الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمهيد: التعريف بالمدينة المنورة "دار الهجرة" وبيان أهميتها للدعوة
المدينة المنورة:
المدينة المنورة هي مهجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومأوى المسلمين، وكهف الإسلام، وأساس الدولة الإسلامية، ومنها انطلق الإسلام إلى العالم كله، وبوصول المهاجرين إليها بدأت الحركة بالإسلام تأخذ شكلا شموليًا لأركان الدين، ولسائر الناس في كل أرض الله تعالى معتمدة على جهود المهاجرين والأنصار بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والتعريف بالمدينة يحتاج إلى بيان النقاط التالية:
1-
أسماء المدينة المنورة وفضلها:
عرفت المدينة المنورة قبل الإسلام باسم "يثرب"، ويقال: إن الأرض التي أقيمت عليها المدينة هي المسماة بهذا الاسم، وقيل: إنه اسم كل من سكنها1.
وحيث أن هذا الاسم يتضمن معنى سيئًا لأن يثرب مشتق من التثريب أو الثرب ومعنى كل منهما الإفساد، والتغيير، واللوم، والتعنيف، والعقوبة، والجزاء فقد تغير اسمها في الإسلام إلى ما يدل على الخير والبركة، والنور، والطهر، وصارت تسمى بأسماء كثيرة.
من هذه الأسماء المدينة المنورة بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها.
ومن أسمائها المدينة، يقول الله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} 2.
ويقول سبحانه: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} 3.
ومنها طابة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم حينما أشرف على المدينة عند عودته من تبوك: $"هذه طابة"4.
1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص414.
2 التوبة: 101.
3 المنافقون: 8.
4 صحيح البخاري كتاب الحج باب المدينة طابة ج3 ص275 ط الأوقاف.
ومنها "طيبة" يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها طيبة"1.
ولها أسماء أخر أشهرها الإيمان، والجائرة، والمنورة، والمحبوبة، والقاصمة، والبارة، والحرم، والخيرة، وقد عد صاحب السيرة الشامية للمدينة خمسة وتسعين اسمًا2.
وأسماء المدينة في الإسلام مشتقة من صفاتها، وخصائصها ونظرًا لانتفاء صفاتها الجاهلية فإنه يكره شرعًا تسميتها بما كان لها في الجاهلية من أسماء وعلى رأسها يثرب.
روى الإمام أحمد ومالك والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت بقرية تأكل القرى يقولون: يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد"3. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سمى المدينة بيثرب فليستغفر الله، هي طابة، هي طابة، هي طابة" 4.
وقد التزم السلف أسماءها الجديدة وكرهوا تسميتها بيثرب، يقول ابن عباس رضي الله عنه:
"من قال يثرب فليستغفر الله ثلاث مرات"5.
ويقول عيسى بن دينار: "من سمى المدينة يثرب كتب عليه خطيئة"6.
وبهذا جزم العلامة كمال الدميري، ونظم رأيه شعرًا فقال:
ومن دعاها يثربًا يستغفر
…
فقوله خطيئة لتنظر
وسبب الكراهة ما في كلمة يثرب من دلالة على السوء أيا كان اشتقاقها فإن كان اشتقاقها من الثرب فمعناها الفساد، وإن كان اشتقاقها من التثريب فمعناها العقوبة، والمؤاخذة بالذنب، وكلا المعنيين لا يليق بالمدينة، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن دائمًا، ولذلك سماها طابة، وطيبة وأقر سائر أسمائها الحسنة.
1 صحيح البخاري ج3 ص274 ط الأوقاف.
2 انظر سبيل الهدى والرشاد ج3 ص414-427.
3 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص274.
4 الكشف الإلهي للطرابلسي، وفي صحيح البخاري "هي طابة" ج1 ص275.
5 الفوائد المجموعة للشوكاني، الدرر ج5 ص188.
6 سبل الهدى والرشاد ج3 ص427.
وأما تسميتها في القرآن بيثرب، فهو حكاية قول المنافقين في قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} 1.
وحكاية قول المنافقين تثبت الكراهة، ولا تفيد الإباحة لأنهم {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} 2 فقول المنافق سوء كصاحبه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم وهو يشير إلى أصحابه عن دار هجرتهم بعد ما رآها منامًا حين قال لهم: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى اليمامة أو هجر فإذا هي يثرب المدينة" 3، وقال لهم:"لا أراها إلا يثرب" 4، فليس دليلا على عدم الكراهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك تعريفًا بها لأصحابه وهم في مكة ولأنهم لم يعهدوا لها قبل الإسلام اسمًا غير "يثرب"، ولم يكن نزل نهي عن هذه التسمية بعد، فلما نزل النهي بينه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ليتركوه فتركوه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب المدينة، ويحب أهلها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر ينظر إلى جدر المدينة المنورة، ويطرح رداءه ويقول:"هذه أرواح طيبة" 5 ويحث راحلته على سرعة السير نحوها حبًا وسرورًا بالمدينة، وأهلها، وكثيرًا ما كان ينادي ربه:"اللهم اجعل لنا بالمدينة قرارًا، ورزقًا حسنًا" 6 ومن دعائه صلى الله عليه وسلم للمدينة ما رواه أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة"7.
وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا
1 سورة الأحزاب: 13.
2 سورة المنافقون: 4.
3 صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ج6 ص203، والوهل: الظن.
4 سبل الهدى والرشاد ج3 ص434.
5 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص283.
6 سبيل الهدى والرشاد ج3 ص430.
7 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص282.
إبراهيم لمكة" 1.
وعن عبد الله بن الفضل بن العباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدعوك لأهل المدينة بمثل مكة"2.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة، أن يقطع عضاها، أو يقتل صيدها"، وقال صلى الله عليه وسلم:"المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت شفيعًا أو شهيدًا له يوم القيامة"3.
ويروي أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرامًا، وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين، والذي نفسي بيده ما من المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها"4.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك دعا لأهل مكة بالبركة وأنا محمد عبدك ورسولك، وأنا أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم، مثلما باركت لأهل مكة، واجعل مع البركة بركتين"5.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى النبي
1 صحيح مسلم بشرح النووي فضل المدينة ج9 ص135.
2 صحيح مسلم باب فضل المدينة ج9 ص146.
3 صحيح مسلم باب فضل المدينة ج 9 ص136.
4 صحيح مسلم باب فضل المدينة ج 9 ص147، 148، والمأزِم بكسر الزاي الجبل أو المضيق بين جبلين، والمراد به هنا الجبل.
5 سنن الترمذي بشرح تحفة الأحوذي باب فضل المدينة ج10 ص284.
صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك، وخليلك، ونبيك وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه"1.
وقد اتفق العلماء على تفضيل مكة والمدينة على سائر المدن والقرى، إلا أنهم اختلفوا في التفاضل بينهما، فذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبعض الصحابة، وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة وهو مذهب الإمام مالك، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد مستدلين بما يلي:
1-
يقول الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} 2، والمخرج الصدق هو مكة، والمدخل الصدق هو المدينة، والسلطان النصير هم الأنصار، وقد بدأت الآية بالمدخل، وهو المدينة لأفضليتها يقول ابن عبد البر:"وفيه دليل واضح على تفضيل المدينة؛ لأن الله ابتدأ بها، وكان القياس أن يبتدئ بمكة؛ لأنه خرج منها قبل أن يدخل المدينة، وأيضًا قد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم سلطانًا نصيرًا في المدينة ولم يجعله بمكة، ويأبى الله تعالى بكرمه إلا أن ينقل نبيه إلا إلى ما هو خير"3.
2-
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليَّ فأسكني أحب البلاد إليك" 4، ففي هذا الحديث تصريح بأن المدينة أحب البلاد إلى الله تعالى، وذلك يدل على أفضليتها.
3-
ذهب العلماء إلى أن الإنسان يدفن في التربة التي خلق منها.
فلقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبر فسأل: "قبر من هذا"؟.
قالوا: قبر فلان الحبشي يا رسول الله.
1 صحيح مسلم باب فضل المدينة ج9 ص146.
2 سورة الإسراء: 80.
3 الدرر في اختصار المغازي والسير ص80.
4 البداية والنهاية ج3 ص25 نقلا عن البيهقي.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا إله إلا الله سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها" 1، وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة"، قال الحكيم الترمذي:"إنما صار أجله هناك لأنه خلق من تلك البقعة وقد قال الله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 2 قال: فإنما يعاد المرء من حيث بدئ به"3.
وقد دفن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وفي ذلك دلالة على أن ترتبها أفضل من غيرها.
4-
يقول النبي صلى الله عليه وسلم داعيًا للمدينة: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" 4، وقد استجاب الله دعوته، حتى كان يحرك دابته إذا رأى المدينة، وهو عائد إليها ليسرع إليها من حبه لها، وفي حب النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة أكثر من حبه مكة دليل على أفضليتها عند الله تعالى؛ لأن حبه صلى الله عليه وسلم تابع لحب ربه والمحبوب إلى الله ورسوله أكثر من غيره كيف لا يكون أفضل؟! إنه الأفضل.
5-
بيان حقيقة أن ما بين بيته وقبره صلى الله عليه وسلم روضة من رياض الجنة، دليل على فضل المدينة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي" 5؛ لأن رياض الجنة يفضل أرض الدنيا كلها.
6-
تفضيل المدينة يكون بسبب مجاورة ساكنيها والمقيمين بها لقبره صلى الله عليه وسلم؛ لأن مجاورة أهل الخير خير، ولذلك كان جزاء الصالحين في الآخرة إلحاقهم بالصالحين، وقد حرمت الشريعة الإسلامية مس المحدث لجلد المصحف لمجاورة الجلد للمصحف نفسه، مع أنه ليس منه، وذلك لأن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة، والرضوان والملائكة وله عند الله من المحبة، ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، فكيف لا يكون أفضل الأماكن؟!!
1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص435.
2 سورة طه: 55.
3 الدرر في اختصار المغازي والسير ص80.
4 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص285 ط الأوقاف.
5 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص284.
وقد حرص عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يدفن بجوار صاحبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه لينال من الجوار بعض الخير الذي لا يرجوه في غيره.
ومن المعلوم أن جمهرة من العلماء قالوا بأفضلية مكة المكرمة على المدينة المنورة نظرًا لمضاعفة ثواب العمل بمكة ووجود الكعبة بها من بدء الحياة البشرية من لدن آدم عليه السلام ولضعف حديث أن المدينة أحب البلاد إلى الله تعالى إلا أن الجميع متفقون على أن البقعة التي تضم الأعضاء الشريفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دفنه أفضل من غيرها على الإطلاق، تليها في الأفضلية الكعبة ببنائها المعروف.
وقد حرم الله تعالى المدينة كما حرم مكة فلا يقطع شجرها، ولا يقتل صيدها يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إني حرمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عضاها، ولا يقتل صيدها"1.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرام، لا يختلي خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمن أشار لها وعرفها، ولا يصلح لرجل أن يحمل السلاح فيها إلا لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجر إلا أن يعلف الرجل بعيره"2.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرام ما بين عير إلى ثور"3.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحد جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها أي المدينة"4.
وفي المدينة المنورة قامت دولة الإسلام الأولى، ومنها انطلق الدعاة إلى كل مكان وانتشر الإسلام في العالم كله، والمسلم في كل زمان ومكان له في نفسه حب يسوقه إلى المدينة؛ لأنه يساق إلى المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لحب رؤيته صلى الله عليه وسلم والتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم للاقتداء بهديهم والسلام على نبيهم، ومن بعد ذلك للصلاة في مسجده والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، والتبرك بمشاهدة آثاره، وآثار
1 صحيح مسلم باب فضل المدينة ج9 ص137.
2 صحيح مسلم باب فضل المدينة ج9 ص141.
3 صحيح البخاري كتاب الحج، باب حرم المدينة ج3 ص271.
4 صحيح البخاري بشرح فتح الباري باب أحد جبل يحبنا ج4 ص89.
أصحابه رضوان الله عليهم1.
ومن المعلوم أن شد الرحال إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم سنة مشروعة.
وكل من يزور المدينة المنورة، ويتشرف بزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يعيش ذكريات الإسلام الأولى التي اكتمل خلالها الإيمان، وتمت النعمة، وأصبح للإسلام دولة وقوة فهي مأوى الإسلام وقوته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها"2.
والمدينة المنورة هي دار الإسلام الباقية على الزمن كله وآخر القرى خرابًا في آخر الزمان، يقول صلى الله عليه وسلم:"آخر قرية من قرى الإسلام خرابًا المدينة"3.
2-
جغرافية المدينة المنورة:
تقع المدينة المنورة شمال مكة المكرمة بثلاثمائة وخمسين ميلا تقريبًا، وهي أصغر مساحة، وأقل سكانًا من مكة، ويذهب بعض العلماء إلى أن المدينة كانت عند الهجرة نصف مكة مساحة وسكانًا، وتقع المدينة وسط جبال بركانية، وتلال صخرية، وأراضي حجرية فهي بذلك تمثل واحة خضراء، بها زراعات ونخيل وسط الصخر والحجر.
وهي قرية صغيرة تقع بين جبلي عير وثور، لقوله صلى الله عليه وسلم:"المدينة حرم ما بين عير إلى ثور"4.
وقد حققت مجلة الأزهر في عددها الصادر في غرة صفر سنة 1375هـ وجود هذين الجبلين حول المدينة المنورة، بعدها شكك البعض في أن جبل ثور هو الموجود بمكة، ولا وجود له بالمدينة.
1 السيرة النبوية ج9 ص137.
2 صحيح البخاري كتاب الحج باب الإيمان يأرز إلى المدينة ج3 ص277ط الأوقاف ومعنى يأرز ينضم ويجتمع.
3 تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي ج10 ص418.
4 صحيح البخاري، كتاب الحج، باب حرم المدينة ج3. ص271، صحيح مسلم، كتاب الحج ج2 ص944.
ويقع جبل ثور1 خلف جبل أحد شمال المدينة، وبذلك يكون جبل أحد جزءًا من المدينة؛ لأن ثورًا يحدها شمالا.
ويقع جبل "عير"2 في جنوب المدينة وهو حدها الجنوبي.
كما يحد المدينة من الشرق حرة "واقم".
ومن الغرب تقع حرة "الوبرة"3.
وتتميز المدينة المنورة بأنها دار حق وصدق، لقوله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} 4، يقول المفسرون: هما مكة التي خرج صلى الله عليه وسلم منها والمدينة التي دخلها صلى الله عليه وسلم5.
والمدينة أحب البلاد إلى الله تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند خروجه من مكة: "اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك" 6، فأسكنه الله المدينة المنورة.
3-
أهمية موقع المدينة:
تتميز المدينة بموقعها الحصين، وخيرها الكثير فهي تقع في ملتقى طرق الجزيرة العربية الآتية من كل جهاتها، كما أنها محاطة بحواجز طبيعية تمنع وصول العدو إليها إن قصدها بسوء، وتعتبر المدينة جزيرة خضراء محاطة بحواجز صخرية، منيعة، إذ تقع حرة "واقم" في الشرق، وحرة "الوبرة" في الغرب، وجبل ثور وأحد في الشمال وجبل "عير" في الجنوب.
1 جبل ثور بالمدينة جبل صغير مدور، يقع خلف جبل أحد، وهو غير جبل ثور الموجود بمكة، ولونه يميل إلى الحمرة.
2 عير جبل عظيم شامخ يقع جنوب المدينة على مسافة ساعتين منها.
3 الحرة: بفتح الحاء وتشديد الراء المفتوحة، وواقم رجل من العماليق، والوبرة بفتح الباء أو بسكونها أرض حجرية لونها أسود كأنها أحرقت.
4 سورة الإسراء: 80.
5 تفسير ابن كثير ج3 ص58، 59 وهو أشهر الأقوال.
6 البداية والنهاية ج3 ص205.
وكان بها الزرع والثمر والنخيل، واستقر بها بعض اليهود وأقام فيها الأوس والخزرج منذ القدم وأنشئوا بها الصناعات، وزرعوا الأرض، واستخرجوا الثمر ولذلك يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم:"إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين"1. فتميزها بالنخيل دليل الزراعة والثمر، وإحاطتها باللابتين دليل المنعة والتحصين.
وكان العرب وعلى رأسهم أهل مكة يقدرون لأهل المدينة هذا الموقع، ويعاملونهم بالتقدير والاحترام كسبًا لودهم، وأملا في حماية تجارتهم وهي تغدو وتروح عليهم، ولذلك رأينا القرشيين بعد بيعة العقبة الثانية يصبون جام غضبهم على من أسلم من أهل مكة، ويتجنبون مخالفة أهل المدينة.
جاء في صحيح البخاري أن سعد بن معاذ رضي الله عنه كان صديقًا لأمية بن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انطلق سعد معتمرًا فنزل على أمية بمكة كعادته فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت فخرج به قريبًا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من معك؟
فقال: هذا سعد.
فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنًا، وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم؟ أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالمًا.
فقال له سعد، ورفع صوته عليه: أما والله لو منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة.
فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيد الوادي.
فقال سعد: دعنا عنك يا أمية2.
1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص468 واللابة هي الحرة بفتح الحاء.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب ذكر النبي من قتل ببدر ج7 ص282.
كما أنه واضح أن المدينة كانت ذات ثمر، فلقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن بن بدر الفزاري وهو يومئذ رأس المشركين من غطفان عند الخندق ليخذل بين الأحزاب؟! ويصرفهم عن حصار المدينة.
فأرسل إليه عيينة وقال له: إن جعلت لي الشطر فعلت1.
لقد كان ثمر المدينة جديرًا بأن يغري رؤساء الكفر بنقض ما عزموا عليه، كما كان جديرًا أن يمزق جمعهم طمعًا فيه.
إن إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنها ذات نخل دليل على ما فيها من خير لأن النخلة كثيرة الفوائد، عظيمة الثمر، ووجودها دليل على وجود ثمرها، وفيها عناصر الغذاء المطلوبة للإنسان يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام، وليس من الشجر شيء يلقح غيرها" 2، ويقول عمرو بن ميمون:"ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب"3.
إن عديدًا من الصناعات تقوم على النخلة منذ القدم، وقد استفاد بها العربي فائدة كبرى، فمنها يصنع بيته وأدواته، وفراشه، بالإضافة إلى تنوع ثمرها طعمًا، ولونًا، وصورة.
4-
خلو المدينة من الوباء:
اشتهرت يثرب قبل الإسلام بأنها بلد موبوءة، يكثر فيها المرض وتنتشر به الحمى، تقول عائشة رضي الله عنها:"قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وكان بطحان يجري نجلا أي ماء آجنًا"4، وبهذا بينت السيدة عائشة رضي الله عنها السر في كون المدينة وبيئة، وهي أن وادي بطحان ينز ماؤه جهة المدينة فيحدث المرض والوباء
1 السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة ص154.
2 تفسير ابن كثير ج3 ص118.
3 المرجع السابق ج3 ص118.
4 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص285.
ولذلك قال مشركو مكة حين جاء المسلمون للعمرة بعد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه يقدم عليكم وفد وهنهم حمى يثرب" 1، ومن هنا ندرك سر أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة وهم يطوفون بالبيت وأن يمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون قوتهم ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم2.
وقد تأثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بحمى المدينة بعد هجرتهم. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله
…
والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عن الحمى يرفع عقيرته يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
…
بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يومًا مياه مجنة
…
وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة"3.
واستجاب الله دعاء نبيه للمدينة، وجعلها بلدًا طيبًا.
يقول الحافظ ابن حجر: "أصبحت المدينة أطيب بلاد الله سبحانه، كما سماها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سماها "طابة" و"طيبة" والطاب والطيب لغتان بمعنى واشتقاقها من الشيء الطيب لطهارة تربتها ولطيبها لساكنيها، ومن طيب العيش بها وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية؛ لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها.
يقول الحافظ ابن حجر: وقرأت بخط أبي علي الصدفي في هامش نسخته من
1 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص130.
2 صحيح البخاري كتاب الحج باب الرمل في الحج والعمرة ج3 ص131.
3 صحيح البخاري كتاب فضائل المدينة ج4 ص284، 285.
صحيح البخاري بخطه يقول: أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها يجده من أقام بها ويجد لطيبها أقوى رائحة، ويتضاعف طيبها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب1.
وهكذا خلت المدينة من الوباء، وحسن حالها، واستقر أمر المسلمين بها، وصارت حاضرة الإسلام الأولى بعد الهجرة إليها.
5-
وسطية المدينة:
تقع المدينة المنورة وسط العالم كمكة؛ لأنها قريبة منها، وأغلب سكانها عرب، ولغتهم هي العربية، وقد ساعد قرب المدينة من مكة أن يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أخبار المكيين، أمل الدعوة وأسسها وركيزتها، فهم الذين يدين لهم العرب جميعًا بالسيادة، ويتخذونهم القدوة والأسوة، ولأنهم منذ القدم حماة بيت الله وسدنته، ومقصد أهل الجزيرة حيث يأتون إليهم حاجين ومعتمرين، وقد ترك فيهم إبراهيم عليه السلام وحي الله ودينه وقد بوأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلتهم وهو يقول:"قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم"2.
ولم تغب مكة عن فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، ولم ينس أهلها ولذلك حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على معرفة أسرارهم، وأخبارهم، ومعرفة نقاط الضعف لديهم وإذا كان صلى الله عليه وسلم مكث بينهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثة عشر عامًا، وعجز عن إدخالهم في الإسلام، فإنه بعد الهجرة أخذ يحاول في إيمانهم؛ لأنهم شعب كثير، قوي يمكنه خدمة الإسلام بما يملك من إمكانيات واسعة، وثقة كبيرة يوليها العرب لهم.
وتبرز أهمية أهل مكة وإمكاناتها الدعوية، فيما حدث للإسلام بعد فتح مكة إذ خرج من المكيين للجهاد في "حنين" آلاف، ولم يمض على إسلامهم عام واحد،
1 فتح الباري على صحيح البخاري ج4 ص89.
2 مسند الإمام أحمد مسند أبي بكر الصديق ج1 حديث رقم 18 ص199 ط الرسالة وانظر صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص85.
ودخلت الجزيرة كلها في الإسلام بعدهم، وظهر من بينهم دعاة أفذاذ حملوا راية الإسلام، وجاهدوا في سبيل الله تعالى.
لقد كان أهل مكة تجارًا يجوبون الآفاق، وهذا علمهم الواقعية في التفكير، واستخلاص النتائج من المقدمات، والاهتمام بالدور الفردي لخدمة الجماعة، والاستفادة من المهارات الخاصة في تحقيق منافع محددة، والإحاطة ببلاد العالم وطرق الرحلة إليها.
كل هذا جعل من المدينة المنورة موطن الدعوة المثالي لما بينها وبين مكة من ترابط وصلة ولذلك هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليها وعيونهم وقلوبهم ترنوا لمكة رجاءً وأملا.
6-
تميز المدينة عن غيرها من المدن:
لو نظرنا لسائر مدن الجزيرة العربية لرأينا تميز المدينة عنها جميعًا، ولأدركنا سر اختيارها للهجرة، فمدينة "الطائف" قريبة من مكة، بل هي أقرب إليها من المدينة، وقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعلها موئل الإسلام حين ذهب إليها، وطلب من أهلها الحماية والنصرة1 إلا أنهم كانوا متأثرين بنفوذ القرشيين، ولذلك تجنبوا مخالفتهم، وردوا الرسول حين أتاهم ردا قبيحًا.
وكان للمسيحية قوة التأثير في بلاد اليمن القريبة من بلاد الحبشة وفي بلاد الشام القريبة من أرض الروم.
وكان للفرس نفوذ في شرق جزيرة العرب وبعض بلاد الشام.
ولم يبق من مدن الجزيرة العربية مدينة تصلح للحركة الإسلامية، وتصير قاعدة الإسلام إلا مدن بلاد الحجاز الثلاث "مكة، والطائف، والمدينة" لعدم تأثرها بغيرها وحسن موقعها، ومزايا سكانها، فإذا ما انتفت منها مكة، والطائف لم يبق إلا المدينة المنورة وإليها كانت الهجرة النبوية.
1 انظر ص364 من الكتاب الثاني من هذه السلسلة.
7-
سكان المدينة المنورة:
سكن المدينة المنورة قبل الهجرة كل من قبيلتي الأوس والخزرج، ومعهم طوائف من اليهود.
وكان أول الأمر بالمدينة أن سكنها العمالقة، ثم قدم عليهم أناس من بدو بني إسرائيل، فجاورهم فيها، فلما انهدم سد مأرب هاجر إليها الأوس والخزرج، ونزلوا بها، وتفرقوا في عاليتها وسافلتها1 فمنهم من نزل مع بني إسرائيل في القرى حول المدينة، ومنهم من أقام في يثرب.
ولما دالت دولة اليهود في فلسطين في الزمن القديم وقضى عليهم الرومان، وهدموا الهيكل فر كثير منهم إلى الحجاز، وأقاموا في يثرب، وخيبر فكان بيثرب يهود بني قينقاع، وفي تخومها يهود بني قريظة والنضير، وكانت هناك جماعات أخرى من اليهود تقيم بخيبر، وفدك، وتيماء، ووادي القرى.
وقد اتفقت قبائل الأوس والخزرج واليهود على المسالمة، وحسن الجوار، فعقدوا حلفًا يأمن به بعضهم على بعض، ويمتنعون به عمن سواهم.
وكانت الغلبة والقوة لليهود ابتداء لتملكهم مصادر الغنى والثروة، إذ كانوا يشتغلون بالصياغة وصنع آلات الحرب، وبالزراعة وفلاحة البساتين، وكان لهم سوق كبيرة تقام بصورة دورية لبيع منتجاتهم لأهل يثرب والقرى المجاورة.
ولما كثر عدد الأوس والخزرج، وزادت ثروتهم، واشتد ساعد أبنائهم وصارت لهم قوة خافت قريظة والنضير منهم فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم الأمر الذي جعل قبيلتي الأوس والخزرج تتحدان في إطار واحد، ويملكان عليهم "مالكًا بن العجلان"، أخا سالم بن عوف الخزرجي.
وهكذا انقسمت المدينة إلى قسمين، قسم هم العرب من الأوس والخزرج ومن والاهم، وقسم هم اليهود بمختلف قبائلهم، وطوائفهم.
1 يراد بالعالية ما كان فوق المدينة إلى قباء وما بعدها، ويراد بالسافلة ما كان في أسفل المدينة إلى أحد وقبر حمزة رضي الله عنه.
ولم يدم توحد عرب يثرب طويلا، فقد لعب بهم اليهود، وأوقعوا بينهم الفتنة، واشتعلت الحرب بين الأوس والخزرج واستمرت وكان آخرها حرب "بعاث".
ولم يتمكن "مالك بن العجلان" الذي سوده الأوس والخزرج عليهم من إيقاف الحرب، وإنهاء القتال، الأمر الذي أدى إلى كثرة الضرر وإهمال طرق الكسب والمعاش.
وقد تطور الأمر بعد ذلك حيث مكن الله للأوس والخزرج بعد بغي اليهود، وظلمهم لأهل المدينة.
يذكر المؤرخون أن ملك اليهود "الفطيون"1 كانت له السيادة على اليهود والأوس والخزرج، وكانت له فيهم سنة ألا تزوج منهم امرأة إلا أدخلت عليه قبل زوجها حتى يكون هو الذي يفتضها، إلى أن خطبت أخت لمالك بن العجلان الخزرجي، فلما كانت الليلة التي تهدى فيها إلى زوجها خرجت على مجلس قومها كاشفة عن ساقيها، وأخوها مالك في المجلس.
فقال لها: قد جئت بسوأة بخروجك على قومك وقد كشفت عن ساقيك!! قالت: الذي يراد بي الليلة أعظم من ذلك لأنني أدخل على غير زوجي، ثم دخلت إلى منزلها فدخل إليها أخوها وقد أرمضه قولها.
فقالت له: هل عندك من خبر؟
قال: نعم.
قالت: فماذا؟
قال: أدخل معك في جملة النساء على الفطيون، فإذا خرجن من عندك ودخل عليك ضربته بالسيف حتى يبرد.
قالت: افعل.
فتزيا بزي النساء، وراح معها، فلما خرج النساء من عندها دخل الفطيون عليها فشد عليه "مالك بن العجلان" بالسيف وضربه حتى قتله، وخرج هاربًا حتى
1 الفطيون بكسر الفاء وسكون الطاء وياء مفتوحة وسكون الواو.
قدم الشام، فدخل على ملك من ملوك غسان يقال له أبو جبيلة فشكا إليه ما كان من الفطيون وما كان يعمل في نسائهم، وذكر له أنه قتله وهرب، وأنه لا يستطيع الرجوع خوفًا من اليهود، فعاهده أبو جبيلة أن لا يقرب امرأة، ولا يمس طيبًا، ولا يشرب خمرًا حتى يسير إلى المدينة، ويذل من بها من اليهود، وأقبل سائرًا من الشام في جمع كثير، مظهرًا أنه يريد اليمن حتى قدم المدينة، ونزل بذي حرض، ثم أرسل إلى الأوس والخزرج أنه على المكر باليهود، عازم على قتل رؤسائهم، وأنه يخشى متى علموا بذلك أن يتحصنوا في آماطهم، وأمرهم بكتمان ما أسره إليهم، ثم أرسل إلى وجهاء اليهود أن يحضروا طعامه، ليحسن إليهم، ويصلهم، فأتاه وجوههم، وأشرافهم، ومع كل واحد منهم خاصته وحشمه، فلما تكاملوا أدخلهم في خيامه، ثم قتلهم عن آخرهم، فصارت الأوس والخزرج من يومئذ أعز أهل المدينة1.
وبعد أن هاجر المسلمون إلى المدينة وأقاموا بها ظهر المهاجرون عنصرًا جديدًا فيها، يحمل الفكر والخلق، وينشر الهدى والدين.
وقد تغير حال المسلمين في المدينة بعد الهجرة عن ما كانوا عليه من مكة، فلقد أصبح أمرهم بأيديهم، وصارت القوة معهم، وأخذوا يظهرون الإسلام بسائر نظمه في حياتهم، ومعاشهم، وأصبح لزامًا عليهم أن يكونوا مجتمعًا إسلاميا، يحمي أبناءه، ويصون عقيدته، وينشر دين الله في الأرض كلها.
وليس بخاف أن تكوين هذا المجتمع يحتاج إلى جهد وإخلاص، كما يحتاج إلى صبر شديد، وزمن مديد، وعمل جاد رشيد، حتى يتكامل التشريع مع التطبيق، ويتوافق التثقيف والحركة، ويمتلئ الوجود بنور الوحي حركة في السلوك والحياة.
وهذه الآمال الكبار المنوطة بالمسلمين في المدينة تحتاج إلى مجتمع متماسك، متحد الوسائل والغايات، يدرك رسالة الله، ويحمل الأمانة، ويعيش بها، ويتحرك لها بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن هذا المجتمع بعناصره بعد الهجرة يحتاج إلى فهم مكوناته، والتعامل مع كل
1 معجم البلدان ج5 ص85.
عنصر بما يكافئه.
فالمسلمون يتكونون من الأنصار المقيمين في أرضهم وديارهم وأموالهم، آمنين في شئونهم، عندهم قوتهم ومعاشهم، وكل ما ينقصهم هو القضاء على كل ما بينهم من منازعات وعداوات امتدت طويلا فيما مضى من الزمان، وقد دخلوا في الإسلام ومن آمالهم أن تنتهي هذه المنازعات بالإسلام.
وبفضل الله تعالى انتهت هذه المنازعات من اللحظة الأولى بعد البيعة، عندما بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم عند العقبة يدًا واحدة، تمثل جماعة واحدة، ومدينة واحدة، ولما جاءهم مصعب بن عمير رضي الله عنه، قادهم جميعًا إلى الله، وأدركوا أنهم بالإسلام مسئولون مع المهاجرين على مواجهة الوثنية في بلاد العرب وغيرها.
لقد كانت قبيلة الخزرج أكثر عددًا وقوة من الأوس، وكان النقباء منهم أكثر ومع ذلك لم يحدث أن خص الرسول صلى الله عليه وسلم فريقًا دون غيره بشروط، ولم يحدث أن اعترض فريق منهم على شيء، وإنما أدى إقبالهم على الإسلام وصدقهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا جميعًا على مستوى واحد في الحرص على الإيمان، واتباع كل ما يأمرهم به صلى الله عليه وسلم ولذلك وصفهم الله جميعًا وصفًا واحدًا فقال تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1.
ومع الأنصار كان المهاجرون الذين استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا بلدهم، ومالهم، وأرضهم، وأهليهم، وجاءوا إلى المدينة لا يملكون شيئًا، ولا يحوزون أرضًا، أو دارًا.
ومع المسلمين في المدينة كان اليهود بقبائلهم الثلاث بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة.
1 سورة الحشر: 9.
وعلى الجملة:
فإن سكان المدينة بعد الهجرة كانوا مكونين من الفئات التالية:
الفئة الأولى: الأنصار: وهم أهل المدينة الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا في الإسلام، وأساس الأنصار قبيلتا الأوس والخزرج.
الفئة الثانية: المهاجرون: وهم أهل مكة الذين هاجروا بدينهم إلى المدينة ومن لحق بهم من القبائل.
الفئة الثالثة: اليهود وقبائلهم الرئيسية بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة.
ومع هذه الفئات الثلاث وجد أفراد في المدينة تابعون لهذا الفريق أو ذاك، ولهم مذهبهم الخاص واتجاههم المستقل، ومنهم كان المشركون والمنافقون.
ولم تكن العلاقات بين هذه الفئات طيبة؛ لأن اليهود نظروا إلى الإسلام نظرة حقد وحسد، وأملوا في إثارة العرب ضده، وكانوا يكرهون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتمنون القضاء عليه، وعلى دينه.
نظر اليهود إلى الإسلام، ورأوه دعوة صالحة تؤلف بين أشتات القلوب، وتطفئ نار العداوة والبغضاء، وتدعو إلى التزام الأمانة في الشئون كلها، وإلى التقييد بأكل الحلال من طيب الأموال، ولهذا تآمروا عليه.
خاف اليهود من تآلف العرب، والتخلص من سيطرتهم الاقتصادية، الأمر الذي قد يؤدي إلى فشل نشاط اليهود التجاري، وحرمانهم من أموال الربا التي تدير رحى ثروتهم، ويحتمل أن تتيقظ تلك القبائل فتفكر في الأموال الربوية التي أخذها اليهود، فتقوم بإرجاع أرضها وحوائطها التي أضاعتها في تأدية الربا إلى اليهود.
كان اليهود يدخلون كل ذلك في حسابهم منذ عرفوا أن دعوة الإسلام تحاول الاستقرار في يثرب، ولذلك كانوا يبطنون أشد العداوة ضد الإسلام، وضد رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن دخل يثرب، وإن كانوا لم يتجاسروا على إظهارها إلا بعد حين.
يظهر ذلك جليًا بما رواه ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما
إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي، حيي بن أخطب، وعمي، أبو ياسر بن أخطب، مغلسين، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالين، كسلانين، ساقطين، يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما لما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي، حيي بن أخطب: أهو هو؟
قال أبي: نعم والله.
قال عمي: أتعرفه وتثبته؟
قال أبي: نعم.
قال عمي: فما في نفسك منه؟
قال أبي: عداوته والله ما بقيت1.
ويشهد بذلك أيضًا ما رواه البخاري في إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكان حبرًا من فطاحل علماء اليهود، فإنه لما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في بني النجار جاءه مستعجلا، وألقى إليه أسئلة لا يعلمها إلا نبي، ولما سمع ردوده صلى الله عليه وسلم عليها آمن به من ساعته، ومكانه، ثم قال له: إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فجاءت اليهود، ودخل عبد الله بن سلام البيت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي رجل فيكم عبد الله بن سلام"؟.
قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرأيتم إن أسلم عبد الله"؟.
فقالوا: أعاذه الله من ذلك "مرتين أو ثلاثًا".
فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه.
فقال عبد الله بن سلام: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو
1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص519.
إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق.
فقالوا: كذبت1.
وبقي المنافقون وسط الناس يثيرون الفتن، ويحاولون زعزعة ثقة المسلمين في رسولهم ودينهم، ولا يظهرون مكرهم مداراة للمسلمين، وخوفًا من المؤمنين.
8-
شجاعة أبناء المدينة:
تميز العرب في المدينة بقوة البأس والشجاعة والإباء بسبب الحروب التي امتدت بينهم طويلا، وأشهرها حرب داحس والغراء، وحرب بعاث، وقد أدت هذه الحروب إلى تخريج جيل من الرجال، متميز بصلابة الرأي، وقوة الشجاعة، وكأن هذه الحروب مدرسة لتخريج جيل قوي، يتفانى من أجل هدفه الذي آمن به، ويتحمل الكثير لتحقيق ما يؤمن به.
لقد امتدت الحرب بين الأوس والخزرج طويلا، ومع ذلك لم يستسلم أحد منهم للآخر أبدًا، بعدًا عن العار، وحماية للشرف والكرامة، فلما أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم اتحد هدفهم وتحولوا جنودًا مخلصين لله.
وكان العرب في الجزيرة العربية يعرفون شجاعة أهل المدينة، ولذلك كانوا يخطبون ودهم ليتمكنوا من شراء حاجاتهم منها، وليحظوا بقراهم، وليأمنوا على أنفسهم، وتجارتهم عند المرور بهم، وما سجل التاريخ اعتداء أحد على المدينة بسبب شجاعة أبنائها وقوة أهلها.
وقد تأكدت شجاعتهم في الإسلام من خلال مواقفهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي حديث كعب بن مالك ليلة بيعة العقبة الثانية قال صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم".
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا.
1 صحيح البخاري ك المناقب ج6 ص230 ط الأوقاف.
عن كابر1.
كما ظهرت شجاعتهم، وجرأتهم على الحروب يوم بدر، فلقد كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة على نصرته على من يقصده وهو في المدينة، فلما سار بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين في بدر، وخرج من المدينة أراد أن يعرف مدى حرصهم على الاشتراك في المعركة بعيدًا عن المدينة فوجد عند بدر منهم ما أسعده، وسره.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إليّ مما عدل به، أتى المقداد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: يا رسول الله لا نقول كما قال قوم موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} 2 ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، ومن خلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره، يعني قوله3.
وعن علقمة بن وقاص الليثي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كنا بالروحاء خطب الناس فقال: "كيف ترون"؟.
فقال أبو بكر: يا رسول الله بلغنا أنهم كذا وكذا.
ثم خطب صلى الله عليه وسلم الناس فقال: "كيف ترون"؟.
فقال عمر مثل قول أبي بكر.
ثم خطب صلى الله عليه وسلم الناس فقال: "كيف ترون"؟.
فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله إيانا تريد؟ فوالذي أكرمك، وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط، ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر، وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي
1 أخرجه أحمد. الفتح الرباني 20/ 271-275 قال في بلوغ الأماني: رجاله ثقات.
2 سورة المائدة: 24.
3 صحيح البخاري كتاب المناقب باب قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} ج6 ص238.
أحدث الله إليك فامض له، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت1.
ومن المعلوم أن القتال يوم بدر كان قاسيًا على المسلمين، وكان شديدًا وهذا يجعل لمقالة المقداد قوة في دلالتها على شجاعة أهل المدينة، وقوة بأسهم، يقول الله تعالى:{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} 2.
والآيات تصوير صريح لما كان يتمناه المسلمون، فهم يكرهون القتال ويتصورونه سعيًا إلى الموت، ومسارًا إليه.
كانوا يتمنون الغنيمة بلا قتال، وشاء الله غير ذلك ليقطع دابر الكافرين، ويعلي شأن الإسلام في الجزيرة العربية كلها، وليحقق بالمسلمين انتصارًا لدين الله تعالى يقول الحافظ في الفتح: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غنيمة مع أبي سفيان، فأحدث الله إليه القتال.
إذا علم هذا الحال فإن موقف الأنصار من القتال دليل واضح على شجاعتهم لأنهم وجدوا أنفسهم أمام مسئولية القتال بلا استعداد مسبق فلم يترددوا أو يخافوا.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين فأشار عليه أبو بكر وعمر، ثم قال عمر: يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك3.
1 أخرجه من أبي شيبة مرسلا. ذكره في الدرر 3/ 163 وعزاه له، وذكره في الفتح 7/ 287 مختصرًا وحكم بإرساله.
2 سورة الأنفال: 5-7.
3 أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان. كذا في الدرر 2/ 271.
وفي غزوة الأحزاب تجلت شجاعة القوم، وظهر حرصهم على الأفضل، واستعدادهم للتضحية، وأكدوا أنهم ليسوا ممن يفرطون في وطنهم، وأن هذا كان شأنهم قديمًا فعندما اجتمع المشركون، وأحاطوا بالمسلمين من كل ناحية، وآزرهم اليهود والمنافقون، استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين "سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة" في أن يعطي غطفان ثلث ثمار المدينة على أن ترجع فرفض السعدان ذلك، وأصرا على الحرب وبينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنهم قبل الإسلام، وأنهم ما ازدادوا بالإسلام إلا عزا.
عن الزهري قال: لما اشتد على الناس البلاء يوم الأحزاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح.
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرًا تحبه فنصنعه أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما".
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله، ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم بيننا وبينهم!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت وذاك". فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا1.
1 أخرجه ابن إسحاق ونقله عنه ابن كثير 3/ 201 وهو عند عبد الرزاق في المصنف راجع الجزء الذي طبع من المصنف تحت عنوان "المغازي النبوية" لابن شهاب الزهري ص79 وأخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 73.
وواضح من هذه النصوص ما كان يتمتع به الأنصار من شجاعة وجرأة ومعرفة بفنون الحروب والقتال.
9-
تآلف أبناء المدينة:
عاش أهل المدينة مدة طويلة في حرب وصراع بين قبيلتي الأوس والخزرج وكان يهود بني قينقاع ينحازون للخزرج، ويهود بني قريظة ينحازون للأوس، الأمر الذي ساعد على اشتعال الحرب واستمرارها.
ومن أشهر هذه الحروب يوم "بعاث" وبعاث مكان حصن في مزرعة عند بني قريظة على ميلين من المدينة، وكان رئيس الأوس حضير والد أسيد بن حضير، ورئيس الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، وفي أول هذه الحرب كان النصر للخزرج وفي النهاية كان النصر للأوس، وفي هذه المعركة قتل رئيسا الفريقين.
ومن حرب بعاث هذه استفاد الإسلام فإن أكابر الأوس والخزرج قتلوا فيها وبذلك قضى الله على المعارضة التي تتمسك بمواريث الآباء، يبدو هذا جليًا من موقف أحد هؤلاء الأكبار وقد بقى حيًا وهو عبد الله بن أبي فإنه وقف في وجه الدعوة، وكاد لها.
ومن آثار هذه الموقعة أيضًا أن الأوس والخزرج أدركوا مدى الدمار الذي يلحقهم من الحروب، وتمنوا أمرًا يوحدهم ويجمعهم، فلما جاء الإسلام أسرعوا إليه يقول الله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1.
عن عكرمة رضي الله عنه قال: قابل النبي صلى الله عليه وسلم نفرًا من الأنصار فآمنوا به وصدقوا، وأراد أن يذهب معهم فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبين قومنا حربًا، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد، فواعدوه العام المقبل فقالوا: نذهب
1 سورة آل عمران: 103.
برسول الله صلى الله عليه وسلم فلعل الله أن يصلح به تلك الحرب، وكانوا يرون أنها لا تصلح فلقوه من العام المقبل سبعين رجلا، قد آمنوا به، فأخذ منهم النقباء اثني عشر رجلا فذلك حين يقول الله تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} .
وعن ابن إسحاق قال: كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة حتى قام الإسلام فأطفأ الله ذلك وألف بينهم1.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار بم تمنون عليّ! ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟ ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله؟ ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله؟ ألم تكونوا أعداء فألف الله بين قلوبكم"؟. قالوا: بلى يا رسول الله2.
ولسوف تدرك طبيعة القوم، وأثر يوم بعاث فيهم بما رواه البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار.
وقال المهاجري: يا للمهاجرين.
فلما سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما هذا؟ ما بال دعوى الجاهلية؟ ".
فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة"3.
تقول عائشة رضي الله عنها: كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد افترق ملؤهم، وقتلت سراتهم وجرحوا فقدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام4.
قال الحافظ ابن حجر: فقتل في حرب بعاث من أكابرهم من كان يتكبر
1 سيرة النبي ج1 ص428.
2 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج22 ص175.
3 صحيح البخاري كتاب التفسير باب سورة المنافقين ج8 ص51.
4 صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص225.
ويأنف أن يدخل في الإسلام حتى لا يكون تحت حكم غيره، وقد بقي من هذا النحو عبد الله بن أبي بن سلول1، وقد تولى الله تعالى إذابة شحناء أهل المدينة، وألف بين قلوبهم، وجمعهم على المودة، والرحمة، والحب، والتعاون يقول الله تعالى:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 2.
وبهذا صار أهل المدينة في ألفة، وتماسك، وهم كذلك إلى اليوم.
بكل هذه الحقائق عن المدينة وأهلها جعلها الله تعالى موئل الإسلام، ومستقره، وأمر المسلمين بالهجرة إليها، وتأسيس دولة الإسلام الأولى فيها، والله أعلم حيث يجعل رسالته، والله على كل شيء قدير.
10-
حب أهل المدينة للإسلام:
تميز أهل المدينة بطبيعة مغايرة لأهل مكة بسبب اشتغالهم بزراعة الأرض وفلاحة البساتين، التي جعلتهم يعيشون بين عوامل طبيعية عديدة لا يدركون شيئًا عن حركتها وبين عمل وسعي لا يعرفون شيئًا عن نتائجه!!
إن تقلب الجو، واضطراب الطبيعة، ونزول المطر، وتغير المناخ كل ذلك له تأثير مباشر في فكرهم ومعاشهم وحياتهم؛ لأنهم يتأكدون من وجوده، ويعرفون أهميته ومع ذلك لا يدركون مصدره، ولا يعرفون سببه، ولا يحددون بدايته أو نهايته إنه غيب بالنسبة لهم.
كما أن نتاج الزرع، ومحاصيل الضرع وتغير المناخ أمور تتحرك بين يدي قدرة خافية لا يعلمون عنها شيئًا كذلك. الأمر الذي جعل حكماءهم يتساءلون عن فاعل كل هذا؟ ومدبره؟ والمتصرف فيه؟
لقد أدت إقامة اليهود بـ: "يثرب" إلى تذكير أهلها بدين الله تعالى القائم على التوحيد، فلقد كان اليهود أهل كتاب، يؤمنون بالله الواحد، ويدينون بدين
1 فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج7 ص111.
2 سورة الأنفال الآية 62.
موسى عليه السلام، وهذا أبقى في عقول أهل المدينة فكرة التوحيد، مما جعلهم ينظرون إلى الأصنام نظرة باهتة، فلم يحدث أن أقام أهل المدينة لها بيتًا، أو قدموها في الحرب أو هتفوا بها في مناسباتهم، وأعيادهم، وهذا الأمر ساعدهم على تقبل دعوة التوحيد حين جاءتهم، والدخول في دين الله تعالى حين علموا به.
كما أن فكرة بعثة نبي بدين الله تعالى صار حقيقة متوقعة بعدما نطق بها اليهود وخوفوا بها العرب، الأمر الذي دفع الأوس والخزرج إلى تقبل فكرة النبوة، والتحرك إلى رسول الله، والإسراع في اعتناق الإسلام.
جاء في سيرة ابن هشام ما رواه عاصم بن عمر بن قتادة قال: لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطًا من الخزرج أول مرة قال لهم: "من أنتم"؟.
قالوا: نفر من الخزرج.
قال: "أمن موالي يهود"؟.
قالوا: نعم.
قال: "أفلا تجلسون أكلمكم"؟.
قالوا: بلى.
فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهودًا كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًا مبعوثًا، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه النبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله فلا رجل أعز منك
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا1.
إن الوثنية التي عاشها الأوس والخزرج كانت هزيلة، بحيث لم تتمكن من تحمل ضغوط الإيمان، ولم يتحمس أحد من أهل المدينة ليصنع للأصنام هالة، أو ينشئ لها مكانًا مقدسًا، ولم تجد الأصنام فريقًا يعمل لحمايتها، والدفاع عنها، كما هو الحال في مكة، فلما جاءهم الإسلام أسرعوا إليه، وتخلصوا من الأصنام تخلصًا كليًا، وارتبطت نفوسهم بالله حتى كأنهم ولدوا في الإسلام، وعايشوه من زمن طويل، وما كان اتخاذهم للأصنام، وتوجههم نحوها إلا رمزًا يتشبهون به بغيرهم، لتكون لهم آلهة، كما كان لغيرهم، ولعل هذا الصمت التاريخي عن مصير آلهة الأوس والخزرج بعد الهجرة يفسر مدى هوان هذه الأصنام عند أهل يثرب، وعدم الارتباط بها، وسرعة وشمولية التخلص منها بعد دخولهم في دين الله تعالى.
إن الإسلام جاء إلى المدينة، بعد لقاء العقبة الأول، وحملة مصعب بن عمير رضي الله عنه أول داعية أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى، وقد قام مصعب بمهمته خير قيام، فانتشر الإسلام في كل بيوت المدينة، خلال مدة لم تدم أكثر من عام واحد، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها قرآن يتلى، وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف2.
إن سرعة انتشار الإسلام في المدينة وإن كان بسبب ما فيه من الوضوح والسماحة والعدل والانسجام مع تكوين الإنسان ونشاطه وأهدافه، وبسبب همة مصعب بن عمير رضي الله عنه في الدعوة بصدق وإخلاص، حيث أخذ يحرك الأفئدة بالقرآن ويلين العواطف بتلاوته البهية، ويقنع العقول بالحق، ويرضيها وهو يعرض عليها آيات الله في الأنفس والآفاق، مع كل هذا فإن من أكبر العوامل التي ساعدت على هذا الإيمان السريع ووضعية أهل المدينة بالنسبة للأصنام، فلم يحدث أن عارضوا مصعبًا، أو دافعوا عن أصنامهم، أو جادلوا حول ألوهيتها، وإنما آمنوا بالله مسرعين لشعورهم بما في ألوهية الأصنام من ريب وشك.
1 سيرة النبي ج1 ص428.
2 سيرة بن هشام ج1 ص437.
لقد كان أغلب الأوس والخزرج يعبدون "مناة" ويصنعون على مثاله أصنامًا من خشب يضعونها في دورهم، إلا أنهم كانوا يدركون هوانها، وعجزها.
يدل على ذلك ما روي أن عمرو بن الجموح كان قد اتخذ لنفسه صنمًا من خشب يشبه "مناة" فلما أسلم فتيان من الأوس كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة، وفيها فضلات الناس منكسًا على رأسه فلما أصبح عمرو ذهب ليتمسح بالصنم فلم يجده في المكان الذي تركه فيه، فأخذ يسأل، ويقول: ويلكم! من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟
وأخذ يلتمسه في كافة نواحي المدينة حتى إذا وجده غسله، وطهره، وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه!
فإذا أمسى وقام عمرو عدوا عليه مرة أخرى، وفعلوا به مثل ما فعلوا، فيغدو عمرو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله، ويطهره، ويطيبه.
ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يومًا فغسله، وطهره، وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال: إني والله لا أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك.
فلما أمسى، ونام عمرو عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أحضروا كلبًا وربطوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس، فلما جاء عمرو في الغداة لم يجده في مكانه الذي كان فيه.
فخرج يتبعه، وابنه معاذ يحاول أن يهون له من شأن إلهه، وأن يحببه إلى الإسلام فكان يعرض عن ابنه مغضبًا، وغدا ينقلب عن إلهه، والمسلمون يزينون في قلبه دين الله فيثور في وجوههم، وإن كان كلامهم ينزل بسويداء فؤاده.
واستمر عمرو بن الجموح في بحثه عن صنمه حتى وجده في تلك البئر منكسًا مقرونًا بكلب ميت، فلما رآه وأبصر شأنه قال:
والله لو كنت إلهًا لم تكن
…
أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملقاك إلهًا مستدن
…
الآن فتشناك عن سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن
…
الواهب الرزاق ديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن
…
أكون في ظلمة قبر مرتهن
بأحمد المهدي النبي المرتهن1
لقد دخل أهل المدينة في الإسلام صادقين، وكانوا خير عون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في نشر الإسلام، واشتركوا معه في غزواته وجهاده.
وقد هيأ الله أنفسهم لتقبل الإسلام بما كانوا يسمعونه من اليهود، فلقد كان اليهود يقولون للأوس والخزرج: لقد أظلنا زمان نبي يدعو لدين الله تعالى وسنسبقكم إليه لننتصر به عليكم ونقتلكم قتل عاد وإرم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقهم الأنصار ودخلوا في دين الله تعالى.
لقد كانت مقالة اليهود تلك بمثابة التنبيه للأوس والخزرج، أدت بهم إلى التفكير في هذا الدين الجديد، وهذه المقالة دعوة حسنة، قدرها الله للمدنيين جعلتهم يفكرون، وينظرون، ويؤمنون.
قد يتصور البعض أن مقالة اليهود للأوس والخزرج هي دافعهم الوحيد إلى الإسلام وهي التي جعلتهم يسلمون من غير تفكير ليكون السبق لهم!!
وهذا تصور غير صحيح حيث نلاحظ أن إسلام الأوس والخزرج تم بعد ثلاثة لقاءات في العقبة كثر فيه الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم، ولو كانت غايتهم السبق المجرد لآمنوا واتفقوا، وبايعوا في اللقاء الأول.
وأيضًا: يعلم عرب المدينة "الأوس والخزرج" جيدًا أن اليهود لن يتركوا دينهم أبدًا لما اعتقدوه فيه؛ لأنهم يرون أن رسالتهم آخر الرسالات، ونبيهم أعظم الأنبياء، وأنهم شعب الله المختار، ولا يعقل أن يتبعوا واحدًا من العرب وقد ثبتت هذه الحقيقة يوم أن قبل اليهود الموت بعد غزوة الأحزاب، وفضلوه على الإسلام، وكان يكفيهم يومئذ أن يعلنوا إسلامهم، ويفوزوا بعفو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يتصور البعض أن قبول عرب المدينة "الأوس والخزرج" للإسلام كان
1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص452، 453 والقرن: الحبل، والمستدن: الذليل، والغبن السفه.
للحصول على مصلحة دنيوية عاجلة، وهي البحث عن الاستقرار، والأمن، وتحقيق الصلح فيما بينهم، ووضع نهاية للحرب التي دامت طويلا.
لا نتصور ذلك لأن البيعة كانت على الجهاد والحرب، وهذا يعني بداية النزاع مع الوثنين في الجزيرة العربية كلها، وعلى رأسهم قريش، وبذلك اتسع الصراع وتشعب وبعدما كان بين الأوس والخزرج صار بين أهل المدينة وبين مشركي الجزيرة كلها، وعلى رأسهم القرشيون، والأعراب، وأهل البوادي بعدما كان منحصرًا بين الأوس والخزرج.
وأيضًا فإن أهل المدينة بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فريقًا واحدًا، بصوت واحد، وعلى بنود واحدة، بلا أدنى تنافس بينهم.
ولم يتحدث التاريخ أن قبيلة الأوس وهي القليلة العدد، الضعيفة القوة كانت هي الأسرع إلى الإسلام لضعفها.
ولم يتحدث التاريخ أن قبيلة الخزرج
…
وهي الكثيرة العدد كانت هي الأبطأ في اعتناق الإسلام لقوتها.
لم يتحدث التاريخ عن هذا ولا ذاك، وإنما كان الخزرج هم الأسرع إلى الإسلام قبل الأوس، مما يدل على أن إسلام أهل المدينة كان يقينًا صادقًا مع الله تعالى قائمًا على الرضى والاقتناع.
ولم يكن هدف أهل المدينة تثبيت سلطانهم، والمحافظة على رئاستهم
…
لأن الذي حدث بعد الهجرة يشير إلى غير ذلك؛ لأن أهل المدينة أسلموا أمرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتصرفون في المدينة لأنهم أصحاب الحق في إدارة المدينة، وأصحاب الكلمة العليا بها، وكثيرًا ما كانت الإدارة والقيادة للمهاجرين بلا اعتراض من الأنصار.
إن إيمان أهل المدينة "الأوس والخزرج" كان بعد اقتناعهم بالإسلام، وتقبلهم لمبادئه، وإيمانًا منهم بأنه هو الطريق الصحيح لتحقيق سعادة الدنيا والآخرة، ونشر الخير بين الناس بمنهج الله تعالى.