الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: الوصول إلى المدينة
سار ركب الهجرة تحفه عناية الله تعالى حتى وصل إلى قباء في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من العام الأول للهجرة.
وكان أهل المدينة منذ أن عملوا بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة يغدون كل غداة، ينتظرونه عند الحرة، حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعدما طال انتظارهم إلى بيوتهم، وإذا بيهودي يقف على أحد المرتفعات حول المدينة ليرى أمرًا بعينه، فإذا به يبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ثياب بيض، فلم يملك اليهودي نفسه، فأخذ يصيح بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه1.
يقول ابن القيم: وسمعت الرجة والتكبير في ديار بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجوا للقائه صلى الله عليه وسلم والترحيب به، فأحاطوا به يملأهم الحب، وتغشاهم السكينة، والوحي ينزل عليه بقوله تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} 2.
يقول عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر ظنًا منهم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك3.
وكانت المدينة كلها قد زحفت لاستقبال ركب الهجرة الميمون، وكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم4 ومكث علي بن أبي طالب
1 صحيح البخاري كتاب ج1 ص215 ط الوقاف.
2 سورة التحريم: 4.
3 سيرة النبي ج1 ص494.
4 وقيل نزل على سعد بن خيثمة والجمهور على ما ذكرته.
بمكة ثلاثًا، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيًا على قدميه حتى لحقهما بقباء ونزل على كلثوم بن الهدم مع رسول الله أيضًا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام: الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وكان موضع المسجد مربدًا لكلثوم بن الهدم، وقيل بل هو مكان كان يملكه بنو عمرو بن عوف وهو الأولى، وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم الجمعة فيهم، وعلى كل فإن المكان اختيار الله تعالى1.
وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس2 -يوم الجمعة- ركب صلى الله عليه وسلم ناقته وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى أخواله بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم وسار معهم نحو المدينة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل.
وهذه أول جمعة يقيمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام بعد هجرته في ديار بني سالم بن عوف، وألقى فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الجمعة، وعرفهم بالله، وحثهم على التقوى، وذكرهم بنعيم الله في الآخرة.
يورد ابن كثير هذه الخطبة بنصها، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأستغفره، وأستهديه، وأومن به، ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدًا.
أوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة،
1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص381.
2 اختلفت الروايات في المدة التي مكثها الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء والمكثرون يرونها أربعة وعشرين يومًا والمقلون يرونها أربعة أيام، وهو الأولى.
ولا أفضل من ذلك ذكرى، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل، ومخافة، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرًا في عاجل أمره، وذخرًا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1.
والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك فإنه يقول سبحانه:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 2.
واتقوا الله في عاجل أمركم، وآجله، في السر، والعلانية فإنه:{ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} 3.
إن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه وإن تقوى الله تبيض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا، وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينه، ويحيى من حيي عن بينه، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس.
1 سورة آل عمران: 30.
2 سورة ق: 29.
3 سورة الطلاق: 5.
4 سورة الأحزاب: 71.
إن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"1.
1 البداية والنهاية ج3 ص213.
هذا وقد تحدث الفقهاء عن حكم هجرة المسلم من ديار الكفر إلى ديار الإسلام بعد فتح مكة، وذهبوا إلى أن المسلمين أنواع ثلاثة، ولكل نوع حكمه الشرعي.
النوع الأول: مسلم قادر على الهجرة من ديار الشرك، حيث لا يمكنه إظهار دينه فيها، ولا أداء واجباته إذا أقام بين غير المسلمين، فالهجرة عليه واجبة، ويكون عاصيًا بتركها، ودليل ذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] ، وهذا الوعيد الشديد لا يكون إلا في ارتكاب المحرم وترك الواجب وحينئذ لا يحل له البقاء إلا إذا كان مضطرًا.
ومن أدلة السنة المشرفة ما أخرجه النسائي بسند صحيح من حديث عبد الله بن واقد السعدي قال: "وفدنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل أصحابي فقضى حاجتهم، وكنت آخرهم دخولا فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حاجتك"؟.
قلت: يا رسول الله، متى تنقطع الهجرة؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار".
النوع الثاني: مسلم يوجد بين المشركين، وهو عاجز عن الهجرة، لعذر كالأسر أو المرض أو الإكراه على الإقامة، فهؤلاء ومن في حكمهم تجوز لهم الإقامة بين المشركين، ولا تجب عليهم الهجرة، فإن تحامل أحدهم على نفسه وتكلف الهجرة كانت له أجر ومثوبة.
ودليل ذلك قوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} .
النوع الثالث: المسلم فيغير بلاد الإسلام، يكون قادرًا على الهجرة، لكنه يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته مع إقامته بين الكفار، فهذا لا تجب عليه الهجرة لتمكنه من دعوة الكفار وهو آمن من غدرهم، وراحته النفسية والمادية مصانة بينهم، ودليل ذلك أن المسلم مكلف بالدعوة لدينه قولا، وعملا، وإقامته حينئذ دعوة عملية، وكذا ترغيب المولى عز وجل المؤمنين في الهجرة وحثهم عليها في قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ
.........................
مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
وقد ذكر الشافعية: أن المسلم إذا قدر على إظهار دينه في دار الحرب، وأمكنه الاعتزال في مكان خاص يمتنع فيه من الكفار فإنه تحرم عليه الهجرة؛ لأن مكان اعتزاله وتحصنه صار دار الإسلام لامتناعه، فلو هاجر لعاد ذلك المكان بسبب هجرته إلى حوزة الكفار، وهذا أمر لا يجوز؛ لأن كل مكان قدر أهله على الامتناع فيه من الكفار صار دار إسلام.
ولتأييد ما ذهب إليه الشافعية ينقل الإمام النووي قول الماوردي في كتابه الحاوي فيقول: فإن كان يرجو ظهور الإسلام هناك بمقامه فالأفضل أن يقيم، وإن قدر على الامتناع والاعتزال وجب عليه المقام بها لأن موضعه دار إسلام، فلو هاجر لصار دار حرب، فيحرم ذلك، ثم إن قدر على مجاراة الكفار ودعوتهم إلى الله، لزمته الإقامة وإلا فلا.
ويستأنس النووي لما ذهب إليه الشافعية بما كان عليه والد الأنبياء وإمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام حيث كان مؤمنًا وحده يعلم الناس الخير، والناس كلهم حوله كفار، فامتدحه رب العزة بقوله سبحانه:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
والناظر في أوضاع العالم المعاصرة يرى أن ديار الكفر الآن أكثر أمنًا من غيرها، لما تتضمنه من نظم تسمح بقدر وافر من حرية الحركة، والكلمة، والتدين، والاعتقاد، في الوقت الذي نرى فيه الاستبداد، والظلم، والاضطهاد يوجه ضد المسلمين فيما يعرف بالعالم الثالث، وبلاد الإسلام جزء منه.
إن دار الإسلام في العصر الحديث ليست على وجهها المطلوب لما يوجد فيها من فسق، وعري، وفن، وانحلال وهي بذلك تشبه ما هو موجود في بلاد غير المسلمين والدعاة في البلاد الإسلامية الآن محاطون بالرقابة والقيود أكثر من غيرها من البلاد.
ولهذا نرى رجحان مذهب الإمام الشافعي.