الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كفايةٍ عندَ جماهيرِ العُلَماءِ؛ خِلافًا لقولِ طائفةٍ مِن المالكيَّة، وقد صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصلَّى أصحابُهُ مِن بعدِه، ولم يَتْرُكوا جنازةَ مسلمٍ يُصلَّى على مِثْلِهِ إلَّا أدَّوْا حقَّ اللهِ فيه.
وقولُه تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} دليلٌ على أنَّ المنافِقَ والمُجاهِرَ الفاسِقَ والمُعلِنَ بكَبيرتِهِ: لا يُصلِّي عليه إمامُ المُسلِمينَ، ويُترَكُ لعامَّةِ الناسِ؛ زَجْرًا لأمثالِه، وتنفيرًا لهم مِن سابقِ فِعالِه.
صلاةُ الجنازةِ على الكافرِ وأهلِ الكَبَائر، والصلاةُ على القَبْرِ:
وقد أجمَعَ المُسلِمونَ على تحريمِ الصلاةِ على الكفار، ولا يَحِلُّ الاستغفارُ لهم.
وكلُّ صاحبِ كبيرةٍ وبدْعةٍ مُعلِنٍ بها، فالأَولى لإمامِ المُسلِمينَ والقُدْوةِ الرَّأْسِ فيهم ألَّا يُصلِّيَ عليه؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ على ماعز ولم يَنْهَ عن الصلاةِ عليه، وفي مُسلمٍ؛ مِن حديثِ جابرِ بنِ سَمُرةَ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ على قاتِلِ نَفْسِهِ (1).
وفي قولِه تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} دليلُ خِطَابٍ على استحبابِ القيامِ عندَ القبرِ بعدَ الدَّفْن، والدُّعاءِ لصاحبِه، لمَغْفِرةِ والعفوِ والصفحِ.
وأمَّا الصلاةُ على القبرِ بعدَ دَفْنِه، فقد وقَعَ فيه خلافٌ عندَ العلماء، ومنَعَ منه مالكٌ، وخصَّهُ أبو حنيفةَ بالوالي والوليِّ؛ وذلك إذا فاتَتِ الصلاةُ؛ باعتبارِ أنَّ الصحابةَ لم يتَّخِذوهُ عادةً، وقد سُئِلَ مالكٌ عن صلاةِ النبيِّ على قبرِ المرأةِ؟ فقال: قد جاء هذا الحديثُ، ولكنْ ليس عليه العمَلُ (2).
ولو ثبتَتِ الصلاةُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم على القبر، فلم تَكُنْ منه عادةً،
(1) أخرجه مسلم (978).
(2)
"الاستذكار"(8/ 246).
وأمَّا مَن يتَّخذُها عادةً ويتَوانَى عن شهودِ الجنائز، ويتَعمَّدُ تركَ الصلاةِ عليها قبلَ دَفْنِها؛ لكونِه مُدْرِكًا لذلك بعدَ الدفن، فهذا ليس مِن السُّنَّة، ولا ينبَغي أنْ يُحكَى فيه خلافٌ.
ومَن فاتَتْهُ الصلاةُ قبلَ الدَّفْنِ لسببِ غيابِهِ وتعذُّرِ شهودِهِ لِمَن يَعرِفُهُ، أو مَنْ له حقٌّ عليه، أو لصاحبِ فضلٍ، فإنَّه يُصلِّي عليه بعدَ دفنِه، وقد صَلَّتْ عائشةُ على قَبْرِ أخيها عبد الرحمنِ (1)، وابرُ عُمَرَ على قبرِ أخيه عاصمٍ (2)، وجاء ذلك عن جماعةٍ مِن السَّلَفِ؛ كابنِ سِيرِينَ (3)، وسَلْمانَ بنِ ربيعةَ (4)، وغيرِهما.
* * *
في هذه الآياتِ: بيانٌ لوجوبِ النفيرِ عندَ قيامِ مُوجِبِه؛ بدليلِ الخِطَابِ؛ فإنَّ اللهَ لم يَرفَعِ الحرَجَ عن المعذورينَ إلَّا لوجودِهِ على غيرِهم.
(1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(6539)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(11939)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 49).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(11940).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(11941).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(11938).
ومُشارَكةُ الضعفاءِ للمنافِقينَ في الوصفِ الظاهرِ - وهو التخلُّفُ عن الجهادِ - تقتضي بيانَ عُذْرِهم، وحِفْظَ فضلِهم، وهذا مِن مَقاصِدِ الآيةِ؛ فقد يَشتبِهُ بعضُ أهلِ الخيرِ ببعضِ أهلِ الشرِّ في الظاهرِ عمَلًا أو تَرْكًا، والأَوْلى بيانُ عُذْرِ أهلِ الخيرِ؛ حتى لا يتَواسى أهلُ النِّفاقِ بهم، فيَختِلِطَ عندَ الناسِ أَمْرُهم، فلا يميِّزوا أهلَ الصِّدْقِ مِن أهلِ النَّفاقِ والكَذِبِ.
وقولُه تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} رفَعَ اللهُ الحرَجَ عن الضعفاء، وهم الذين يَرغَبونَ في الوصولِ إلى الشيء، وَيعجِزونَ عن ذلك، وقيل: إنَّ هذه الآيةَ ناسخةٌ لقولِهِ تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]؛ كما قاله السُّدَّيُّ وغيرُه (1).
والضَّعْفُ عن القدرةِ على الجهادِ على نوعَيْنِ:
النوعُ الأولُ: ضَعْفُ البدَن، وهو اللازِمُ فيه، وهو ضَعْفُ البدنِ مِن هُزَالٍ أو مَرَضٍ مِن عَرَجٍ أو عَمًى أو صَمَمٍ، وغيرِ ذلك مِن عِلَلِ الأبدانِ التي تُضعِفُ الإنسانَ عن لِقاءِ العدوِّ.
النوعُ الثاني: ضَعْفُ العُدَّة، فلا يَجِدُ سِلاحًا يُقابِل به العدوَّ، ولا مَرْكَبًا يَحمِلُه إلى مكانِ الغزوِ وَيركَبُه، فيَكُرُّ ويتحيَّزُ ويتحرَّفُ، ولا طعامًا يتَفوَّتُهُ في طريقِهِ ورِباطِه.
وهذانِ النوعانِ مِن الضَّعْفِ الذي يُعذَرُ بمِثْلِهِ صاحبُهُ في تَرْكِ الجهادِ الذي يتعيَّنُ عليه لو كان قادرًا.
قولُه تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فيه إشارةٌ إلى عفوِ اللهِ عنِ المُجتهِدِ الذي بذَلَ وُسْعَهُ في الإحسانِ ووقَعَ منه تقصيرٌ لم يُرِدْهُ، وقد استَدَلَّ بها بعضُ الفقهاءِ على سقوطِ الدِّيَةِ عمَّن استَوْفَى حقَّه في القصاصِ مِن خَصْمِهِ فيما دُونَ النفسِ - كقَطْعِ اليَدِ
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(6/ 1803).
والرِّجْل، وفَقْءِ العينِ - وتحرَّى العدلَ، ثم مات المُقتَصُّ منه؛ أنه لا دِيَةَ عليه؛ وبهذا قال مالكٌ والشافعيُّ وجماعةٌ، خلافًا لأبي حَنيفةَ.
ومِثلُ ذلك مَنْ دافَعَ عن نفسِهِ مِن دفعِ صائلٍ مِن إنسانٍ أو حيوانٍ؛ كفَحْلٍ هاجَ عليه فدفَعَهُ، أو رمَاهُ بما لا يُدفَعُ عادةً إلَّا به، فمات؛ فإنَّه لا دِيَةَ عليه؛ لأنَّه بِفِعْلِ ذلك مُحسِنٌ، ولم يَكُنْ قاصدًا للسُّوء، والمُحسِنُ لا سبيلَ عليه.
ومِثْلُ ذلك مَنْ قامَ بإنقاذِ غريقٍ أو حريقٍ أو هديمٍ، وجذَبَهُ بما لا يخرُجُ إلَّا بمِثْلِه، فقطَعَ يدَهُ أو جرَحَهُ أو أتلَفَ لِباسَهُ أو مَرْكَبَتَه، ومِثلُهم الذين يَعمَلونَ في إنقاذِ النفوسِ مِن الحوادثِ والكوارثِ فيُحسِنونَ إلى الناس، فيُصيبُ الناسَ منهم ضرَرٌ في أنفُسِهم وأموالِهم، ولم يَقصِدوا الإساءةَ، وتَحَرَّوُا الإحسانَ؛ فليس عليهم ضمانٌ على الصحيحِ.
وفرقٌ بينَ الخطَأِ الذي لم تأذَنِ الشريعةُ بمُباشرتِهِ ولا الإحسانِ فيه، وبينَ ما أَذِنَتِ الشريعةُ بمباشَرَتِهِ والإحسانِ فيه:
فأمَّا الأولُ: فكمَنْ يَسيرُ في شأنِه، فدَعَسَ بالخطَأِ رجُلًا أو أتلَفَ مالًا، فهذا عليه الضَّمَانُ؛ لأنَّ الشريعةَ لم تأذَنْ له بمُباشَرةِ التعرُّضِ للإنسانِ ولا للحيوانِ في تلك الحالِ.
وأمَّا الثاني: فكما سبَقَ ممَّن أذِنَتْ له الشريعةُ بالتعرُّضِ للإنسانِ وللحيوانِ الصائلِ ولإنقاذِ الغريق، وإنَّما لَحِقَتِ الجِنايةُ مَن أذِنَتِ الشريعةُ بالإحسانِ في رَفْعِ شَرِّهِ والعدلِ فيه، فمَنْ لم يقصِّرْ فيما أُذِنَ له بمباشَرَتِه، فهو مُحسِنٌ، واللهُ يَقولُ:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فبَيَّنَ بقولِه:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} رَفْعَ الحَقِّ في الدُّنيا؛ إذْ لا سَبيلَ عليهم، وبَيَّنَ بقولِه:{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} رفْعَ الإثمِ في الآخِرةِ.
وقولُه تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فيه عُذْرُ الفقيرِ العاجزِ عن الجهادِ الذي لا يَجِدُ ما يَحمِلُه، ولا يجِدُ طعامًا، ولا وليًّا يَخْلُفُهُ في أهلِه، فهو معذورٌ في تَرْكِهِ للجهادِ؛ لقولِه:{أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} ، فلم يَمنَعْهم إلَّا عجزُ المالِ.
وعلامةُ صِدْقِ أولئك الذين جاؤوا: أنَّهم لم يأتوا معتذِرينَ مع عَجْزِهم، بل جاؤوا راغِبينَ في أنْ يَحمِلَهم؛ فالمُعتذِرُ عن حَمْلِهم هو رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لم يَجِدْ بُدًّا مِن ذلك؛ لقِلَّةِ الظَّهْرِ.
وقد قيلَ: إنَّهم لم يَسْأَلوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ظَهْرًا يَركَبونَه، ولكنَّهم سأَلُوهُ نِعَالًا تَحْمِلُهم وتَحْمِيهِم مِن الحَرِّ ووَخْزِ الأرضِ؛ لأنَّهم حُفاةٌ لفقرِهم، كما رُوِيَ عن الحسنِ بنِ صالحٍ، وإبراهيمَ بنِ أَدْهَمَ (1).
ولعِظَمِ النيَّةِ فقد كتَبَ اللهُ لناوي الخيرِ الحريصِ عليه ولم يتيسَّرْ له - أَجْرَ مَن قام به، ومنهم هؤلاء الضُّعَفاءُ الذين رَدَّهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لقِلَّةِ ما يَحمِلُهم؛ ففي "الصحيحِ"؛ مِن حديثِ أنسٍ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ بِالمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَهُمْ بِالمَدِينَةِ؟ قَالَ:(وَهُمْ بِالمَدِينَةِ؛ حَبَسَهُمُ العُذْرُ)(2).
وفي قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} أنَّ النَّفْسَ الصادقةَ تَحزَنُ على فَوْتِ الخيرِ لها، ولو كانَتْ مأجورةً عليه بلا عَمَلٍ؛ لقَصْدِها وعَجْزِها، وهذا يكونُ فيمَن عَظُمَ إيمانُه، وقد ذكَرَ اللهُ الباكينَ الذين لا يَجِدُونَ مَحمَلًا يَحمِلُهم إلى الجهادِ في سِيَاقِ المدح لهم، وبِمِقْدارِ قوَّةِ إيمانِ العبدِ يكونُ حزنُهُ على ما فاتَهُ مِن الطاعة، وكلَّما ضَعُفَ إيمانُهُ، قَلَّ تأثُّرُهُ، حتَّى يَبلُغَ بالمنافِقِ الفرَحُ بفَوْتِ
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(6/ 1863).
(2)
أخرجه البخاري (4423).
الطاعةِ وعُذْرِهِ بتَرْكِها؛ ولهذا قال اللهُ عن المؤمنينَ: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} ، وقال عن المُنافِقينَ:{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة: 87]؛ فالعبادةُ واحدةٌ، ولكنَّ المؤمِنَ حزينٌ على فَواتِها، والمُنافِقَ راضٍ فَرِحٌ بذلك.
وفي الآيةِ: عِظَمُ الإيمانِ باللهِ وأثَرُهُ على بيعِ النفوسِ له، فيَبْكونَ أنَّهم لا يَجِدُونَ مَن يأخُذُ نفوسَهُمْ إلى حيثُ مَصْرَعُها في جَنْبِ اللهِ.
واللهُ لم يَمْدَحْهم لمجرَّدِ الحَزَنِ؛ وإنَّما لأنَّ الجالِبَ له محمودٌ، وهو حُبُّ الطاعةِ وكَرَاهةُ فَوْتِها، ولا يَبْكي على فَوْتِ الطاعةِ إلَّا قويٌّ الإيمانِ بالله، كما بَكَى الصحابةُ ألَّا يَجِدُوا ما يَحمِلُهم معَهُ في سبيلِ الله، وفرقٌ بينَ المؤمِنِ والمُنافِقِ؛ فالمؤمِنُ يُريدُ الجهادَ وهو عاجزٌ، ويَبْكِي إنْ لم يَجِدْ، والمنافِقُ يَعتذِرُ وهو غنيٌّ ويَفرَحُ لعُذْرِه:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} .
* * *
هذه الآيةُ نزَلَتْ فيمَن تخلَّفَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الغَزْوِ وليسوا بمَعْذُورِينَ، فنَدِموا على تخلُّفِهم بعدَ ذَهَابِ الغُزَاة، وحاسَبُوا أنفُسَهم، ولمَّا رجَعَ الناسُ، ربَطوا أنفُسَهم بالسَّواري مُعتذِرينَ، عارِضينَ لأموالِهم في سبيلِ اللهِ؛ رجاءَ العَفْوِ والتوبةِ عليهم، ثم أُطلِقوا وأُخِذَ مِن أموالِهم صَدَقةٌ؛ كما رَوَى عليٌّ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ قال: "جاؤوا بأموالِهم - يَعني: أبا لُبَابَةَ وأصحابَهُ - حينَ أُطلِقُوا، فقالوا: يا رسولَ الله، هذه أموالُنا فتَصَدَّقْ بها عَنَّا، واستَغْفِرْ لنا، قال: (مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِن أَمْوَالِكُمْ