الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرحلة الأولى للقتال انتصار المسلمين:
اشتد وطيس المعركة، وكان أول البشائر فيها مقتل حامل لواء قريش طلحة بن أبي طلحة بعدما نادى بالمبارزة، فخرج إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه ووثب على جمله، وأمسك به وأنزله على الأرض، وذبحه بسيفه، فكبر المسلمون، وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقتل طلحة الذي كان يعرف بـ"كبش الكتيبة" لشجاعته، وقوته1.
واندلع القتال بعد مقتل طلحة في كل أرض المعركة، وشد المسلمون على لواء المشركين لأهميته في هزيمتهم، وقد تمكن المسلمون من حملة اللواء حتى أفنوهم جميعًا، لأنه بعد مقتل طلحة حمل اللواء، أخوه عثمان بن طلحة فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته.
ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته فأدلع لسانه ومات لحينه، وقيل: بل خرج أبو سعد يدعو إلى المبارزة، فتقدم إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين فضربه علي فقتله.
ثم رفع اللواء مسافع بن طلحة بن أبي طلحة فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بسهم فقتله.
فحمل اللواء بعده أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله.
ثم حمل اللواء أخوهما الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته، وقيل: بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بسهم فقضى عليه.
ثم حمله من بني عبد الدار أرطأة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل حمزة بن عبد المطلب.
ثم حمله شريح بن قارظ فقتله قزمان، وكان منافقًا قاتل مع المسلمين حمية، لا عن الإسلام ثم حمله أبو زيد بن عبد مناف العبدري فقتله قزمان أيضًا.
ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضًا.
فتقدم غلام حبشي اسمه صواب فحمل اللواء، وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات، ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله، فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه، لئلا يسقط حتى قتل وهو يقول: اللهم هل أعذرت،
1 إمتاع الأسماع ج1 ص125.
يعني هل أعذرت؟ أمام سادته المكيين.
وبعد أن قتل هذا الغلام -صواب- سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله فبقي ساقطًا1.
وأخذ المسلمون يهتفون بشعار يوم أحد "أمت، أمت"، وينزلون بأعدائهم الضرب والقتل، ويشدون عليهم في كل ناحية، ويبرزون من ضروب الفداء والتضحية ما يعده المؤرخون أمثلة خالدة في إطار الجهاد، وحب الله ورسوله ومن هذه الأمثلة:
1-
قتال أبي دجانة رضي الله عنه:
أقبل أبو دجانة رضي الله عنه معلمًا بعصابته الحمراء، آخذًا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقبلا على الجهاد والنصر، فقاتل حتى أمعن في المشركين، وكان لا يلتقي بمشرك إلا وقتله، وأخذ يهد صفوف المشركين هدًا ويفرقهم بددًا.
يقول الزبير بن العوام رضي الله عنه: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت في نفسي: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه، فسألته إياه قبله، فآتاه إياه، وتركني، والله لأنظرن ما يصنع؟
فاتبعته فرأيته قد أخرج من جيبه عصابة له حمراء، فعصب بها رأسه.
فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فلبسها وخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي
…
ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول
…
أضرب بسيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحدًا إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحًا إلا أجهز عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه أبو دجانة بدرقته، فعضه بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله.
ثم أمعن أبو دجانة في هد الصفوف، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش وهو لا يدري بها.
1 المغازي ج1 ص225-228 بتصرف.
قال أبو دجانة: رأيت إنسانًا يخمش الناس خمشًا شديدًا فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا هو امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة، وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة.
يقول الزبير بن العوام: رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها، فقلت: الله ورسوله أعلم1.
2-
قتال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه:
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث الأبطال، فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين في شجاعة منقطعة النظير، ففر من أمامه أبطال قريش، وتطايروا كما تتطاير الأوراق أمام الرياح العاتية، واستمر في اندفاعه رضي الله عنه حتى صرعه وحشي، وهو مختبئ في مكنه، أملا في الحرية التي وعده بها سيده جبير بن مطعم، ولينال رضى هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان.
يروي البخاري بسنده قصة استشهاد حمزة كا رواها وحشي بعدما أسلم فيقول: إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم، إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر.
فلما خرج الناس عام عينين خرجت مع الناس، إلى القتال، فلما اصطفوا للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز؟
فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا سباع يابن أم أنمار، مقطعة البظور أتحاد الله روسوله صلى الله عليه وسلم؟
ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب، وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فوضعتها في ثنيته، حتى خرجت من بين وركيه، فكان ذاك العهد به.
فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة، حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا، فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل، فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1 البداية والنهاية ج4 ص15، 16.
فلما رآني قال صلى الله عليه وسلم: "أنت وحشي"؟.
قلت: نعم.
قال صلى الله عليه وسلم: "أنت قتلت حمزة"؟.
قلت: قد كان من الأمر ما بلغك.
قال: "فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني"؟.
قال: فخرجت1.
وبهذه الطريقة استشهد حمزة رضي الله عنه يوم "أحد"، وجاءت هند إلى جسده فمثلت به، وأخرجت كبده، ولاكته في فمها لغلها الدفين، وحقدها الكامن، ولكنها لم تتمكن من أكله، فلفظته، وقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا لموت حمزة رضي الله عنه ولذلك أبعد وجهه عن رؤية وحشي رغم أن وحشيًا كان قد أسلم، وحسن إسلامه.
وقد غسلت الملائكة حمزة بعدما احتلم في نومه، أثناء النعاس الذي رزقه الله للمؤمنين أثناء المعركة.
ومن العجيب أن وحشيًا لم يشترك في القتال ولم يقتل غير حمزة يوم أحد لأنه لم يأت مع الجيش إلا لهذه الغاية، ولما أسلم اشترك في حرب الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل مسيلمة الكذاب وجاهد في الله حق الجهاد، ولله في خلقه شئون2.
3-
تعدد البطولات:
برغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت بالمسلمين بقتل أسد الله، وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله، فقد قاتل يومئذ أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر، وأمثالهم رضي الله عنهم قتالا فل عزائم المشركين، وفتت أعضادهم، وفرق جمعهم، ودفعهم إلى ترك ميدان المعركة ففروا إلى قمم الجبل3.
1 صحيح البخاري. ك المغازي باب قتل حمزة ج6 ص303.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب قتل حمزة ج6 ص302، 304.
3 البداية والنهاية ج4 ص21.
4-
بطولة حنظلة الغسيل:
وكان من أبطال الجهاد يومئذ حنظلة الغسيل، وهو حنظلة بن أبي عامر، وأبو عامر هذا هو الذي سمي بالفاسق، كان حنظلة حديث عهد بالعرس، فلما سمع هواتف الحرب، وهو على امرأته، انخلع من أحضانها، وقام من فوره إلى الجهاد، فلما التقى بجيش المشركين في ساحة القتال، أخذ يشق الصفوف، حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان بن حرب، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة، فقد شد على أبي سفيان، فلما استعلاه، وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه بالسيف حتى قتله، فغسلته الملائكة ولذلك سمي بحنظلة الغسيل1.
5-
جهاد الرماة:
وكان للفصيلة التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان من جيش مكة بقيادة خالد بن الوليد، يساندهم أبو عامر الفاسق، ثلاث مرات على الرماة ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر، ويتسربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم، وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم2.
وهكذا ظهرت البطولات الإسلامية، وانهارت مقاومة المكيين فولوا الأدبار، وفروا هاربين فوق الجبل، وكادت أن تنتهي المعركة بهذا النصر الحاسم، لولا خطأ وقع فيه الرماة، أدى إلى تغير الوضع، وتحول النصر إلى هزيمة وانكسار، وهو ما حدث في المرحلة الثانية.
1 المرجع السابق ج3 ص22.
2 انظر الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني ج21 ص53، 54.