول حَسْبي حسبي، فهناك أعطاهم بغير حساب.
وفي موضع قال: (كَفى بنَا حاسِبِين) .
وهم العاملون بالفَضْل.
وفي موضع قال: (كفى بنفسك اليومَ عليك حَسِيباًَ) .
وهم مَنْ أراد اللَّهُ أن يعامِلهم بالعدل.
(عَسْعَس) : من الأضداد.
ويقال عسعس الليل: أقبل ظلامه في أوله، وقيل في آخره.
وهذا أرجح، لأنَّ آخر الليل أفضله، ولأنه أعقبه بقوله:(والصبح إذا تنَفَّس) ، أي استطار واتسع ضَوْءه.
(عَدَّلك)، بتشديد الدال: قوَّم خَلْقك، وبالتخفيف: صرفك إلى ما يشاء من الصورة في الْحُسْن والقبْح، والطول والقصر، والذكورة
والأنوثة، وغير ذلك، من اختلاف الصور.
وبالجملة فابن آدم من أكرم المخلوقات في تعديل صورهم في أيديهم، والمشي
على أرجلهم، وانتصاب قامتهم، وتركيب أجسادهم، والعلم والعقل، والأكل باليمين، وسَتْر العورة، واللباس، والرجال باللّحى، والنساء بالذوائب.
فتأمَّلْ يا ابن آدم في هذه الكرامات التي أكرمك بها، وأضافك بالكرامة
إليه، في قوله:(ما غَرَّكَ بربِّكَ الكريم) .
وإلى رسوله في قوله: (إنه لقَوْلُ رسولٍ كريمٍ) .
وإلى كلامه في قوله: (إنه لقرآن كريم) .
وإلى مدخل رحمته: (وندخلكَم مدْخَلاً كريماً) .
وإلى تفصيل
أعضائك من عَظْم ولحم، ومخ وعصب وعروق ودم، وجلد وظفر وشعر، كل واحد منها لحكمة، لولاها لم يكن الجسد بحسب العادة، فالعظائم منها هي عمود الجسد، فضمّ بعضها إلى بعض بمفاصِلَ وأقْفال من العضلات والعصب - ربطت بها، ولم يجعلها عظماً واحداً، لأنك ترجع مثل الحجر، ومثل الخشبة، لا تتحرك، ولا تجلس ولا تقوم، ولا تركع ولا تسجد لخالقك، وجعل العصب على مقدار مخصوص، ولو كان أقواها هو لم تصحّ عادة حركةِ الجسم، ولا تصرّفه في منافعه، ثم خلق الله تعالى المخَّ في العظام في غاية الرطوبة، ليرطب يَبس العظام وشدّتها، ولِتَقْوى العظام برطوبته، ولولا ذلك لضعفت قوّتها، وانخرم نظام الجسم لضعفها بحسب مجرى العادة.
ثم خلق اللحم، وعبّأه على العظم، وسدّ به خللَ الجسد كله، فصار مستوياً لحمة واحدة، واعتدلت هيئة الجسد به، واستوت.
تم خلق العروق في جميع الجسد جداولَ لجريان الغذاءَ فيها إلى أركان الجسد.
لكلّ موضع من الجسد عددٌ معلوم من العروق صِغَاراً وَكباراً، ليأخذ الصغير
من الغذاء حاجَته والكبير حاجتَه.
ولو كانت أكثر مما هو عليه أو انقص، أو على غير ما هي عليه من الترتيب - ما صحَّ من الجسد بحسب العادة شيء.
ثم أَجْرَى الدمَ في العروق سيّالاً خاثراً، ولو كان يابسا أو أكثف مما هو عليه لم يَجْرِ في العروق.
ولو كان ألطف مما هو عليه لم تتغذ به الأعضاء.
ثم كسا اللحم بالجلد، ليَسترَه كلَه، كالوعاء له.
ولولا ذلك لكان قشرا أحمر.
وفي ذلك هلاكه.
تم كساه الشعر وقاية للجلد وزينة في بعض المواضع.
وما لم يكن فيه الشعر جعل له اللباس عوضاً منه، وجعل أصوله مغروزة في اللحم ليتمَّ الانتفاغ ببقائه وَلِين أصوله، ولم يحعلها يابسة مثل رؤوس الإبر، إذ لو كانت كذلك لم يَهْنِه عَيْش.
وجعل الحواجبَ والأشفار وقاية للعين، ولولا ذلك لأهلكها الغبار والسقط.
وجعلها على وَجْهٍ يتمكن بسهولة من رَفْعِها على الناظر عند قَصْد النظر، ومن
إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر إلى ما تُؤذى برؤيته ديناً أو
دنيا، ولم يجعل شعرها طبقاً واحدا لينظر من خللها.
ثم خلق شَفَتيْنِ ينطبقان على الفَمِ يَصُونان الفمَ والحَلْق من الرياح والغُبار.
وينفتحان بسهولة عند الحاجة إلى الانفتاح.
ولما فيهما أيضاً من كمال الزينة وغيرها.
ثم خلق بعدها الأسنان ليتمكن بها من قطع مأكوله وطَحْنِه.
وجعل اللسان الذي يجمَعُ به ما تفرى من المأكول في أرجاء الفم، ليتمكن تسهيله للابتلاع بطَحْن الأرحاء، وخلق فيه معنى الذوق لكل مأكول ومشروب.
وَلم يخلق جَلّ وعلا الأسنان في أول الخلقة لئلا يضر بأمِّه في حال رضاعه بالعَضِّ، ولأنه لا يحتاج إليها حينئذ لضعفه عما كثف من الأغذية التي تفتقر إلى الأسنان، فلما كبر وترعرع وصلح للغذاء خلق له الأسنانَ، وجعلها نوعين: بعضها محددة الأطراف، وهي التي للقطع، يقطع بها المأكول، وبعضها بسيطة وهي التي للطحن، فسبحانه! ما أكثر عجائب صُنْعه، وأوسع الآيات الدالة عليه! ولكن لا نبصر شيئاً إلا بتوفيق الله تعالى.
ثم لما كان المأكول شديداً كثيفاً، ولم يكن مجرى في الفم إلى الْحَلْق - وهو
كذلك على يبسه - أنبع الله تعالى في الفم عيْناً نَبّاعة على الدوام أحْلَى من كل حلو، وأعذب من كل عذب، فيحرك اللسان الغذاء، ويمزجه بذلك الماء، فيعود زلقاً، فينحدر في الحلق بلا مؤونة، ولهذا إذا أبدل الله تعالى تلك العين جفوفاً من المرض لم يَمْضِ على الحلْق شيء، وإن مضى فبمشقَّة عظيمة، ومن عجيب هذه العين أنها مع عدم انقطاعها لم يكن ماؤها يملأ الفم في كلّ وَقْتٍ حتى يتكلفَ الإنسان مؤونة عظيمة في طَرْح ذلك عنه.
جرت على وَجْه الحكمة فيه أن تعدد أوْجُه منفعتها، (فتبارك الله أحسن الخالقين) .
ثم خلق أظفار اليدين والرجلين، لتشتدَّ بها أطرافها، لكثرة حركتها.
والتصرف بها في الأمور، وليحكّ بها، وينتفع في موضع الحاجة.
وانظر إلى خلْق الأصابع، وجعلها مفرقة ذات مفاصل، ليتمكن بذلك من
قَبْضها وبَسْطِها بحسب الحاجة.
ولما كان الشّعر والظّفر مما يطول لما في طولها من الصالح لبعض الناس، وفي
بعض الأوقات، وكان جَزّها مما يحتاج إليه في بعض الأوقات، لم يجعلها كسائر الأعضاء في تألم الإنسان بقطعها.
فانظر إلى دقائق هذا الصنع الجليل، وحُسْن المعاني مِنْ ربّ جميل لجميع
الحيوان، وخص هذا الآدمي بخصائص وحِكم يُعْجِز ذكرها.
وقد أشرنا إلى بعضها، وقد ذكر أهل التشريح تفصيلها.
وبالجملة فهذا الآدميّ هو العالَم الأكبر، وجميع المخلوقات هو العالم
الأصغر، وكيف لا وقد جمع الله فيه ما تفرق في كلّ الأشياء، فإن كان للسماء علوّ فللآدَمِيّ القامة.
وإن كان في الفلك شمس وقمر فللآدمي العينان.
وإن كان له نجوم فللآدمي الأسنان.
وإن كان للفلك الدوران فللآدمي السير.
وإن كان للسماء القطر فلعين الآدمي الدمعة.
وإن كان للبرق لمعة فللآدمي اللمحة.
وإن كان للأرض الزلزلة فلنفس الآدمي الرّعْدة.
وإن كان للأرض القرار فللآدمي السكون والوقار.
وإن كان في الأرض الأنهار فللآدمي العروق.
وإن كان للأرض النبات والأشجار فلنَفْسِ الآدمي الشعور.
وإن كان في السماء العرش فهمّة المؤمن أعلى وأعظم، وهي متعلقة بالمولى.
وإن كان في السماء الجنّة فللمؤمن القلب، وهو أزين منها، لأن الجنة محل الشهوة، والقلب محل المعرفة، وخازن الجنة رضوان وخازن قلب المؤمن الرحمن.
"إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".
وفي رواية:" القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبه كيف يشاء".
اللهم يا مقَلِّبَ القلوبِ ثبت قلوبنا على طاعتك، وأعِنْها على عبادتك، وهَبْ لها أرواحاً تَقودها إلى مشاهدتك، فإنك قلت:(والسابقون السابقون أولئك الْمقَرَّبون) .
(فأصحاب الْمَيْمَنَةِ ما أصْحَاب الْمَيْمَنَةِ) ، وأعِذْنا من أرواح أصحابِ المشأمة.