الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا رسول الله ُبِس على كلمةٍ سبع سنين، فكيف بك يا عاص خمسين سنة
أو أكثر، فتفكر بقلب وَاع، كيف يكون حالُك، فإن أردت الحال الحميدة
فعليك بالتوبة والإقلاع، فإن الله أمنك في الدنيا بقوله تعالى:(فلا يخاف ظُلْماً ولا هَضْماً) .
وفي حال النزع: (ألَاّ تخافوا ولا تحزنوا) .
وفي القيامة: (لا خوف عليكم ولا أنتم تحْزَنون) .
وفي الجنة: (ادخلوها بسلام آمنين) .
(نَكتَل) :
وزنه نفتعل، وهذا من قول إخوة يوسف لأبيهم
حين أرادوا المعَاوَدة إلى الطعام بسبب المجاعة التي كانت ببلادهم.
ورُوي أن جبريل قال ليوسف: إن إخوتك جاءوا إليك فبم تعاملهم، فقال:
آذَوْني كثيراً، ولا أرى إلَاّ العفو والتجاوز.
فقال له: بهذا أمرك الله.
قال بعض العلماء: إخوة يوسف جاءوا إليه ثلاث مرات:
أولاً محتاجين سائلين، فأكرمهم وأعطاهم النعمة، وقال: اجعلوا بِضَاعَتهم في رِحَالهم.
وجاءوا في الثانية متكبّرين فَرِحين (1)، فرجعوا مغمومين حين قال لهم يوسف: ارْجعوا إلى أبيكم، لأن يوسف كان ملكاً، والملوك لا تحبّ المتكبرين.
وجاءوا في المرة الثالثة بالابتهال والتضرع، فرجعوا فرحين مسرورين، لأن يوسف عليه السلام كان رحيما، والرحيم يحب مَنْ تضرع.
(نمير أهْلَنا ونحفَظُ أخانا ونَزْدَاد كَيْلَ بَعير) :
هذا من كلام إخوة يوسف لما قال لهم: ائتوني بأخ لكم من أبيكم.
فطلبوا من أبيهم، وواعدوه بالميرة وهي سوق الطعام، وواعدوه بحفظ أخيهم لما تقدَّم منهم من الجفاء، وعدم الوفاء، وأخبروه بوفاء الملك لهم إنْ أتوه به، وأعانهم يوسفٍ على ذلك، فجعل البضاعةَ في رحالهم ليكون لهم تقوية على الرجوع إلى مصر مرة أخرى، حتى يرى يوسف أخاه، وكذلك كتم اللَّهُ بضاعة الإيمان في قلب المؤمن ليكون له تقوية للوصول إلى جنته، حتى يرى المولى، فلما سمع يعقوب مقالهم أسْلم لهم بنيامين وأخذ عليهم العَهْدَ:(لَتَاْتنَّنِي به إلا أنْ يُحَاط بكم) ، أي تغلبوا، فلا تطيقون.
(1) لا دليل عليه.
فدخلوا على يوسف وهو على سرير في حجاب، فلما رآه بنيامين تذكر
يعقوب وبكى بكاء كثيرا، ثم أمر الحاجب بسؤالهم عن أبيهم، فسألهم، فقالوا له: هو في البكاء والحزن والتضرع، ثم أمر برفع الحجاب، فسلَّموا جميعا عليه، وأعطاه بنيامين كتابَ أبيه، فأخذه وقَبّله، ثم أرْخَى الستر عليه، وقرأ الكتاب، فإذا فيه الوصية على ولده، وما جرى ليوسف من قبله، فبكى وغيض دَمْعُه، ثم أمر بالطعام فأحضر، وأمرهم بالجلوس مَثْنَى مثنى، من كان لأب وأم مائدة واحدة، فبقي بنيامين وَحيداً فبكى، فسألهم مِمّ بكاؤه، فقالوا: كان له أخ لأمه فأكله الذئب، فقال يوسف: اجلس معي يا فتى، ولا تأكل وحيداً، فلما دنا من يوسفِ ورآه غُشي عليه، فلما أفاق قال له يوسف:(أنا أخوك فلا تَبْتَئس بما كانوا يعملون) .
والنكتة فيه أنَّ بنيامين كان وحيداً متحيّراً غريباً، فقال له يوسف: أنا
أخوك، وموسى كان متحيّراً غريبا، فقال الله له:(إني أنا ربك فاخْلَعْ نعْلَيْك) .
كذلك العاصي إذا تحيَّر في بعض المعاصي والذنوب، يقول الله تعالى: (إني أنا
الغفور الرحيم) - يعني إذا تاب وأقلع.
وقد قدمنا أن الله تعالى وعد بغفران ذنوبه وتبديلها حسنات ومحبّته ودخول
الجنة وفلاحه.
فإن قلت: كيف عرفهم هو ولم يعرفوه، وعرفه بنيامين؟
والجواب أن يوسف كان وفيّاً وإخوته جفاة، فشؤم الجفاء أعمى قلوبهم حتى
لم يعرفوه، لأن الجفاء يمنع المعرفة والصفاء، جفاء يوسف أثَر في قلوبهم حتى لم يعرفوه، فمن جَفَا مولاه سبعين سنة أو أكثر كيف لا يخاف منه أن يسلبه معرفته وقْتَ النزع، قال تعالى: (ونقَلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم
…
) .
وقد صح أن الجفاء يأتي بالغضب، ويذهب بالعفَّة، ويأتي بالمخالفة.
ويذهب بالمراقبة، ويأتي بالمنازعة، ويذهب بالصلح، ويأتي بالفرقة، ويذهب
بالوصلة، ويأتي بالبغْض، ويذهب بالمودة، ويجعل صاحبه أجنبيا، ويذهب
بالصلح.
وقيل: إنما عرفهم لأنهم كانوا على صفتهم التي رآهم يوسف أوَّلاً، ولم يكن
يوسف على الصفة التي كان عليها من الصغر.
وقيل: إن يوسف لم يقطع الرجاء عن رؤيتهم، بل كان يتفكر فيهم، فلذلك
عرفهم، وهم قطعوا الرجاء عن رُؤْيته، فلذلك لم يعرفوه.
والإشارة فيه أنَّ قَلْبَ العبد إذا كان مشغولاً بمحبة الرب عرفه من غير
رؤية.
وقلب الكافر كان مشغولاً بمحبة الصنم فلذلك لا يعرفه حين يرى الدلائل
الظاهرة.
وقيل: إنه كان مُتَبَرْقِعاً، فلذلك لم يعرفوه، ودخلوا عليه وهو على هيئة
عظيمة من الملك (1) .
وقصته من أولها إلى آخرها عجيبة، كما قال تعالى:(آياتٌ للسائلين) .
قد تكفل بجمعها وما فيها من النكت والإشارات والفوائد الإمام الهمداني وهو
عجيب لمن تأمّله.
(نَزغً الشيطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوتي) ، أي أفسد وأغوى.
وإنما قال يوسف هذا القول لما رأى من لطف الله تعالى، حيث أضاف الكذب
إلى القميص، فتأدَّب وأضاف ذَنْبَهم إلى الشيطان والإخوة إلى نفسه، ولم يَنْفِهِم عن نفسه، لكيلا يهتك أستارهم، وتسوء ظنونهم.
وكذلك قال الله تعالى: (إنما استَزَلَّهم الشيطانُ ببَعْض ما كَسَبُوا) .
حتى تتأدب الملائكة بذلك، فلا يذكرون في القيامة زلّتك ولا يهتكون سترك.
(نَار السَّموم) : أي حرها.
وهذا من قول إبليس بزَعْمِه الفاسد أن النار أقوى من الطين، وليس كذلك، بل هي في درجة واحدة من حيث هي جاد مخلوق، فلما ظنَّ إبليس أن صعودَ النار وخفّتها تقتضي فَضْلاً على سكون الطين وبلادته قاس أن ما خلق منها أفضل مما خلق من الطين، فأخطأ قياسه، وذهب عنه أن الروح الذي نفخ في آدم ليس من الطين.
(1) أكثر ما ذكر في قصة يوسف عليه السلام من أباطيل وأكاذيب بني إسرائيل.