الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا: أسباب وقوع السرايا والغزوات قبل بدر
أذن الله تعالى للمسلمين بالقتال بعد الهجرة، وشرع لهم القيام بالسرايا والغزوات على نحو ما ذكرت، وكان ذلك من صميم حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى.
وبيان ذلك أن أهل مكة نشطوا بعد الهجرة في صد الناس عن سبيل الله تعالى، واستغلوا وضعيتهم عند العرب في عداوتهم، وعدوانهم على الإسلام والمسلمين.
وقد ألف العرب في كل الجزيرة تقدير أهل مكة، لأنهم حماة البيت وأصل العرب، وإلى بلدهم "أم القرى" يأتي الجميع حجاجًا ومعتمرين، وزوارًا، ومتاجرين
…
الأمر الذي مكن لهم في قلوب العرب، ومكنهم في الوقت نفسه من الاتصال بهم، وكثرة مقابلتهم في الأسواق، والمناسبات، والأحداث ولقد رأينا مدى تقدير العرب لأهل مكة أثناء مجيء أبرهة بجيشه قبل الإسلام يريد هدم الكعبة حيث وقف العرب ضد حملة أبرهة، وتمنوا لها البوار والهزيمة.
استغل أهل مكة هذا الوضع وأخذوا يشيعون بين الناس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم وصحبه فروا هاربين من مكة، وتركوا وراءهم كل شيء ليستمر ضعفهم، وهوانهم الذي كان معهم في مكة.
إن المسلمين وهم في مكة كانوا عددًا قليلا ضعيفًا خائفًا من طغيان المكيين وظلمهم يقول الله تعالى واصفًا هذا الحال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1.
1 سورة الأنفال: 26.
ومن هنا تمكن أهل مكة من عقول الناس، واستمروا في إذاعة إفكهم، وبهتانهم وفي هذا صرف للناس عن استماع الدعوة، وعدم إقبالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله عليم بخلقه، حكيم في تشريعه وتعاليمه، رحيم بعباده، حافظ لدينه ورسوله، ولذا كان تشريع الجهاد، والإذن بالسرايا والغزوات، بعد الهجرة مباشرة لتصحيح بعض المفاهيم التي يجب أن تصحح، وإحاطة الناس بالحقيقة المجردة بعيدًا عن غوغائية أهل مكة، ورد البهتان الذي أذاعوه بين الناس.
لقد أدى تشريع الجهاد إلى نفي كل ما قيل عن ضعف المسلمين وهوانهم، وبين أنهم بعد الهجرة صاروا قوة ترد الظلم، وتعيد الحق، وتحمي الدين، ولذلك أذن الله لهم بالقتال والحرب، وحقق بالجهاد ما عجز عنه الحوار الطيب، والجدال الحسن.
ولنا أن نتصور الحال إذا استمر على ما كان فيه، وبقي القرشيون على عتوهم، وعدوانهم.
إن الضعيف لا يتعامل مع الجبابرة، والعاجز لا يقدر على المواجهة!!
والخائف لا يمكنه إمساك الرمح والسيف!!
والمهين يضعف في مواقف العزة والكرامة!!
والقوة الغاشمة لا تسمع إلا لأمثالها لأنه لا يفل الحديد إلا الحديد!!
ولقد كان أقصى ما يتمناه أهل مكة أن يتقوقع المسلمون حول أنفسهم في المدينة ويتركوا دعوة غيرهم إلى الإسلام، ويستمروا مقيمين فيها كما فعل إخوانهم الذين هاجروا إلى الحبشة، ولو تحققت هذه الأمنية للقرشيين لسعدوا بها، وعاشوا في حياتهم الجاهلية آمنين.
ولكن الله تعالى قضى لدينه أن ينتشر، وقضى للناس أن يسعدوا بالإسلام، ولذا كان ضروريًا أن يتحرك الإسلام وسط الناس بالأسلوب المناسب لهم، ويتعامل مع الواقع بما يكافئه، ولذا كانت السرايا والغزوات.
ولم يقف أمر الإسلام عند التعاليم المجردة، وإنما باشرها المسلمون عمليًا خلال الغزوات والسرايا، فتحركوا بأعداد مسلحة لملاقاة القوافل المكية التي كانت تفر منهم، ولما رأى العرب التحرك السريع والمتكرر من السرايا الإسلامية سالموهم، ووادعوهم،
وبعدوا عن دعايات أهل مكة، وانتظروا تغيير الحال، وتبدل الوضع، ليقرروا ما يرونه حينئذ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير معلم، وأعظم مرب، وهو يقود الجماعة المسلمة بعد الهجرة، إذ رأيناه صلى الله عليه وسلم يقود أكثر هذه السرايا، ويخرج لملاقاة القرشيين، ويعاهد العرب على السلم والإسلام، حتى لا يتصور أحد من أعدائه أنه سكن المدينة ورضي بالمكث فيها، معتمدًا على حركة أصحابه وحدهم.
وحتى في السرايا التي لم يخرج فيها كان صلى الله عليه وسلم يرسل عمه حمزة" أو أبناء عمومته ليكونوا في مقدمة الخارجين وبذلك كان صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، والسراج المنير للناس أجمعين إن المسلمين الذي خرجوا في السرايا والغزوات كانوا يؤدون مناسكهم، ويحافظون على شعائر دينهم، ويقيمون الصلاة، ويلتزمون بالعدل والخلق الكريم، مع البعد التام عن كل ما نهى الله عنه، وبذلك قدموا دعوة عملية، ظهر أثرها بعد غزوة بدر الكبرى، حيث دخل الناس في الإسلام وهم عارفون بنسكه وتكاليفه، التي رأوها تطبيقًا عمليًا أمامهم.
ومن أثار هذه السرايا في الدعوة إلى الله تعالى فتح العقول لسماع الحق، وتخليصها من استبداد الطغاة، وتحقيق الحرية أمام الأعراب بعيدًا عن أي إكراه، لتكون عقيدتهم مرتبطة بالرشد الصادق، والبيان الأمين.
كما أدت السرايا إلى تفرق العرب عن أهل مكة بعدما علموا أكاذيبهم، وفقدوا الثقة فيهم، وبذلك فشل المكيون في تكوين كتلة واسعة معادية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تشمل قبائل العرب في البوادي، وفي القبائل التي تقيم على جوانب الطريق بين مكة والمدينة ومعهم اليهود والمنافقون، وبذلك كان الجهاد. وكانت السرايا تحركا في خدمة الدعوة لدين الله تعالى.