الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَسْجِدُ الذي أُسِّسَ على التَّقْوَى:
اختُلِفَ في المرادِ بالمسجدِ الذي أُسِّسَ على التَّقْوَى المذكورِ في الآية، وتَردَّدَ قولُ السلفِ والخَلَفِ فيه بينَ مسجدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبينَ مسجدِ قُباءٍ، وسببُ الخلافِ: أنَّ اللهَ ذكَر وَصْفَ المسجد، وكلُّ واحدٍ مِن المسجدَيْنِ أحَقُّ بالوصفِ مِن وجهٍ؛ وذلك أنَّ مسجدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحَقُّ بوصفِ التَّقْوَى في قولِه:{أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} ، ومسجدُ قُباءٍ أحَقُّ بالسَّبْقِ بالبناءِ في قولِه:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ؛ فقد بُنِيَ قبلَ مسجدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد اختَلَفَ السلفُ في ذلك علي أقوالٍ ثلاثةٍ:
القولُ الأولُ: قولُ جماعةِ السلفِ؛ أنَّ المرادَ به مسجدُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد ثبَتَ في مسلمٍ؛ مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ؛ قال: "دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِه، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَيُّ المَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ كَفَّا مِنْ حَصْبَاءَ، فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: (هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا)؛ لِمَسْجِدِ المَدِينَةِ"(1).
وفي "المسنَدِ"، مِن حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ نحوُهُ (2)، وهذا القولُ رُوِيَ عن عمرَ وابنِ عمرَ وزيدِ بنِ ثابتٍ وابنِ المسيَّبِ (3).
القولُ الثاني: قولُ ابنِ سيِرينَ؛ أنَّ المرادَ به كلُّ مسجدٍ بُنِيَ على التَّقْوَى بالمدينةِ (4).
القولُ الثالثُ" قولُ ابنِ عبَّاسٍ، رواهُ عنه عليُّ بن أبي طَلْحةَ؛ بأنَّه مسجدُ قُبَاءٍ (5)؛ لأنَّه أولُ مسجدٍ بُنِيَ في الإسلامِ لمَّا نزَل النبيُّ علي بني
(1) أخرجه مسلم (1398).
(2)
أخرجه أحمد (5/ 331).
(3)
"تفسير الطبري"(11/ 682، 683)، و"تفسير ابن كثير"(4/ 216).
(4)
"تفسير ابن أبي حاتم"(6/ 1882).
(5)
"تفسير الطبري"(11/ 684)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(6/ 1882).
عمرِو بنِ عَوْفٍ في قُبَاءٍ يومَ الاثنَيْن، فأقامَ فيهم فأسَّسَ مسجدَ قُبَاءٍ، ثم ارتحَلَ عنهم يوم الجُمُعةِ إلى بني سالمِ بنِ عوفٍ، فصلَّى عِندَهم الجمعةَ، وهي أولُ جمعةٍ في الإسلام، ثم ذهَبَ ودخَلَ المدينةَ، ونزَلَ علي بني مالكِ بنِ النَّجَّارِ على أبي أيُّوبَ، فأَسَّسَ مسجِدَهُ بالمِرْبَدِ الذي كان للغُلامَيْنِ اليتيمَيْنِ.
وبقولِ ابنِ عبَّاسِ قال الشَّعْبيُّ والحسنُ وأبو سَلَمةَ وعُرْوةُ وسعيدُ بن جبيرٍ وقتادةُ (1)، وسياقُ الآيةِ يعضُدُ ذلك؛ وذلك مِن وجوهٍ:
الوجهُ الأولُ: أنَّ مسجدَ قباءٍ أسبَقُ مِن جهةِ البناء، والآيةُ جاءتْ في تقييدِ وصفِ المسجدِ الذي أُسِّسَ على التَّقْوَى بأنَّه الأسبقُ في الزمَن، وهو قولُه:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ، ولو جاءَ الوصفُ بأنَّه الذي أُسِّسَ على التَّقْوَى مجرَّدَا عن التقييد، لكان الأَحَقَّ به مَسْجِدُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه أَولى مساجدِ المدينةِ بالوصفِ بلا خلافٍ.
وأمَّا حديثُ أبي سعيدٍ السابقُ، فقد جاء جوابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على قَدْرِ سؤالِ أبي سعيدٍ، وهو قولُهُ:(أَيُّ المَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التقْوَى؟ )، ولم يُقيِّدْه بـ (أَوَّلِ يَوْمٍ)؛ كما في روايةِ مسلمِ في "صحيحِه"، فكان جوابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(لِمَسْجِدِ المَدِينَةِ).
الوجهُ الثاني: أنَّ مسجِدَ الضِّرارِ بُنيَ قريبًا مِن قُبَاءٍ؛ كما قالَهُ بعضُ المفسِّرينَ؛ كابنِ عبَّاسٍ والضحَّاكِ وقتادةَ والسُّدِّيِّ (2)، وأرادَ المُنافِقونَ تشبيهَهُ به، ولم يُريدوا تشبيهَهُ بمسجدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقُربُهُ مِن مسجدِهِ ضِرَارٌ بيِّنٌ، وقربُهُ مِن قُباءٍ ضِرَارٌ خفيٌّ، وهذا ما أرادُوهُ، وقد كان النبيُّ يأتي إلى مسجدِ قُبَاءٍ كلَّ سَبْتٍ للصلاةِ فيه، وكان المُنافِقونَ يَرْجُونَ أنْ يأتيَ
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(6/ 1882)، و"تفسير ابن كثير"(4/ 214).
(2)
"تفسير ابن أبي حاتم"(6/ 1879).