الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: (خَيْر من اللَّهْوِ ومن التجارة) قدم اْللَّهوْ، ليبين أنَّ ما عند الله خير
من اللهو، وأنه أيضاً خير من التجارة التي هي أعظم منه، ولو عكس كل واحد من الموضعين لم يحسن.
فإن قلت: لِمَ قال صلى الله عليه وسلم في المتخلفين والمنفضّين: لولا هؤلاء لعذبوا بالحجارة، وهل ذلك خاصّ بالجمعة أو بسائر الصلوات لو تخلفوا عنه، ولِمَ قال في الجمعة:(فاسعوا إلى ذكر الله) .
وقال صلى الله عليه وسلم في الصلاة ائتوها وعليكم السكينة
والوقار بغير سرعة؟
فالجواب لما جهلوا قَدْرَ هذا الرسول صلى الله عليه وسلم عذبوا لولا أنَّ الله دفع عنهم بمن عرف حقَّ الله وحق رسوله، كما قال تعالى:(ولولا دَفْعُ الله الناسَ بعضهم ببعض) ، وهذا خاصّ بالجمعة، لأنها عملٌ وذكر، وهو الخطبة، وسائر الصلوات عمل، ولذلك تُسمَّى يوم الجمعة عند أهل الجنة يوم المزيد، يزدادون فيه جمالاً وحسناً كما يزدادُ أهلُ الدنيا هرماً وضعفاً، وتُعْرَفُ عند أهل السماء بيوم الخير، وعند أهل الكتاب يوم التوبة، وعند أهل الزَّبُور بسيِّد الأيام، وفي الفرقان يوم الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم: يوم الجمعة حَجّ المساكين، لأنه يشبه الحج لإتيان المكلَّف
إليها بعد النداء، كالحج: وأذِّن في الناس، وإذا نُودي للصلاة.
وفي الغسل لها، كما يغتسل للحج، وزادت الجمعة بإباحة الطيب والتزيُّن والخطبة التي كانت في الحج يوم عَرفة.
ولما حرم الصيد في الإحرام وأبِيح بعده حرّم البيع والشراء عند
صلاة الجمعة، وأبيح بعدها، وابتغاء الفضل كما في مريد الحج، قال تعالى:(ليس عليكم جُنَاح أن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ ربكم) ، ويسعى إليها من بعيد، كما يسعى إلى الحج من كل فَجّ عَمِيق، وأمِر المكلف بالذكر بعد الفراغ منها، كما أمر الحاج به في قوله:(فاذكُروا الله كذِكْرِكم آباءَكم) .
وقال في الحج: (فإن خَيْرَ الزَّادِ التقوى) .
وقال في الجمعة: (قُلْ ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة) .
والإجماعُ على أنَّ يوم الجمعة أفضلُ من يوم عرفة للحديث: "خَيْرُ يوم
طلعت عليه الشمسُ يوم الجمعة، فيه تقوم الساعة، وفيه - خُلق آدم.
.. الحديث.
(مَنْ يُؤْمِن بالله يهْدِ قَلْبَه) :
قيل معناه من يؤمن بأنّ كل
شيء بإذن الله يهْدِ الله قلْبَه للتسليم والرضا بقضاء الله، وهذا حسن، إلَاّ أنّ
العمومَ أحسن مضه.
(ما استَطَعْتم) :
(ما) ظرفية، وهذا ناسخ لقوله:(اتقوا اللهَ حَقَ تُقَاته) .
وروي أنه لما نزلت هذه الآية شقّ ذلك على الناس حتى نزل: (ما استطعتم) .
وقيل: لا نسخ بينهما، لأن (حق تقاته) معناه فيما استطعتم، إذ لا يمكن أن يفعل أحدٌ إلَاّ ما يستطيع.
فهذه الآية على هذا مُبَيِّنَة لتلك، وتحرَّز بالاستطاعة من الإكراه والنسيان، وما يؤاخذ به العبيد.
(مَنْ يُوقَ شحَّ نَفْسِه) : هو بخْلها وطمعها، فمن وقِيها
وُقِي شرَّ الدنيا والآخرة.
وقيل: إنها نزلت في الطلاق.
ومعناها من يتَّقِ الله فليطلق طلقة واحدة حسبما تقتضيه السنَّة.
(يجعل له مَخْرَجاً) ، بجواز الرجعة متى ندم على الطلاق.
وفي هذا المعنى روي عن ابن عباس أنه قال لمن طلَّق ثلاثاً: إنك لم تتَّق اللهِ
فبانت منك امرأتك، ولا أرى لك مخرجاً، أي لا رَجعة لك.
والصحيح أنها على العموم، وأنَّ من يتَّق الله في أفعاله وأقواله يجعل له مخرجاً، فيدخل في ذلك الطلاق وغيره.
وروي أنها نزلت في عَوْف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أُسِر ولده وضيّق
عليه رزقه، فشكَا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره بالتقوى، فلم يلبث إلا يسيراً وانطلق ولده ووسّع الله عليه رزقه.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال - حين قرأ هذه الآية: مَخْرَجاً من شبهات الدنيا، وغمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة.
وقال صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آوية لو أخذ الناس بها لكفتهم: ومن يَتّقِ الله
…
) الآية.
فإن قلت: إن الله تعالى تكفّل بأرزاق العباد على الجملة، فما فائدة قوله:
(ويَرْزقْه من حيث لا يَحْتَسِب) .
فالجواب أن الرزق مضمون لكل حيّ طولَ عمره، وهو الغذاء الذي به تقوم
الحياة، قال تعالى:(ومَا مِنْ دَابّةٍ في الأرض إلا على الله رِزْقها) .
وأما رزق المتقين فوعْدُ الله لهم أن يأتيهم بسهولة من غير تَعب، كما قال صلى الله عليه وسلم:"تكفّل اللَّهُ لطالب العلم برزقه".
وفي حديث آخر: "استنزلوا الرزق بالصدق".
مصداقه قوله تعالى: (ولو أنَّ أهْلَ الكتاب آمَنوا واتّقَوا لكفَّرْنا عنهم
سيئاتهم) .
فبيَّن لك سبحانه أنهم لو عملوا بما في التوراة والإنجيل لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، أي لَوَسَّعْنا عليهم أرزاقنا، وأغدقنا عليهم إنفاقَنا، لكنهم لم يفعلوا ما نحبّ، فلذلك لم نفعل ما يحبون.
وانظر كيف تكفّل الله سبحانه بالرزق لعباده تعريفا بوداده، ولم يكن ذلك
واجباً عليه، بل أوجبه على نفسه إيجاب كرم وتفضّل، كأنه يقول: أيها العبد ليست كفالتي ورزقي خاصّاً بك، بل كلّ دابة في الأرض أنا كافِلها ورازقها، وموصِّل إليها قوتَها، فاعلَمْ بذلك سعةَ كفالتي، وغناء ربوبيّتي، وأنَّ شيئاً لا يخرج عن إحاطتي ورعايتي، فثِقْ بي كفيلاً، واتخذني وكيلاً، فإذا رأيتَ ذكري لأصناف الحيوان، ورعايتي إياها، وقيامي بحسن الكفالة لها وأنت أشرف هذا النوع، فأنت أولى بأن تكون لكفالتي واثقاً، ولفضلي رامقاً، ألا تراني قلت:(ولقد كرَّمْنَا بَني آدَم) ، أي على سائر أجناس الحيوان إذ دعونِاهم إلى خدمتنا، ووعدناهم دخول جنتنا، وخطبناهم إلى حضرتنا، ومما يوضَح لك كرامة الآدمي على غيره من المكونات أن المكونات مخلوقات من أجله، وهو مخلوق من أجل حضرة الله، فإذا علمت أن الأكوان مخلوقة من أجلك إمّا انتفاعا وإما اعتباراً، وهو نفع أيضاً، فينبغي لك أن تعلم أن الله سبحانه إذا رزق مَنْ هو مخلوق من أجلك كيف لا يكون لك رازقاً، فاستَحْييِ منه أن تكون بعدما كساك حُلّةَ الإيمان، وزَيّنَك بزينة العرفان، أن تستَوْلِيَ عليك الغفلة والنسيان، حتى تميل إلى الأكوان، أو تطلب من غيره وجوهَ امتنان.
وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا أوْفوا بالعقود) .
ومن العقود التي عاقدْتَه عليها ألا ترفع حوائجك إلا إليه ولا تتوكل إلا عليه، ولازِم