الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: عناية الله بنبيه في الهجرة
امتدت رعاية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في كل أعمال الهجرة.
فلقد أعمى الله عقول وأبصار من أحاطوا ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة حتى خرج صلى الله عليه وسلم وألقى على رأسهم التراب، ولم يشعروا به.
وهدى الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى وضع تنظيم يتحرك فيه كل من اشترك في أعمال الهجرة وفق إمكانياته، وبصورة لا تعطي القرشيين أي خبر عن الهجرة.
وخلق الله في برهة وجيزة عند باب الغار ما يصرفهم عن الدخول فيه، الأمر الذي جعل كفار مكة لا يتصورون أن أحدًا دخل الغار من مدة طويلة.
وبعدما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار، وأخذ طريقه إلى المدينة تجلت عناية الله، وبرزت المعونة الإلهية للرسول، وصاحبه في صور عديدة منها:
1-
رد سراقة بن مالك:
رصدت قريش مائة من الإبل لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأبي بكر حيًا أو ميتًا، وتلك ثروة يلهث وراءها الشباب والرجال في مكة وبخاصة إذا أتت من عمل يصون قوميتهم، ويحافظ على آلهتهم كما يتصورون.
ومن أكبر الذين اجتهدوا في نيل هذه الجائزة سراقة بن مالك وكان له في هذا المجال قصة يرويها البخاري في صحيحه بسنده عن سراقة بن مالك.
يقول سراقة بن مالك: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره.
فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني قد رأيت آنفًا أسودة بالساحل، أراها محمدًا وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم.
فقلت له: إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، انطلقوا بأعيننا.
ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت، فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجة الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي، حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟
فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدي فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم.
ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني، ولم يسألاني إلا أنه صلى الله عليه وسلم قال:"أخف عنا". فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب الأمان في رقعة من أديم1.
2-
شاة أم معبد الخزاعية:
في أثناء رحلة الهجرة مر الرسول وصحبه بخيمة أم معبد، وهي امرأة بدوية كريمة تطعم وتسقي من يأتيها، واسمها عاتكة بنت خالد الخزاعية، تكنى باسم ولدها معبد.
1 صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص210، 211، ط الأوقاف.
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه أمام خيمة أم معبد وسألاها: "هل عندك شيء".
فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، والشاة عازب، والسنة سنة شهباء.
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال:"ما هذه الشاة يا أم معبد "؟.
قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم.
فقال صلى الله عليه وسلم: "هل بها من لبن"؟.
قالت: هي أجهد من ذلك.
فقال صلى الله عليه وسلم: "أتأذنين لي أن أحلبها"؟.
قالت: نعم بأبي وأمي، إن رأيت بها حلبًا فاحلبها.
فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتفاجت عليه ودرت، فدعا بإناء لها يربض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا حتى ملأ الإناء، ثم ارتحلوا.
فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا يتساوكن هزالا، فلما رأى اللبن عجب فقال: من أين لك هذا؟ والشاء عازب ولا حلوبة في البيت؟
فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا.
قال لها: إني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد، فوصفته بصفته الرائعة، بكلام دقيق كأن السامع ينظر إليه، وهو أمامه.
فقال أبو معبد: والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا1.
3-
إسلام أبي بريدة:
في أثناء رحلة الهجرة، وفي الطريق على مقربة من المدينة المنورة لقي الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بريدة ونفرًا من قومه؛ جاءوا يطلبون النبي وأبا بكر ليفوزوا بالمكافأة التي رصدتها
1 زاد المعاد في هدي خير العباد ج3 ص55-75 مؤسسة الرسالة سنة 1979.
قريش للقضاء عليهما.
كلم أبو بريدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم صدقه وأمانته وأسلم لوقته، وتبعه سبعون رجلا من قومه، ثم خلع أبو بريدة عمامته، وعقدها برمح رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامة له، وبذلك يعد أبو بريدة والمؤمنون معه من أوائل الأنصار الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة.
وبإيمان هؤلاء القوم صار للمسلمين قوة في الطريق1، وبدأ المسلمون في تكوين المجتمع القوي المتماسك.
4-
تأمين الزاد:
ومر صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الطريق على راع فاستسقياه اللبن، فاعتذر بأنه لا لبن في شائه، إلا شاة جف لبنها قريبًا، وهنا ظهرت معجزته صلى الله عليه وسلم فلقد مسح ضرعها ودعا فرزقهم الله الكثير من اللبن، وكانت هذه آية كافية لتحويل قلب الراعي من الكفر إلى الإيمان، وتوسم فيه صلى الله عليه وسلم الكثير من الخير، فأخبره بأنه رسول الله، وطلب الراعي أن يسير معه فطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يتمهل حتى يسمع بظهور أمره صلى الله عليه وسلم وحينذاك يلحق بالمدينة، ويهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفين مرا بعبد يرعى غنمًا، فاستسقياه من اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب غير أن هاهنا عناقا حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها لبن.
فقال صلى الله عليه وسلم: "ادع بها". فدعا بها، فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت.
وجاء أبو بكر رضي الله عنه بمجن، فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب.
فقال الراعي: بالله من أنت، فوالله ما رأيت مثلك قط.
قال صلى الله عليه وسلم: "أوتراك تكتم عليّ حتى أخبرك"؟.
1 إمتاع الأسماع للمقروي ج1 ص42.
قال: نعم.
قال صلى الله عليه وسلم: "فإني محمد رسول الله".
فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ.
قال صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليقولون ذلك".
قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا "1.
5-
التبشير بالعودة إلى مكة:
ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وهي أحب البلاد إلى نفسه، ولذا رأيناه صلى الله عليه وسلم حينما ابتعد عن مكة نظر إليها، وودعها بكلمات تؤكد حبه لها، فعن عبد الله بن عدي عن الحمراء أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا على الحزورة وهو يقول: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"2.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى مكة ليلة الهجرة: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"3.
وقد كانت عناية الله تعالى برسوله إذ نزل عليه خلال رحلة الهجرة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 4.
يقول ابن عباس: والمعاد هي مكة، وفي الآية بشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه سيعود إلى مكة ساعة أن يسلم أهلها، وتكون دار إسلام5.
1 البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص194.
2 سنن الترمذي بشرحه تحفة الأحوذي ج10 ص426 والحزورة مكان مرتفع في مكة.
3 سنن الترمذي بشرحه تحفة الأحوذي ج10 ص427.
4 سورة القصص: 85.
5 صحيح البخاري كتاب التفسير ج7 ص365 ط الأوقاف.