الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخَذَ أصحابُهُ كعُمَرَ خلافَ تقديرِهِ في أهلِ اليمنِ؛ فقد جعَلَ الجِزْيةَ على ثلاثِ أحوال: على الغنيِّ ثمانيةً وأربعينَ دِرْهَمًا، وعلى المتوسِّطِ أربعةً وعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وعلى الفقيرِ اثنَيْ عشَرَ دِرْهَمًا (1)، وقد أخَذ على تَغلِبَ ضِعفَيْ ما على المُسلِمينَ (2).
وهكذا فَهِمَ غيرُ واحدٍ مِن فقهاءِ السَّلَفِ؛ أنَّ الأمرَ على اليَسَارِ والمُصالَحةِ بحسَبِ اختلافِ البُلْدانِ؛ ففي البخاريّ، عن ابنِ عُيَيْنةَ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ؛ قال: قلتُ لمجاهِدِ: ما شأنُ أهلِ الشَّامِ عليهم أربعةُ دنانيرَ، وأهلُ اليمنِ عليهم دينارٌ؟ قال: جُعِلَ ذلك مِن قِبَلِ اليَسَارِ (3).
وذهَبَ إلى أنَّ قيمةَ الجِزْيةِ غيرُ مقدَّرةٍ كالزَّكَاة، وأنَّهم بحسَبِ ما يتَصالَحُونَ عليه معَ عدوِّهم - جماعةٌ مِن الأئمةِ؛ كعطاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ وأبي عُبَيْدٍ، وهو آخِرُ أقوالِ أحمدَ؛ كما حكاهُ الخَلَّالُ، ورجَّحَهُ ابنُ تيميَّةَ وغيرُهُ.
الحِكْمةُ مِن الجِزْيةِ:
وللجِزْيةِ حِكَمٌ متعددةٌ في تشريعِها وأَخْذِها مِن الكفَّارِ:
منها: إغناءُ اللهِ للمؤمِنِينَ مِن فَضْلِه؛ ليَقْوَوْا بأنفُسِهم على عدوِّهم.
ومنها: الصَّغارُ على الكافرينَ، ومنها: إبقاءُ الكفارِ ليُخالِطوا المُسلِمينَ ويرَوْهم؛ فبَدَلًا مِن قَتْلهم يُترَكونَ ليُشاهِدوا المُسلِمينَ، ويَألَفوا الإسلامَ، ولو قُتِلوا لاستحَقُّوا النارَ.
ومنها: علوُّ يدِ المؤمنينَ في الأرضِ.
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(10722) و (32643)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 196).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 216).
(3)
"صحيح البخاري"(4/ 96).
وقد اختُلِفَ في مُقابِلِ الجزاءِ المقصودِ مِن الجِزْيةِ؛ فالجزيةُ في أصلِها مشتقَّةٌ مِن الجزاء، كأنَّها جَزاءٌ لشيءٍ أو أشياءَ منهم، ولمَّا كان عمرُ لم يأخُذْهَا باسْمِ الجِزْية، وإنَّما باسمِ الصَّدَقةِ؛ دلَّ على أنَّ ثَمَةَ جزاءً فوقَ الصَّغَارِ للجِزْية، ولمَّا كان أصلُ أَخدِ المالِ على أيِّ حالٍ معَ تَرْكِ القتلِ يتضمَّنُ علوَّ يدٍ للمُسلِمينَ وظهورًا على الكافرينَ، كان الأصلُ في أَخْذِ الجِزْيةِ هو عِصْمةَ دمِهم وتَرْكَهُمْ بعدَ القُدْرةِ عليهم؛ كما هو قولُ مالكٍ، وكذلك فقد جعَلَ الشافعيّ سبَبَ أخدِ الجِزْيةِ هو عِصْمةَ دمِهم وسُكْناهم دارَ المُسلِمينَ، وجَرَيان حُكْمِ المُسلمينَ عليهم؛ قال الشافعيَّةُ:"وأشدُّ الصَّغَارِ على المرءِ: أنْ يُحكَمَ عليه بما لا يعتقِدُهُ، ويُضطَرَّ إلى احتمالِه"(1).
ومَن كان قادرًا عليهم، عرَضَ الجِزْيةَ عليهم مُقابِلَ تَرْكِهم في دارِه، مع القدرةِ عليهم؛ بحِمَايَتِهم لو نزَلَ بهم عدوُّ أنْ يَدفَعَ عنهم المُسلِمونَ ولا يَترُكوهم.
ولا يجوزُ للمُسلِمينَ مُصالَحَةُ عدوِّهم بلا جِزْيةِ ولا خَرَاجٍ وهم قادِرونَ عليهم بالإجماع، إلَّا في حالِ الحاجةِ والضرورةِ؛ كما فعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحُدَيْبِيَة، وإذا كَثُرَ الأعداءُ على المُسلِمينَ، وتكالَبَتْ عليهم الأممُ وهم في حالِ ضَعْفٍ وتفرُّقٍ، فلهم المصالَحةُ والمهادَنةُ بلا خَرَاجٍ ولا جِزية، ولكنه خِلافُ الأصل، يخَعمَلُ المُسلِمونَ على عدَمِ دَوَامِه، ولا إطالةِ أمَدِه.
(1)"روضة الطالبين"(10/ 316).