الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثاني: مذمومٌ، وهو إرهابُ المؤمِنِ وتخويفُهُ، ويَلحَقُ بالمؤمِنِ صاحبُ الأمانِ والعهدِ والذِّمَّةِ مِن الكافرِينَ، وفي المسلم قد قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(مَنْ أَشَارَ إلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَلعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أخَاهُ لِأَبيِهِ وَأُمِّهِ)، رواهُ مسلمٌ (1).
ويحرُمُ ترويعُ المؤمنِ وتخويفُهُ وإرهابُهُ ولو بالشيءِ اليسيرِ؛ كما عندَ أبي داودَ، عن عبد الرحمنِ بنِ أبي ليلى؛ قال: حدَّثَنا أصحابُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَامَ رَجُل مِنْهُمْ، فَانْطَلَق بَعْصُهُمْ إِلَى حَبْلِ مَعَهُ فَأَخَدَهُ، فَفزعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا)(2).
وفي السُّنَنِ؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لَا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لَاعِبًا أَو جَادًّا، فَمَنْ أخَذَ عَصَا أَخِيه، فَلْيَرُدَّهَا إِلَيْهِ)(3).
وقول اللَّهِ تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} ، فيه إشارةٌ إلى أنَّ اللهَ يحقِّقُ بقوةِ المؤمنينَ مَنافِعَ لا يُدرِكونَها بحِسِّهم، وَيدفَعُ عنهم شرورًا مِن عدوِّ لم يَحسِبُوا له حسابًا، وإنَّما يُخالِفُ ضعيفُ الإيمانِ ربَّه؛ لأنَّه يُدرِكُ مِن الظاهرِ شيئًا وَيَغيبُ عنه الباطنُ كلُّه أو جُلُّه؛ وهذا مِن ضَعفِ اليقينِ باللهِ؛ فاللهُ أمَرَ بإعدادِ العُدَّةِ للمشرِكِيِنَ الأبعَدِينَ بمَكَّةَ؛ لكسرِ شوكتِهم، وآخَرِينَ - وهم اليهودُ - مِن دُونِهم سينكسِرونَ تَبعًا يَتربَّصونَ بحقدٍ وعداوةٍ، لا يُدرِكُ المُسلِمونَ قَدْرَها وقوَّتَها لو تسلَّطُوا.
المَصَالِحُ والمَفَاسِدُ الباطِنةُ والظاهِرةُ اللازمةُ لأحكامِ اللهِ:
والمنافِعُ والمصالِحُ والمَضَارُّ والمَفاسِدُ التي يجعلُها اللهُ في لوازِمِ أوامرِهِ ونواهِيهِ على قسمَيْنِ:
(1) أخرجه مسلم (2616).
(2)
أخرجه أبو داود (5004).
(3)
أخرجه الترمذي (2160).
الأوَّلُ: ظاهرةٌ، أو تُسمَّى مكتسَبةً، وهي التي يراها الناسُ في المادِّيَّاتِ والمحسوسات، والغالبُ هي مِن المكتَسَباتِ؛ كالغنائمِ والأسْرَى وظهورِ الأمرِ والغَلَبَةِ وبَسْطِ الأرضِ؛ وهذا ما يَربِط الناسُ انقيادَهُمْ به مهما كان إيمانُهُمْ قويَّا أو ضعيفًا، ويمتازُ أهلُ الصِّدْقِ واليقينِ بالانقيادِ للأوامرِ واجتنابِ النواهي ولو لم تَظهَرِ المنافِعُ والمصالِحُ محسوسةً.
الثاني: الباطنُة، وتُسمَّى مدفوعةً، وهي التي لا تُرَى؛ وإنَّما هي شرٌّ مدفوعٌ كان مقدَّرًا، فدُفعَ بامتثالِ الأمرِ واجتنابِ النهي، وكثيرٌ مِن امتثالِ الأوامرِ كالجهادِ وإعدادِ العُدَّةِ والقُوَّةِ لا يَلْمُسُ الناسُ أثَرَهُ؛ لأنَّ كثيرًا منه شرُّ مدفوعٌ لا خيرٌ مكتسَبٌ، فربَّما قاتَلَ المُسلِمونَ امتثالًا لأمرِ الله ولم يَفتحُوا أرْضًا ولا مِصْرًا، ولم يَغنَموا عَرَضًا مِن الدُّنيا، وقد دفَعَ اللهُ يقتالِهم ذلك عنهم مِن الشرورِ وتسلُّطِ الكفارِ عن بُلْدانِ الإسلامِ ما لا يخطُرُ بِبَالِ أحدٍ، مع أنَّهم لم يكسبُوا شيئًا ظاهرًا؛ وإنَّما دفَعَ اللهُ به شرًّا عظيمًا؛ فإنَّ الكفارَ لا يَقِفُونَ عندَ حَدِّ ولا مَطِمَع، في فإذا رأوْا بأسَ المُسلِمينَ في أقصى الأرض، كُسِرَت مطامعُهُمْ عن أدْنى بُلْدانِ المُسلِمينَ فضلًا عن قَلْبِها.
فلو تُركَتْ تلك الأوامرُ لعَدَمِ المكتسَبِ المحسوس، لَفَتَحَ اللهُ بابًا مِن الشرورِ المدفوعةِ لا طاقةَ للمُسلِمينَ بها، ولا أعظَمَ فتنةً في الدِّينِ ممَّن يعيشُ بي قلب بلادِ الإسلامِ آمِنًا في عِرْضِهِ ومالِهِ ودمِه، ثم يقعُ في مُقاتِلينَ في ثغُورِ بأطراف بلادِ الإسلامِ بحُجَّةِ أنَّهم لم يَكسِبُوا شيئًا، ولو تَرَكُوا ما هم فيه، لَمَا توقَّفَ العدوُّ على ما هو عليه، ولَمَّا أمِنَ على نفسِه، ولكنَّ للهِ تقديرًا وتدبيرًا يَدفَعُ به عن الأمَّةِ شَرًّا بأقوامِ صالِحِين؛ ليعيشَ غيرُهُمْ صلاحَ دِينِهم ودُنياهم وهم في غَفْلةِ ولا يَعلَمون ما لو فُتِحَ
عليهم مِن ذلك البابِ المُغلَق، وأحسِبُ أنَّ لأولئك المُقاتِلينَ مِن أجرِ ما أَمِنَتْ به الأمَّةُ بسببِهم، وما أقاموهُ بسبب ذلك مِن صلاةٍ وزكاةٍ ونُسُكِ وذِكرِ ودُعَاءٍ وصِلَةِ رَحِمِ وعمارةِ المساجدِ وغيرِ ذلك، واللهُ أعلَمُ.
قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].
تقدَّمَ الكلامُ على المُسالَمةِ والمُوادَعةِ والمُهادَنة، ومعنى السَّلْمِ والسِّلْمِ بفتحِ السِّينِ وكسرِها في سورة البقرةِ عندَ قولِهِ تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208]، وتكلَّمْنا على المَعنيَيْنِ: معنَى الدخُولِ في الإسلام، والسلمِ الذي هو بمعى المُسالَمةِ والأمان والمُهادَنةِ؛ كما في هذه الآيةِ.
وآيةُ البابِ هذه قد اختلَفَ العلماءُ مِن السلفِ في نَسْخِها على قولينِ:
قال بعضُ السلفِ: إنَّها منسوخةٌ، ومَن قال بالنَّسخ، اختلَفُوا في الناسخِ لها:
فرُوِيَ عن عِكْرِمةَ والحسَنِ: أنَّها منسوخةٌ بقولِهِ تعالى في سورةِ براءةَ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29](1).
وقيل: نُسِخَت بآيةِ القتالِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] قاله قتادةُ (2).
(1)"تفسير الطبري"(11/ 253)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(5/ 1725).
(2)
"تفسير الطبري"(11/ 252).
وقيل: نُسِخَتْ بسورةِ براءةَ؛ فقد نسَخَتْ كلَّ مُوادَعةٍ.
وقيل: نَسَخَها قولُهُ: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35]؛ حُكِيَ هذا عن ابنِ عبَّاسِ (1).
وأنكَرَ الطبريُّ القولَ بالنسخ، ومِثُلُهُ ابنُ كَثِيرِ (2)، وغيُرُهما، وهو كذلك، حتى قال الطبريُّ في قولِ مَن قال بالنَّسْخِ: "لا دَلَالةَ عليه مِن كتابِ ولا سُنَّةٍ ولا فِطْرة عقلٍ (3).
وذلك أنَّ الآيةَ التي جعَلَها قتادةُ ناسخةً هي في كفارِ قريشٍ ومَن في حُكْمِهم مِن الوثَنيِّينَ، وآيةُ براءةَ فيها قتالُ العدوِّ عندَ القُدْرةِ عليه، والمُهادَنةُ عندَ كَثْرتِه.
وقال أكثَرُ العلماءِ: إنَّها ليست بمنسوخةٍ، بل مُحكَمةٌ، وليس فيها إبطالُ القتال، ولا الأمرُ بمُطلَقِ المُسالَمةِ والمُهادَنةِ والمُوادَعة، وهي محمولةٌ على كلِّ مَعاني السَّلْمِ التي تصلُحُ للمُسلِمينَ وتُصلِحُ حالَ الكافرينَ: كانْ يَقبَلَ الكُفَّارُ الإسلامَ؛ فلا حاجةَ لقتالِهم؛ لأنَّ غايةَ الغاياتِ تحقَّقتْ؛ ولهذا فسَّرَ ابنُ إسحاقَ (السَّلْمِ) في الآيةِ بالإسلامِ (4)، وإن طلَبَ الكفارُ أن يَدفَعُوا الجِزْيةَ ولا يرغَبونَ في القتال، فيُنزِلونَهم عليها كما في التوبةِ ويأتي، وإنْ رَغِبُوا في الهُدْنةِ والمُسالَمةِ إلى أمَدٍ وكان للمُسلِمينَ مصلحةٌ، فلهم فعلُ ذلك، كما فعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحُدَيْبِيَةِ وغيرِها.
ومَن قال بإحكام الآية، لم يَجعَلْها أصلًا يُناقِضُ الجهادَ ويُعَطُلُه؛ فإنَّه لم يقُلْ بذلك أحدٌ؛ وإنَّما جعَلُوا القتالَ للمُعانِد، والسَّلْمَ لمَن تجوزُ مُصالَحَتُه.
(1)"تفسير القرطبي"(10/ 63).
(2)
"تفسير ابن كثير"(4/ 84).
(3)
"تفسير الطبري"(11/ 254).
(4)
"تفسير الطبري"(11/ 253).