الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعبُّدُ لله بالجلوسِ المجرَّدِ بلا سببٍ يَقترِنُ به؛ فليس عبادةً في ذاتِه.
حكمُ السجودِ بسببٍ وغيرِ سببٍ:
ومِن أعمالِ الصلاةِ: السجودُ؛ وهو أعظَمُ أعمالِ الصلاة، وأعظَمُ مِن القيامِ والركوعِ والجلوس، وأقرَبُ ما يكونُ العبدُ إلى ربِّه، وهو ساجدٌ، ويُشرَعُ في الصلاةِ وفي غيرِ الصلاة، وفي غيرِ الصلاةِ؛ كسجودِ التلاوةِ والشُّكرِ والآية، واختلَفَ العلماءُ في جوازِ التعبُّدِ للهِ بالسجودِ بلا سببِ على قولَينِ:
والأصحُّ: عدمُ جوازِ ذلك؛ لأنَّه لو كانَ مشروعًا، لَدَلَّ الدليلُ على التعبُّدِ بالسجودِ؛ فهو أيَسرُ للمسلِمِ مِن إنشاءِ الصلاة، وقياس جوازِهِ على جوازِ الصلاةِ خطأٌ؛ فإنَّ الصلاةَ قد دلَّ الدليلُ على جوازِها بسببٍ وبغيرِ سببٍ؛ فشرَعَ اللهُ النوافِلَ المُطلَقة، ولم يَشرَعِ السجودَ المُطلَقَ، وهو أيسَرُ وأسهَلُ وأولى لو كان جائزًا أن يَرِدَ الدليلُ في جوازِه.
ثم إنَّه لم يثبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يسجُدُ بلا سببٍ، لا هو ولا أصحابُه، وكلُّ السجودِ المرويِّ عنهم فكان لسببٍ خارجٍ عن مجرَّدِ السجودِ؛ كالتلاوةِ؛ فلولا التلاوةُ ما سجَدَ، وكسجودِ الآيةِ؛ فلولا الآيةُ ما سجَدَ، وكسجودِ الشكرِ؛ ولولا ظهورُ النِّعْمةِ ما سجَدَ.
والقولُ بمشروعيَّةِ السجودِ بلا سببٍ: يُعطِّلُ الصلاةَ، ولو كان، لَظهَرَ العمل به في السالفِين؛ فإنَّ السجودَ أَعظَمُ أعمالِ الصلاة، وتتشوَّفُ الناسُ إليه؛ ومِن ذلك ما جاءَ في "صحيحِ مسلمٍ" مِن قولِهِ صلى الله عليه وسلم:(عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ؛ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً)(1)، والمرادُ بذلك: الصلاةُ، لا السجودُ المجرَّدُ، فاللهُ يُسمِّي
(1) أخرجه مسلم (488).
الصلاةَ سجودًا؛ وذلك لأنَّ الشيءَ يُسمَّى بأعظَمِ ما فيه. أو بالعظيمِ به، كما يُسمَّى الإنسانُ رَقَبةً، فيُقالُ: عتَقَ رَقَبةً، ويُقالُ في الحيوانِ والإنسانِ: رَأسٌ لأنَّ الرأسَ أعظَمُ ما فيه.
ومِن العلماءِ: مَن يقولُ بأسبابٍ تُجيزُ السجودَ غيرِ منصوصٍ عليها في الشريعةِ؛ وإنَّما أدخَلُوها مِن بابِ الاجتِهادِ؛ فحمَلَ بعضُ الناسِ قولَهُمْ ذلك على جوازِ التعبُّدِ بالسجودِ بلا سببٍ، وليس كذلك، كما ينقُلُهُ بعضُهم عن ابنِ تيميةَ؛ أنه قال:"ولو أرادَ الإنسانُ الدُّعَاءَ، فعَفَّرَ وجهَهُ للهِ فِيِ التراب، وسجَدَ له لِيَدْعُوَهُ؛ فهذا سجودٌ لأجلِ الدُّعَاء، ولا شيءَ يَمنَعُه"(1).
وابنُ تيميةَ أنَّما جعَلَ سببًا جائزًا للسجود، ولم يَجعَلِ السجودَ بلا سببٍ جائزًا، وفرقٌ بين هاتَيْنِ الحالتَين، وقد نصَّ ابنُ تيميَّةَ على كراهةِ السجودِ بلا سببٍ، كما في "اختياراتِ البعليِّ"(2).
وكثيرٌ مِن العلماءِ على كراهةِ السجودِ بلا سببٍ، ونصَّ على تحريمِهِ الجُوَينيُّ وأبو حامدٍ الغزاليُّ والنَّوويُّ والعِزُّ بن عبد السلام، وغيرُهم كثيرٌ.
ومِن الفقهاءِ -خاصَّةً أهلَ الرأي المتأخرينَ منهم- من يُجيزُ ذلك، ويتوقَّفُ في مشروعيَّته، والسجودُ عبادةٌ إن لم يكنْ مشروعًا فهو ممنوعٌ.
وظاهرُ سجودِ السَّحَرَةِ: إمَّا سجودُ آيةٍ لِمَا رأَوْا مِن دلائلِ حقِّ اللهِ عليهم، وإمَّا لأجلِ الدُّعاءِ بقَبُولِ التوبةِ وغُفرانِ ذنبِهم، وإمَّا أنْ يكونَ لإثباتِ إيمانِهم بالله، فإنَّ الأفعالَ أَثبَتُ مِن الأقوالِ؛ فأرادُوا أن يُبيِّنُوا
(1)"الفتاوى الكبرى"(5/ 340).
(2)
"الاختيارات الفقهية" لابن تيمية (ص 92).
أنَّهم يَسجُدونَ لغيرِ فِرْعَوْنَ وَيعبُدُونَ اللهَ وحدَهُ، وقد يكون اجتمعتْ فيهم تلك الأسباب كلُّها، واللهُ أعلَمُ.
* * *
لمَّا دخَلَ بنو إسرائيلَ في التِّيه، أعطاهُمُ اللهُ الطعامَ والشرابَ، وقد جعَل اللهُ الشرابَ بعَدَدِهِمْ؛ فقد كانوا اثنَيْ عشَرَ سِبْطًا، لكلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ يَشْرَبُ منها هو ومَنْ معه، رَوَى عِكْرِمةُ، عن ابنِ عبَّاسٍ، قال:"ذَلِكَ فِي التِّيهِ؛ ضَرَبَ لَهُمْ مُوسَى الْحَجَرَ، فَصَارَ فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا مِنْ مَاءٍ، لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَينٌ يَشْرَبُونَ مِنْهَا"(1).
ورَوَى النَّسَائيُّ، عن سعيدٍ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عبَّاس؛ قال:(فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ، وَأعْلَمَ كُلِّ سِبْطٍ عَينَهُمُ الَّتِي يَشْرَبُونَ مِنْهَا" (2).
وبنحوِه قال مجاهدٌ وجُوَيْبِرٌ وغيرُهما (3).
وفي هذا: أنَّ الأصلَ مساواةُ الرعيَّةِ في العطيَّة، فإنَّ هذا أقوَمُ لصفاءِ نفوسِهم، وقضاءِ وَطَرِهم، وقطعًا للنِّزاعِ بينَهُمْ وبينَ مَن يَلِي أمْرَهم.
(1)"تفسير الطبري"(2/ 7).
(2)
أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(11263).
(3)
ينظر: "تفسير الطبري"(2/ 7)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 122).