الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومُهادَنتِهم؛ وهذا ظاهرُ مذهبِ الشافعيِّ وأحمدَ، واختلَفُوا في الحدِّ الذي يُهادَنُونَ يه، فجعَلَه الشافعيُّ وأحمدُ: إلى عَشْرِ سنينَ، والزيادةُ فوقَ ذلك باطلةٌ.
وعلَّقَه مالكٌ - فيما رواهُ عنه ابنُ حبيبٍ - باجتهادِ الإمامِ.
والإمامُ مالكٌ وغيرُهُ لا يُجِيزُونَ للإمامِ مُهادَنةَ كلِّ الأممِ وإلى الأبدِ؛ لأنَّه يَقتضي ضَعْفَ المؤمنينَ، وتسلُّطَ الكافرينَ، وتعطيلَ الجهاد، ولم يُسالِمِ النبيُّ ولا الصحابةُ ولا الخُلَفاءُ على مَرَّ العصورِ الأُمَمَ إِلى الأيدِ؛ وهذا مِن بدَعِ العَصْرِ ووَهْنِ سَلَاطِينِه، التي لا يجوزُ العملُ بمُقتضاها، ويقولُ ابنُ قُدامةَ:"لا خلافَ بينَهم على بُطْلانِ الصُّلْحِ إذا كان مؤيَّدًا".
والصلحُ المُطلَقُ غيرُ المؤقَّتِ يَقتضي التأبيدَ، في ظاهرِ مذهبِ الأصحاب، وإذا كثُرَتِ الثغورُ على المُسلِمينَ وتداعَتِ الأُمَمُ، فقد تصحُّ المُهادَنةُ مع عدوٍّ واحدٍ يُخشى منه ويَأْبى النزولَ إلَّا على صُلْحٍ مُطلَقٍ ولا قِبَلَ للمُسلِمينَ بجميعِ الأمم، فيجوزُ أنْ يُطلَقَ - والحالةُ كذلك - الصلحُ معه بلا زمنٍ، حتى يَقوَى المؤمنونَ ثم يَنبِذُونَ إليه عهدَهُ على سَوَاءٍ.
ويجبُ أنْ يَجْعَلَ الإمامُ المُدَّةَ التي يُهادِنُ بها الكافرين بحسَبِ مصلحةِ المسلِمينَ، في دِينِهم ودُنياهم وألَّا يَجْعَلَ الأَمَدَ فيها يَحْكُمُهُ غيرُ ذلك.
ولا يَعقِدُ الهُدْنةَ إلَّا الإمامُ، لا الأفرادُ، خلافًا للطبريِّ.
إعطاءُ الكفَّارِ للمسلِمِينَ المالَ على هُدْنَتِهم وأمْنِهم، والعكس:
وأمَّا المُهادَنةُ على مالٍ يَدفَعُهُ المشرِكونَ للمُسلِمينَ، فلا خلافَ في جوازِها ومشروعيَّتِها، وإنْ كان بمالٍ يَدفَعُهُ المُسلِمونَ للكافِرِينَ، فعلى حالتَيْنِ:
الحالةُ الأُولى: إنْ كان في المُسلِمينَ قوةٌ وثَباتُ لصدِّ الكافرينَ، فلا يجوزُ لهم أنْ يَدفَعُوا للكافرينَ مالًا على هُدْنَتِهم؛ لأنَّ في ذلك ضَعْفًا وإهانةً لهم؛ والمنعُ هو الأصلُ.
وقد قال الشافعيُّ في "الأمِّ": "لا يجوزُ أنْ يُهادِنَهُمْ على أنْ يُعطيَهم المُسلِمونَ شيئًا بحالٍ؛ لأنَّ القتلَ للمُسلِمينَ شهادةٌ، وأنَّ الإسلامَ أَعَزُّ مِن أنْ يُعطَى مُشرِكٌ على أنْ يَكُفَّ عن أهلِه؛ لأنَّ أهلَهُ - قاتِلينَ ومَقتولِينَ - ظاهرونَ على الحقِّ"(1).
الحالةُ الثانيةُ: إنْ كان في المُسلِمينَ ضَعْفٌ وخافُوا الاصْطِلَامَ وهلاكَ أهلِ الإسلام، وقد أحاطَ بهم الكافِرونَ وتكالَبُوا عليهم مِن جهاتٍ عِدَّةٍ، ولا طاقةَ لهم بالجميع، فيُرِيدونَ أنْ يُخفِّفُوا على أنفُسِهم بعضَ الكافِرِينَ؛ ليتفرَّغوا لبعضٍ دونَ بعضٍ؛ حتى يُمْكِنَهُمُ اللهُ مِن الجميعٍ؛ فالصحيحُ أنه جائزٌ؛ وبهذا قال الأوزاعيُّ ومالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ؛ فقد روى الطبرانيُّ وغيرُهُ؛ مِن حديثِ محمدِ بنِ عمرٍو، عن أبي سَلَمةَ، عن أبي هريرةَ؛ قال: جَاءَ الْحَارِثُ الْغَطَفَانِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، شَاطِرْنَا تَمْرَ المَدِينَة، قَالَ:(حَتَّى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ)، فَبَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيع، وَسَعَدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَسَعْدِ بْنِ مَسْعْودٍ، رحمهم الله، فَقَالَ:(إِنَّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ الْحَارِثَ يَسْأَلُكُمْ أَنْ تُشَاطِرُوهُ تَمْرَ المَدِينَة، فَإِنْ أرَدتُّمْ أَنْ تَدْفَعُوا إِلَيْهِ عَامَكُمْ هَذَا، حَتَّى تَنْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ بَعْدُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أوَحْيٌ مِنَ السَّمَاءِ؛ فَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ الله، أَو عَنْ رَأْيِكَ، أَو هَوَاكَ؛ فَرَأْيُنَا تَبَعٌ لِهَوَاكَ ورَأْيِكَ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ الْإِبْقَاءَ عَلَيْنَا، فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، مَا يَنَالُونَ مِنَّا تَمْرَةً إِلَّا
(1)"الأم"(4/ 199).
بِشِرًى، أَو قِرًى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(هُوَ ذَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُونَ)، قَالُوا: غَدَرْتَ يَا مْحَمَّدُ، فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رحمه الله:
يَا حَارِ مَنْ يَغْدِرُ بِذِمَّةِ جَارِهِ
…
أَبَدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَغْدِرُ
وَأمَانَةُ الْمُرِّيِّ حَيْثُ لَقِيتَهَا
…
كَسْرُ الزُّجَاجَةِ صَدْعُهَا لَا يُجْبَرُ
إِنْ تَغْدِرُوا فالْغَدْرُ مِنْ عَادَاتِكُمْ
…
وَاللُّؤْمُ يَنْبُتُ فِي أُصُولِ السَّخْبَرِ (1)
وقد رَوَى أبو عُبَيْدٍ في "الأموالِ"، عن ابنِ شهابٍ؛ قال: كانتْ وقعةُ الأحزابِ بعدَ أُحُدٍ بسنتَيْن، وذلك يومَ حَفَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الخندقَ، ورئيسُ الكفارِ يومئذٍ أبو سُفْيانَ بن حَرْبٍ، فحاصَروا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضعَ عَشْرةَ ليلةً، فخلَصَ إلى المُسلِمينَ الكَرْبُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كما أخبَرَني سعيدُ بن المسيَّب -:(اللَّهُمَّ، إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ، إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ)، وحتى أَرسَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رسولًا إلى عُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ وهو يومئذٍ رئيسُ الكفارِ مِن غَطَفَانَ، وهو مع أبي سُفْيانَ، فرَضَ عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُلُثَ ثَمَرِ نَخْلِ المدينةِ؛ على أنْ يَخذُلَ الأحزابَ ويَنصرِفَ ومَن معه مِن غَطَفَانَ، فقال عُيَيْنةُ: بل أَعْطِني شَطْرَ ثَمَرِها، ثم أَفْعَلُ ذلك، فأرسَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى سعدِ بنِ معاذٍ، وهو سيدُ الأَوْس، وإلى سعدِ بنِ عُبَادَةَ، وهو سيدُ الخَزْرَج، فقال:(إِنَّ عُيَيْنَةَ قَدْ سَأَلنِي نِصْفَ ثَمَرِ نَخْلِكُمْ؛ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ غَطَفَانَ وَيَخْذُلَ الْأَحْزَابَ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُهُ الثُّلُثَ، فَأَبَى إِلَّا النَّصْفَ، فَمَا تَرَيَانِ؟ )، قالَا: يا رسولَ الله، إنْ كنتَ أُمِرْتَ بشيءٍ فافعَلْهُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(لَوْ أُمِرْتُ بِشَيْءٍ لَمْ أَسْتَأْمِرْ كُمَا فِيه، وَلَكِنْ هَذَا رَأْيٌ أَعْرِضُهُ عَلَيْكُمَا)، قالا: فإنَّا لا نَرَى أنْ نُعْطِيَهُمْ إلَّا السيفَ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(فَنَعَمْ)، قال أبو عُبَيْدٍ: وقد فعَلَ مِثْلَ ذلك معاويةُ في إمارتِهِ (2).
(1) أخرجه الطبراني في "الكبير"(5409).
(2)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(445).