الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا: هدوء جبهة قريش وظهور مفرزة أبي بصير رضي الله عنه
تم توقيع الصلح في شهر ذي القعدة، والعرب بقبائلهم، وأعرابهم في مكة يقيمون أسواقهم، ويؤدون منسكهم وفق ما بقي عندهم من علم بدين إبراهيم عليه السلام.
فشاهدوا ما حدث بين المسلمين وبين قريش، وعلموا بالصلح الذي تم.
لقد كانت قريش تقود الحرب ضد الإسلام والمسلمين، وتجمع حولها المنافقين، واليهود، والأعراب، وكل معارض لظهور دين الله تعالى.
فلما تم صلح الحديبية التزمت قريش به، وتخلت عن كافة أنشطتها المناوئة للإسلام، فانفرط عقد الأحزاب، وخمدت فتن المنافقين، وانحسر خطر اليهود، وتبعثرت القبائل الوثنية في أرجاء الجزيرة العربية، وأخذت قريش تهتم بمصالحها، وتجارتها وبخاصة بعدما أمنت طريق قوافلها.
وأدى هذا الوضع إلى هدوء عام للعواصف القرشية التي كانت تثار ضد الإسلام وأخذ المسلمون يهتمون بتعريف الناس دينهم بالحسنى، ومخاطبة القبائل وإقناعها بالإسلام الأمر الذي أدى إلى دخول الناس في الإسلام بأعداد غفيرة، حتى إن الذين دخلوا في الإسلام في العام ما بين الصلح وعمرة القضاء كانوا أكثر عددًا من الذين أسلموا في المدة من أول البعثة حتى الحديبية.
ولذلك تأكد الصحابة من أن صلح الحديبية هو الفتح الأعظم كما أخبرتهم سورة الفتح.
يروي الزهري: أن صلح الحديبية أعظم فَتْحٍ فُتِحَ في الإسلام.
ويستدل ابن إسحاق على عظمة هذا الفتح بأن عدد الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية كانوا ألفًا وأربعمائة والذين خرجوا يوم فتح مكة كانوا عشرة آلاف.
إن صلح الحديبية أظهر الوجه الحقيقي للإسلام، فبدأ الناس يتأملونه؛ ولذلك سارعوا إلى الدخول فيه بعدما انزاحت العقبة الكئود أمام إيصال الحق للناس، واستمر تطبيق بنود الصلح المتفق عليها، ولم يحدث لها تغيير، إلا بعد أن طلب القرشيون تعديل البند الثالث الذي أظهر التطبيق العملي ضرره على قريش بعدما كون أبو بصير رضي الله عنه مفرزته في طريق أهل مكة.
لقد جلبت قريش الشر لنفسها باشتراطها ضرورة إعادة من يسلم من أهل مكة إليها إذا هاجر إلى المدينة، وأثبتت الحوادث أن هذا الشرط أفاد الجبهة الإسلامية
كثيرًا وذلك بوقوع ما عرف بقصة "أبي بصير" وهو عتبة بن أسيد الثقفي رضي الله عنه فلقد أسلم بعد الصلح في مكة، وهرب منها وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فأرسل قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون رده إلى قريش تطبيقًا لبنود الصلح، وحمل الطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "خنيس بن جابر العامري" ومولى لهم يسمى "كوثر" على بعير لهم ليعود بأبي بصير إلى مكة.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا بصير أن يرجع معهم، ودفعه إليهما.
فقال أبو بصير: يا رسول الله! تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني!
فقال صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بصير! إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجًا ومخرجًا".
فقال أبو بصير: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تردني إلى المشركين.
قال صلى الله عليه وسلم: "انطلق أبا بصير، فإن الله سيجعل لك مخرجًا". ودفعه إلى العامري وصاحبه.
فخرج أبو بصير معهما، وجعل المسلمون يسرون إلى أبي بصير: يا أبا بصير! أبشر فإن الله جاعل لك مخرجًا، والرجل يكون خيرًا من ألف رجل، فافعل، وافعل يأمرونه بالذين معه لينقذ نفسه منهم فهذا حقه، وليفعل ما سيفعله قبل أن يفعل به، وقد أعد القرشيون للعودة به عدتهم، فلما وصلا به إلى ذي الحليفة عند صلاة الظهر صلى أبو بصير في مسجدها ركعتين صلاة المسافر، ومعه زاد له من تمر يحمله فمال إلى جدار المسجد فوضع زاده فجعل يتغدى ودعاهما للطعام فقالا له: لا حاجة لنا في طعامك.
فقال لهم: ولكني لو دعوتموني إلى طعامكم لأجبتكم وأكلت معكم، فاستحيوا وأكلوا.
وقد علق العامري سيفه أثناء الطعام على الجدار، وتحادثوا وقد أمن كل منهم للآخر فقال أبو بصير: يا أخا بني عامر ما اسمك؟
قال: خنيس.
قال: ابن من؟
قال: ابن جابر.
قال: يا أبا جابر أصارم سيفك هذا؟
قال: نعم.
قال: ناولنيه أنظر إليه إن شئت، فناوله وكان قريبًا من السيف منه فأخذ أبو بصير بقائم السيف والعامري ممسك بالجفن فعلاه به وضربه حتى برد1.
فخرج "كوثر" هاربًا يعدو نحو المدينة، وأبو بصير في إثره فأعجزه حتى سبقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه بعد العصر، إذ طلع كوثر يعدو فقال صلى الله عليه وسلم:"هذا رجل قد رأى ذعرًا".
وأقبل "كوثر" حتى وقف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك! ما لك"؟
قال: قتل صاحبكم صاحبي وأفلت منه وكاد أن يقتلني.
وأقبل أبو بصير، فأناخ بعير العامري بباب المسجد، ودخل متوشحًا سيف العامري، فقال: يا رسول الله وفت ذمتك، وأدى الله عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن، أو أكذب بالحق.
فقال صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مِحَشُ حَرْبٍ لو كان معه رجال"2.
وقدم أبو بصير سلب العامري، ورحله، وسيفه، ليخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:"إني إذا خمسته رأوا أني لم أوف لهم بالذي عاهدتم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك".
ثم قال صلى الله عليه وسلم لكوثر: "ترجع به إلى أصحابك"؟
فقال كوثر: يا محمد ما لي به قوة ولا يدان تقدر عليه.
فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: "اذهب حيث شئت"3.
1 المغازي ج2 ص626.
2 المرجع السابق.
3 المغازي ج2 ص627.
فخرج حتى أتى العيص، فنزل منه ناحية على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشام.
وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكة خبر أبي بصير، فتسللوا إليه.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي كتب إليهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: "ويل أمه مِحَشّ حَرْبٍ لو كان معه رجال". وأخبرهم أنه بالساحل، فاجتمع عند أبي بصير قريب من سبعين مسلمًا على رأسهم "أبو جندل بن سهيل"، فكانوا بالعيص، وضيقوا على قريش، فلا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر عير إلا اقتطعوها، ومر بهم ركب يريدون الشام، معهم ثمانون بعيرًا، فأخذوا ذلك، وأصاب كل رجل منهم قيمة ثلاثين دينارًا، وكانوا قد أمروا عليهم أبا بصير، فكان يصلي بهم، ويقرئهم ويجمعهم، وهم له سامعون مطيعون فغاظ قريشًا صنيع أبي بصير، وشق عليهم، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم إلا أدخل أبا بصير إليه ومن معه، فلا حاجة لنا بهم فكتب صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير أن يتقدم بأصحابه معه، فجاءه الكتاب وهو يموت فجعل يقرؤه رضي الله عنه ومات، والكتاب في يده فدفنه أصحابه، وأقبلوا إلى المدينة وهم سبعون رجلا1.
وهكذا تم إلغاء الشرط الذي وضعه القرشيون لأنفسهم، ظنًا منهم أنه يفيدهم في منع أهل مكة من اعتناق الإسلام.
وقد استمرت جبهة قريش على هدوئها إلى أن نقضت قريش العهد بمناصرة بني بكر حلفائها على بني خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أن تم فتح مكة.
1 المغازي ج2 ص631.