الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: نتائج المعركة
اختلفت نتيجة معركة "أحد" عن نتيجة معركة "بدر" فقد استشهد من المسلمين عدد كبير ما بين السبعين إلى خمسة وسبعين شهيدًا، ولحقت الجراح بسائر أفراد الجيش الإسلامي، ولم يقتل من المشركين إلا أربعة وعشرون رجلا، ولم يؤسر منهم أحد مع قلة الجرحى منهم.
يروي الإمام أحمد والشيخان والنسائي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أصاب المشركون منا يوم أحد سبعين1.
وروى ابن حبان والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: أصيب يوم أحد من الأنصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة يقول الحافظ: وكان الخامس سعد مولى حاطب بن أبي بلتعة، والسادس ثقف بن عمرو الأسلمي حليف بني عبد شمس2.
ونقل الحافظ محب الدين الطبري عن الإمام مالك رحمه الله أن شهداء "أحد" خمسة وسبعون من الأنصار، أو أحد وسبعون.
وعن الإمام الشافعي رحمه الله أنهم اثنان وسبعون شهيدًا3.
وقد دفن الشهداء بملابسهم التي كانوا يلبسونها، بلا غسل ما عدا حمزة وأبا حنظلة فقد غسلتهم الملائكة.
وأما الصلاة عليهم فقد روى ابن إسحاق عن من لا يتهم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعمه حمزة فسجي ببردة، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى ووضعهم بجوار حمزة وصلى عليهم واحدًا بعد واحد، فصلى عليه وهو مع كل منهم ثنتين وسبعين صلاة4.
1 الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني ج21 ص53.
2 فتح الباري ج7 ص351.
3 يرجح المفسرون أن عدد الشهداء سبعون شهيدًا ويستدلون بقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} لأن المسلمين أصابوا المشركين يوم "بدر" بمائة وأربعين ما بين قتيل وأسير، والآية تشير إلى أن إصابة المشركين في "بدر" ضعف إصابة المسلمين في "أحد".
4 سيرة النبي ج2 ص98.
ولم يأخذ بهذا الحديث فقهاء الحجاز ولا الأوزاعي، وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على أحد من الشهداء، واستدلوا على رأيهم بوجوه:
الوجه الأول:
ضعف إسناد هذا الحديث؛ لأن ابن إسحاق قال: حدثني من لا يتهم، يعني: الحسين بن عمارة -فيما ذكروا- ولا خلاف في ضعف الحسين بن عمارة عند أهل الحديث، وأكثرهم لا يرونه شيئًا، وإن كان الذي عناه ابن إسحاق في قوله: حدثني من لا أتهم غير الحسين، فهو مجهول، والجهل يضعف الحديث، وكل الروايات الواردة في هذا الموضوع تعتمد على رواية ابن إسحاق وبذلك تكون كل الروايات ضعيفة.
الوجه الثاني:
حديث الصلاة على شهداء أحد لم يصحبه العمل بما دل عليه، لأن الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهيد في شيء من مغازيه كلها ولم ترد رواية في هذا الشأن إلا هذه الرواية التي رواها ابن إسحاق في شهداء أحد.
وكذلك لم يثبت ولم يرو أن الخليفتين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صليا على شهداء أبدًا وحكمة عدم الصلاة على الشهداء والله أعلم، تحقيق حياة الشهداء، ومعاملتهم معاملة الأحياء تصديقًا لقوله سبحانه:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 1 فالتعامل معهم على اعتبار هذه الحياة التي ذكرتها الآية.
والقائلون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على الشهداء يؤولون ما رواه الشيخان من أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد، ويذكرون أن ذلك كان بعد ثماني سنوات حيث صلى عليهم صلى الله عليه وسلم كالمودع للأحياء والأموات، فيكون المراد بالصلاة حينئذ الدعاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للموتى عمومًا بلا تكبير، ولا نية2.
يروي البخاري بسنده عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى "أحد" بعد ثماني سنين، كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال: "إني بين
1 سورة آل عمران: 169.
2 الروض الأنف ج3 ص178.
أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها" 1.
يؤيد ذلك ما رواه البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، في ثوب واحد ثم يقول:"أيهم أكثر أخذًا للقرآن"؟. فإذا أشير له إلى أحد، قدمه في اللحد وقال صلى الله عليه وسلم:"أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم ولم يغسلوا2.
الوجه الثالث:
إن المسلمين حملوا قتلاهم إلى المدينة، ودفنوهم بالبقيع، ولم يتمكنوا من إعادتهم إلى "أحد" ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليهم لدفنهم عقب الصلاة كما رغب.
ومما يذكر هنا أن الناس، أو عامتهم قد حملوا قتلاهم إلى المدينة، ودفنوهم بالبقيع، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بردهم إلى أحد لم يتمكنوا من ذلك، ولم يردوا إلا رجلا واحدًا أدركه المنادي قبل أن يدفن، وهو شماس بن عثمان المخزومي رضي الله عنه، الذي حمل إلى المدينة وبه رمق فأدخل على عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
فقالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ابن عمي يدخل على غيري!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احملوه إلى أم سلمة، فحمل إليها فمات عندها.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برده إلى "أحد"، فرد إليها، ودفن هناك كما هو في ثيابه التي مات فيها بلا غسل ولا صلاة، وكان قد مكث يومًا وليلة في المدينة ولكنه لم يذق شيئًا، وما ذهب إليه فقهاء الحجاز أقرب للفضل لأن ترك الصلاة عليهم إقرار باستمرار حياتهم، وفي ترك الغسل محافظة على أسر عبادة قاموا بها لأن الشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه يثغب دمًا اللون لون الدم، والريح ريح المسك فكيف نزيل عنه هذا الطيب، ونحرمه من أثر العبادة المشرق.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفن الشهداء جمع أصحابه، وقال لهم:"تعالوا نثني على الله". وصفهم صفين، وجعل النساء خلفهم، ثم دعا صلى الله عليه وسلم فقال:
1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص286.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد ج6 ص306.
"اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت! اللهم ابسط علينا من بركاتك، ورحمتك، وفضلك، وعافيتك، ورزقك!
اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول!
اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، والغناء يوم الفاقة.
اللهم إني أعوذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعت منا!
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين! اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين!
اللهم عذب الكفرة الذين يكذبون رسولك، ويصدون عن سبيلك!
اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك! اللهم اقتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق! آمين" 1.
وبعدها أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره إلى المدينة في جو من الألم والأسف.
وامتلأت بيوت الأنصار والمهاجرين بالحزن على قتلاهم، فلما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سالمًا وجد الجميع العزاء في سلامته صلى الله عليه وسلم فواساهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشرهم بأن ذويهم في الجنة وأنهم سيشفعون لهم، فرضوا بما قدر لهم، وصبروا على ما أصابهم، وهو أليم شديد.
لقد قتل من بني عبد الأشهل اثنا عشر رجلا، وجاءت أم سعد بن معاذ فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنها عمرو بن معاذ، وقال لها:"يا أم سعد أبشري، وبشري أهليهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعًا، وقد شفعوا في أهليهم".
قالت: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يبكي عليهم بعد هذا.
ثم قالت: ادع يا رسول الله لمن خلفوا.
قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أذهب حزن قلوبهم، وأجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على
1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص177 يقول الهيثمي ورجاله رجال الصحيح.
من خلفوا"1.
ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي عمرو سعد بن معاذ: "يا أبا عمرو، إن الجراح في أهل دارك فاشية، وليس منهم مجروح، إلا يأتي يوم القيامة وجرحه كأغرز ما كان، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فمن كان مجروحًا، فليقر في داره، وليداري جرحه، ولا يبلغ معي بيتي، عزمة مني"، وكان في بني عبد الأشهل وحدهم ثلاثون جريحًا يوم "أحد".
فنادى فيهم سعد: عزمة من رسول الله ألا يتبعه جريح من بني عبد الأشهل.
فتخلف الجرحى، وباتوا يوقدون النيران، ويداوون الجراح، ومضى سعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء بيته، فما نزل صلى الله عليه وسلم عن فرسه إلا حملا، واتكأ على سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، حتى دخل بيته، فلما أذن بلال رضي الله عنه بصلاة المغرب خرج صلى الله عليه وسلم على مثل تلك الحال، يتوكأ على السعدين فصلى، ثم عاد إلى بيته.
وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسري على بني عبد الأشهل، ونساؤهم يبكون على قتلاهم فقال لهم:"أما حمزة فلا بواكي له" 2 عسى أن يكون ذلك قدوة للنسوة فيدعن النواح والعويل، إلا أن سعد بن معاذ رضي الله عنه مضى إلى نسائه فساقهن، حتى لم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكين حمزة رضي الله عنه بين المغرب والعشاء، والناس في المسجد يوقدون النيران، يتكمدون بها من الجراح، وأذن بلال رضي الله عنه حين غاب الشفق فلم يخرج صلى الله عليه وسلم فجلس بلال عند بابه صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ثلث الليل، ثم ناداه: الصلاة يا رسول الله، فهب صلى الله عليه وسلم من نومه وخرج، فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل.
وسمع صلى الله عليه وسلم البكاء فقال: "ما هذا"؟.
فقيل: نساء الأنصار يبكين على حمزة.
فقال صلى الله عليه وسلم: "رضي الله عنكن، وعن أولادكن". وأمر أن ترد النسوة إلى منازلهن، فرجعن بعد ليل مع رجالهن، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم رجع إلى بيته، وقد صف
1 المغازي ج1 ص316.
2 بغية الرائد بتحقيق مجمع الزوائد ج6 ص175.
له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه، يمشي وحده حتى دخل، وباتت وجوه الأوس والخزرج على بابه في المسجد يحرسونه، فرقًا من قريش أن تكر.
وبادر الصحابة رضي الله عنه فأحضروا نساءهم ليبكين حمزة رضي الله عنه فجاء معاذ بن جبل رضي الله عنه بنساء بني سلمة: وجاء عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بنساء بلحارث بن الخزرج ولم يرض بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم لهم: "ما أردت هذا". ونهاهن الغد عن النوح أشد النهي1.
وكان لنجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر كبير في تسلية أهل الشهداء؛ لأنهم رضوان الله عليهم رأوا في نجاة رسولهم خير عوض عما فقدوه.
مر صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها، وأخوها، وأبوها بأحد، فلما نعوا لها أقاربها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله2.
ومن ابتلاءات يوم "أحد"، وتغلب روح الإيمان على المصائب ما حدث من حمنة بنت جحش زوجة مصعب بن عمير رضي الله عنها فإنها أصيبت بعدد من أهلها، وأقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها:"يا حمنة احتسبي".
قالت: من يا رسول الله؟
قال: "خالك حمزة".
قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه هنيئًا له الشهادة.
ثم قال لها: "احتسبي".
قالت: من يا رسول الله؟
قال: "أخوك".
قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه هنيئًا له الشهادة.
1 بغية الرائد بتحقيق مجمع الزوائد ج6 ص175.
2 نفس المرجع ج6 ص165.
ثم قال لها: "احتسبي".
قالت: من يا رسول الله؟
قال: "مصعب بن عمير".
قالت: واحزناه!! وفي رواية أنها قالت: واعقراه.
فقال صلى الله عليه وسلم: "إن للزوج من المرأة مكانًا ما هو لأحد".
ثم قال لها: "لم قلت هذا".
قالت: يا رسول الله ذكرت يتم بنيه فراعني1.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لولده أن يحسن الله عليهم الخلف، فتزوجت طلحة فولدت له محمد بن طلحة، وكان أوصل الناس لولدها2.
وقد قتل من المشركين في أحد أربعة وعشرون قتيلا، وأسر منهم رجل واحد هو أبو عزة عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب من بني جمح وكان أسره في اليوم الثاني للمعركة والمسلمون في طريقهم إلى حمراء الأسد.
وفي الوقت الذي عاد فيه المسلمون إلى المدينة يداوون جرحاهم، ويعزي بعضهم بعضًا في القتلى والجرحى، نرى الكفار وقد عادوا منتصرين، وقتلاهم، أقل عددًا من قتلى المسلمين، وقد أخذوهم معهم إلى مكة حتى لا يحفر لهم قليب آخر.
لقد عاد المكيون من "أحد" منتصرين، وقد تصوروه نصرًا دائمًا يحقق لهم ما يبغون لكن الأيام أثبتت أنهم لم يحققوا شيئًا من الأهداف التي حاربوا لتحقيقها؛ لأن روج الإيمان في قلوب المسلمين لم تهن، ولم تضعف؛ ولذلك بادر المسلمون باتخاذ عدد من الأعمال بعد أحد أجهضت كل أحلام أعداء الإسلام من اليهود والمنافقين والأعراب وأهل مكة كما سيتضح من أحداث ما بعد "أحد".
1 المغازي ج1 ص291.
2 المغازي ج1 ص292.