الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمات
مقدمة
…
المقدمات:
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فلقد توقفت مع الكتاب الثاني في سلسلة تاريخ الدعوة إلى الله تعالى عند بيعة العقبة الثانية، على أمل أن يبدأ الكتاب الثالث بالهجرة إلى المدينة المنورة لأنها البداية المنورة لأنها البداية العملية للعهد المدني.
لقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة مباشرة في وضع أسس الدولة الإسلامية الشامخة في المدينة المنورة واستمر صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي المناسب للمرحلة، فلم يعد الوحي قاصرًا على العقيدة فقط، بل تناولها مع الشريعة والأخلاق، ولم يستمر أمر الله لهم بـ:{كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} 1، وإنما تحول إلى أن أمرهم بالجهاد فقال سبحانه:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 2.
إن العقيدة الدينية أصبحت راسخة في قلوب المؤمنين رسوخًا ثابتًا لا يقبل الإزاحة أو التغيير، وهي في رسوخها وثباتها تجعل المسلم يعيش بها، ويعمل لها، ولا يقبل معها أي مخالفة، أو تقصير، أو إهمال.
إن العقيدة الإيمانية جعلت المهاجرين يتركون كل شيء في مكة، ويرحلون إلى المدينة {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} 3، وجعلت المسلمين الأنصار أهل المدينة
1 سورة النساء: 77.
2 سورة البقرة: 190.
3 سورة الحشر: 8.
يتركون حظوظ النفس والهوى، و {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 1.
لقد صنعت العقيدة الدينية الجماعة المسلمة صافية في توحيدها، وتوحدها، وتوجهها، وجعلت المؤمنين عبيدًا خاشعين لله، يرون في مكة قبل الهجرة سعادتهم في الطاعة، ويقصرون آمالهم في رضى الله، ويرجون سعادة حقيقية يعيشونها في الدنيا مع الناس، ويتمتعون بها في الآخرة عند الله.
فلما هاجروا إلى المدينة المنورة احتاجوا إلى الشريعة تنير لهم الطريق، وتعرفهم بمراد الله تعالى، وتطلعهم على أوامره ونواهيه، ليعيشوا في إطار المشروعية الدينية الصحيحة وليكون عملهم وخلقهم متوازنًا مع إيمانهم وعقيدتهم، وليكونوا سويًا مجتمع الحب، والتسامح، والتآلف.
لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد الهجرة والمسلمون معه الإسلام كله ولم ينتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن نزل عليه قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 2.
إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة تختلف عن سيرته صلى الله عليه وسلم في مكة من ناحية أحداثها، ووقائعها، وحركتها، وإن اتفقت في أنها جميعًا كانت في مجال الدعوة إلى الله تعالى.
في مكة عاش صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن الوحي حتى بلغ سن الأربعين! وكان الله معه، يرعاه ويصنعه للرسالة فهيأ له التربية الصحيحة، وأبعده من مزالق الهوى، وأحاطه بخوارق العادات في صورة إرهاصات، ومبشرات، وعلامات
…
كما أنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد البعثة فترة الرسالة في مكة وسط قلة من المؤمنين مستضعفة أمام ظلم الكفرة وعدوانهم، وكثيرًا ما عانت، وتحملت، وصبرت، وتمسكت بدينها الذي آمنت به. أما في المدينة المنورة فقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حياة القوة العادلة، وسط
1 سورة الحشر: 9.
2 سورة المائدة: 3.
كثرة من المؤمنين تمثل أمة الإسلام الوليدة بمزاياها ومحاسنها مع استمرار تتابع نزول الوحي لتوضيح الطريق، وتحديد معالم النجاح.
لقد احتاج المسلمون في مكة إلى عقيدة تربطهم بالله، وتؤملهم في الجنة، وتدفعهم إلى الصبر والتحمل وهذا يكفيهم، وقد تم لهم ذلك مع شيء من التوجيهات الخلقية التي لا بد منها للإنسان المسلم.
أما في المدينة المنورة فقد أصبح المسلمون في حاجة إلى الشريعة لتأكيد اعتقادهم الراسخ، وكان لا بد لهم من فقه أحكام الحياة، التي أخذت تتنزل عليهم تبعًا للأحداث، وكانوا رضوان الله عليهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يريدون أن تخضع جوارحهم لله مثل ما آمنت قلوبهم، ولذلك نراهم يرجعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما لا حكم لله فيه يوضح القرآن الكريم ذلك في آيات عديدة حيث يقول الله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ
1 سورة البقرة: 219.
2 سورة البقرة: 220.
3 سورة النساء: 127.
بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1.
وهكذا كانت حياة المسلمين في المدينة.
ومعهم كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد كان الله رءوفًا بهؤلاء الصفوة، وكان معهم يمدهم بشريعته، ويفصل لهم أحكامها ويوضح مزاياها وفوائدها، ويركز على ضرورة التهيؤ للعمل بها، وربطها بسائر أركان الإسلام، لأنها جميعًا تنتج الدين بكماله، وتمامه2.
لقد كان المسلمون في مكة يبحثون عن أمن ييسر لهم العبودية، ويرجون استقرارًا يمكنهم من العمل لله بين أهليهم وأقوامهم، لكن هذا الأمل لم يتحقق وهم في مكة فهاجروا إلى الحبشة، وبعدها كانت الهجرة إلى المدينة المنورة حتى أصبحوا آمنين في حياتهم، وعباداتهم، وتوجههم لله رب العالمين، فحملوا الأمانة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاروا مسئولين عن نشر الإسلام، وتبليغه إلى كل مكان استطاعوا أن يصلوا إليه وإلى أي إنسان يمكنهم تبليغه ودعوته وفق منهج الله للوصول إلى الغايات المحددة بواسطة وحي الله تعالى.
وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم متحركًا بالدعوة، ومبلغًا لدين الله تعالى، وأخذ الإسلام يظهر في قوله صلى الله عليه وسلم بلاغًا ودعوة، وفي عمله سلوكًا وعملا، وفي قلبه صدقًا وانفعالا، وفي أخلاقه مودة ورحمة، ومع الناس حياة وحضارة وعزا.
وشارك المسلمون في المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل بالإسلام وللإسلام حتى تم
1 سورة الأنفال: 1.
2 يظهر هذا الربط بين موضوع السؤال والإسلام حين ننظر في الآيات لنرى الأمر حين كان السؤال عن الأنفال كانت الإجابة بأنها لله والرسول، وبعدها أمرهم بتقوى الله، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول في كل أمر ونهي لأن ذلك دلالة الإيمان.
وحين كان السؤال عن اليتامى كانت الإجابة في أن الإصلاح لهم هو الخير المطلوب، ثم أرشدهم إلى ضرورة مخالطتهم للتعليم والتأسي، وضرورة معاملتهم بالصلاح حتى لا يؤاخذهم الله على تقصيرهم معهم
…
وهكذا سائر التساؤلات حيث نرى فيها الإجابة المطلوبة، ومعها إرشادات وتوجيهات تؤكد شمول النظرة الإسلامية لكافة جوانب الحياة.
النصر ودخل الناس في دين الله تعالى.
ومن هنا:
اختلط الجانب الشخصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة مع حركته بالدعوة اختلاطًا بينًا، حتى أصبح الفصل بينهما أمرًا شاقًا؛ لأن كل جزئية في حياة رسول الله صارت دليلا شرعيًا يبحث عنه المسلمون ويتأسون به، ولا يمكن استثناء شيء من حياته صلى الله عليه وسلم إلا ما ذكره صلى الله عليه وسلم ونبه عليه، وأعلم أصحابه بأنه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم.
وحيث أن حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجعلني أعيش مع سيرته صلى الله عليه وسلم في إطارها الذاتي كما فعلت معه في العهد المكي، فإني أجد نفسي مع هذا المنهج أكتب أولا عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وبعد ذلك أكتب عن حركة الرسول بالدعوة، لأنتهي بعد ذلك إلى الكتابة عن أهم ركائز الدعوة المستفادة من العهد المدني.
إني على يقين من أن السيرة النبوية في العهد المدني، الذي يبدأ بالهجرة ويستمر حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلطت اختلاطًا كاملا بحياة المسلمين العامة وعاشت حركة في نشاط الجماعة المؤمنة؛ لأن الرسول لم يعش لنفسه، وإنما عاش لله بكل مشاعره وعناصره كما أمره الله تعالى، وكما عرفه صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم بقوله تعالى:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 1.
ولذلك أجد نفسي أمام تصور لدراسة العهد المدني، تتضمن السيرة النبوية والدعوة، مشتملة على ما يلي:
1 سورة الأنعام: 161-164.
أولا: تمهيد يعرف بالمدينة المنورة، وبمن كان يسكنها وبأهم الأديان والاتجاهات الدينية بها قبيل الهجرة، وبمدى ملائمتها لإنطلاقة الدعوة إلى الله تعالى.
ثانيًا: فصل يقدم أحداث السيرة النبوية متتابعة، بدءًا من الهجرة حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الاهتمام بالجانب الذاتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر الإمكان لشدة ارتباط سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بحركته في تبليغ الدعوة.
ثالثًا: فصل يوضح حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وهذه الحركة وإن كانت جزءًا من السيرة إلا أن تأثيرها في حركة الإسلام وانفعال المسلمين بها، وترسيخها لمبادئ الإسلام وقيمه، جعلتني أدرسها في إطار حركة الرسول بالدعوة.
وسيشتمل هذا الفصل على عدد من المباحث تتضمن تأسيس دولة الإسلام في المدينة وتعداد السرايا والغزوات، وبيان الرسائل والوفود، وتفصيل كل ما كان له دور في حركة تبليغ الإسلام حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: فصل أوضح فيه الركائز المستفادة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحركته بالدعوة، لتكون زادًا لكل مخلص يحب دينه، ويقدر أمانة الله، ويعمل على إبراز الإسلام نقيًا صافيًا، ويبلغه لغيره من الناس مستفيدًا بما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجال الدعوة إلى الله تعالى.
وبهذا التصور سيأتي الحديث عن العهد المدني مكونًا من تمهيد وثلاثة فصول وخاتمة، وبها تكمل الدراسة بإذن الله تعالى.
إن العهد المدني يتضمن حوادث الإسلام العظمى، التي هي أساس التشريح، ودعامة الحياة الإسلامية على طول الزمن إلى يوم القيامة، فلقد شرعت العبادات في العهد المدني، وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته والمسلمين بالتوجيه وبيان الأحكام، وفيها كان خطاب الدعوة لكل فئات البشر على اختلاف أديانهم، وثقافتهم، وحضاراتهم.
وفي العهد المدني أذن الله بالجهاد، وأمر به، وفصل في أحكامه، وبين الآثار المترتبة عليه.
ونزلت أحكام سائر المعاملات، والأحوال الشخصية، وأحكام الميلاد، والموت، وكافة نظم الحياة.
وتحددت سمة المجتمع المسلم، وطريقته في التعامل مع أتباعهم، وغيرهم، على اختلاف مذاهبهم، واتجاههم، ومواطنهم.
إن دراسة العهد المدني طويلة عميقة، وتحتاج إلى القراءة الواسعة والتأمل الواعي، والاستنباط القائم على العلم والفهم، وهذا ما سأحاوله معتمدًا على الله تعالى، مؤملا في توفيقه، وبخاصة أن مقصدي إبراز الإسلام جليًا، نقيًا، وإظهار المسلمين في مجتمعهم العظيم، الذي نباهي به الدنيا على الزمن كله، ونرجوه مرة أخرى ليعود المسلمون إلى مجدهم وعزهم في وقت كثرت فيه معاول النقد، وتعددت طرق الهجوم على الإسلام.
إن المجتمع الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة -مع مثاليته- يتهمه الحاقدون بالتخلف، والرجعية، والعدوانية، ويفضلون عليه مجتمع الاختلاط، والعري، وبروز الفوضى، والخلق الرديء، مع محاولة إلباسه أثوابًا لا تليق به، بدعوى التجديد، والتنوير، والنهضة بطرق ملتوية لا تبغي إلا الهدم والفساد.
والعقيدة التي عاشها المسلمون الأوائل كانت يقينًا يتحكم في عملهم، وشريعة تنظم سلوكهم وخلقًا يحمل جوانب الحياة.
هذه العقيدة التي صنعت الجماعة الأولى معرضة اليوم لفصلها عن حركة الحياة بدعوى أنها الدين، وليست هي الدنيا.
والشريعة الشاملة التي حكمت الحياة الإسلامية الأولى يعمل الأعداء على أن يُستبدل بها قانون البشر رغم تناقضه، وقصوره.
وها هي الأخلاق الإسلامية تغيب عن واقع الحياة حتى لا نراها إلا نادرًا بين الناس مع أن الحياة بها تكون جميلة، وسلسلة، وطيبة.
من كان يتصور أن عاقلا من الناس يرى البغاء حرية، وانتهاك الحرمات حضارة والإفساد في الأرض باسم التنوير، والحداثة تقدمًا، والتمتع المحرم أمورًا شخصية للإنسان أن يفعلها، ويعيش بها متى أراد.
ومن كان يتصور الزواج المثلي، والشذوذ الجنسي يبرز في العلن، بل ويحميه تشريع وقانون!!
ومن كان يتصور أن الاستعداد لرد الظلم، وحماية الحقوق يصير إرهابًا، وعدوانًا.
إن مجتمع المسلمين المعاصر بعُد كثيرًا عن طريق الله حتى أصبح الدين غريبًا فيه، غائبًا عنه، وتمكن أعداء الدين من تشويه بعض حقائقه، وإلحاق التهم الباطلة بالمتمسكين به، مستغلين غيبة تعاليم الله عن الناس.
ويتساءل المرء:
من الذي غيب الدين عن الناس؟
ومن الذي أبعدهم عن فهم حقائقه؟
ومن الذي أغرقهم في الماديات الباطلة؟
ويدرك الفاهم المدقق أن من فعل ذلك هو الذي يشوه ويتهم!!
إنه يرتكب الجريمة
…
ويسأل عن فاعليها!! ويتهم غيره!!
إن الإسلام يحتاج إلى رجال، والدعوة تحتاج إلى من يقوم بها وفق منهجية عصرية، تفهم الدين، وتخاطب الناس، وتتعامل مع الواقع لتسمو به وترتقي.
إن أملي الذي أرجوه من دراسة السيرة والدعوة في العهد المدني التصدي لمحاولات الهدم، ونقض التشكيك، ورد كافة ألوان الزيف، مهما كان مصدرها، وأيًا كان قائلها راجيًا الوصول إلى ما يلي:
أولا: الإحاطة بالسيرة النبوية بصورتها الشاملة لمعرفة الجوانب الشخصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كهجرته، ومسكنه، وزواجه، وعنايته بأولاده، وسفره، وإقامته، وأيضًا لمعرفة الجوانب الدعوية العامة التي باشر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلالها تعليم الناس، وتبليغهم دين الله تعالى.
ثانيًا: اكتشاف حياة المسلمين الأوائل، ومعرفة أنشطتهم، ومدى مساهمتهم في نصر دين الله تعالى بيانًا لمناط الأسوة، وإظهارًا لجوانب القدوة والريادة.
ثالثًا: بيان صور المواجهة التي تمت بين المسلمين وبين أعدائهم من المنافقين واليهود والكفار، لإظهار مدى ملازمة الدعوة للحسن في التوجيه، والصدق في الطلب، وتقدير الإنسان بصورة عامة، وتوضيح أن الجهاد الإسلامي هو نصير العدل والحق والكرامة.
رابعًا: توضيح حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة لبيان ما فيها من منهج شامل لكل جوانب الدعوة، وأركانها، واستنباط الفوائد التي يمكن الاستفادة بها في العصر الحديث.
وسوف اعتمد على المصادر الصحيحة لهذه المرحلة، وعلى رأسها القرآن الكريم الذي صور هذه المرحلة، وقدم تفصيلات عديدة للعهد المدني حتى قال بعضهم: إن القرآن الكريم هو الصحيفة اليومية المصورة للمسلمين في المدينة المنورة، تعيش حياتهم، وترشدهم للتي هي أقوم، وتعرفهم بخفايا النفوس، وتكشف طبائع الناس، وتحذرهم من مزالق الهوى، ومكائد الأعداء، من الجنة والناس، وتعرفهم بحكم الله كلما جد أمر أو وقع حدث، أو دعت الحاجة إليه.
لقد كان القرآن الكريم ينزل منجمًا حسب الوقائع والأحداث، ثم كان جمعه وسيلة بينه لتقويم الصورة الإسلامية بتمامها وكمالها، ومثاليتها، وواقعيتها، لتبقى أسوة للناس، وقدوة للعالمين.
ومع القرآن الكريم تكون السنة شارحه، ومبينة، ومصدرًا لهذه الحقبة الزمنية الرائدة.
ومن فضل الله تعالى أن مدة البعثة النبوية في مكة والمدينة نالت اهتمام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح من بعدهم، حيث وجد الرواة، والمحدثون، والمفسرون والفقهاء، وغيرهم يبذلون الجهد من أجل صيانة التراث الإسلامي كله، وبذلك كان حفظ أحداث مرحلة البعثة النبوية، وأحداث تاريخ الدعوة إلى الله تعالى.
إن معايشة مصادر هذه المرحلة تحتاج إلى العقل والفهم، والتحليل والاستنباط، وقوة الوعي وسرعة الإدراك، حتى لا يقع صاحب هذه المعايشة في الإسرائيليات، والأكاذيب التي وضعها أعداء الإسلام مع شروح المصادر الإسلامية.
إن كثيرًا من علماء العصر الحديث شغلوا أنفسهم بتنقية مرويات العصر النبوي من الدخيل فيه، وبذلك أسدوا للمسلمين معروفًا حسنًا يتمكنون به من الوقوف على الحق والحقيقة.
ولسوف أستعين بكل ما بذله المخلصون مع السيرة والدعوة -قدامى ومحدثين- لأسجل الحقيقة التي أرجوها، وأعيش الحق الذي أعمل له، وأضع أمام المسلم المعاصر المعالم الواضحة التي تحقق الأمن، والسلام، وتنشر السعادة، والرضى في الناس أجمعين، استنباطًا من عصر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
ومع كل ما أرجوه فإني أشير إلى العلم الذي أكتب فيه وأذكر به، وهو تاريخ الدعوة إلى الله تعالى في إطار مرحلة زمنية محددة، مع الاستفادة بكل دراسة جادة توصلني إلى ما أتمناه وأرجوه.
والأمل الكبير في أن يمدني الله بسداد الفكر، ودقة الترتيب، وتحقيق الهدف، وأن يفتح أمام هذه الدراسة القلوب والعقول، وأن يجعلها في طريقها المنشود مصدر هداية ورشاد، ووسيلة للدعوة، والبيان.
إن تعلقي برسول الله صلى الله عليه وسلم حياة.
وخدمتي للإسلام غاية.
وتوجهي لهداية الناس أمنية.
والتزامي بالصدق، والأمانة، والموضوعية دين وعقيدة.
إن الله سبحانه وتعالى هو مصدر الأمل والرجاء، وإليه قصدي وتوجهي، وله حياتي ومماتي، وعليه توكلي واعتمادي.
وهو حسبي، ونعم الوكيل.
المؤلف
أ. د/ أحمد أحمد غلوش
مدينة نصر في غرة جمادى الأولى عام 1425هـ
19/ 6/ 2004م