الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: الحكم العامة في تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
ينطوي زواج النبي صلى الله عليه وسلم على حكم بليغة تعم زوجاته جميعًا، وتظهر مع كل واحدة منهن على حدة، مما يجعل ذلك التعدد ضرورة لا بد منها من عدة زوايا.
أولا: محمد رسول الله، وخاتم الرسل، والرسالة بصورة عامة اختيار إلهي محض، يختص بها الله بعض عباده، ويحيطهم بعنايته، ويصنعهم لنفسه، وذلك أمر يؤكد أن زواجه، وسائر حياته وحي من الله تعالى، وحينئذ يكون التسليم بتعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم مسألة إيمانية محضة.
لقد أحل الله لرسوله أن يتزوج بما يشاء، وأن يملك بيمينه ما يشاء، وعلى الإنسان العاقل أن يسلم بفعل رسول الله في الزواج، لأنه قدر رباني، وأمر إلهي، ولن يضيع الله رسوله أبدًا، ولن يأمره بسوء أبدًا.
1 سورة الأحزاب الآية 50-51.
ففي الآيات يحل الله للنبي أنواع النساء المذكورات فيها، ولو كن فوق الأربع، مما هو محرم على غيره، وهذه الأنواع هي: الأزواج اللواتي أمهرهن، وما ملكت يمينه إطلاقًا من الفيء، وبنات أعمامه، وبنات عماته، وبنات خاله، وبنات خالاته، ممن هاجرن معه، دون غيرهن ممن لم يهاجرن إكرامًا للمهاجرات، وأيما امرأة وهبت نفسها للنبي بلا مهر، ولا ولي، إن أراد النبي نكاحها نكحها.
وقد جعل الله هذه الخصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم، أما سائر المسلمين فهم خاضعون لما بينه الله، وفرضه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم، ذلك كي لا يكون على النبي حرج في استبقاء أزواجه، وفي الاستجابة للظروف الخاصة بشخصه.
ثم ترك الخيار له صلى الله عليه وسلم في أن يضم إلى عصمته من شاء، ممن يعرضن أنفسهن عليه، أو يؤجل ذلك، ومن أرجأهن فله أن يعود إليهن حين يشاء، وله أن يباشر من نسائه من يريد، ويرجئ من يريد، ثم يعود يقول الله تعالى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} 1 فأوامر الله وتوجيهاته تراعي الظروف الخاصة المحيطة بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، والرغبات الموجهة إليه، والحرص على شرف الاتصال به، مما يعلمه الله ويدبره بعلمه وحلمه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} .
وعند وصول عمره صلى الله عليه وسلم إلى الستين منعه ربه من الزواج، حيث نزل عليه قول الله تعالى:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} 2.
والآية تحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة أن يتزوج أحدًا غير نسائه اللواتي في
1 سورة الأحزاب: 51.
2 سورة الأحزاب: 52.
عصمته، لا من ناحية العدد، ولكن هن بذواتهن لا يستبدل بهن غيرهن، ولم يعرف أن رسول الله قد زاد عليهن بعد هذا التحريم الذي تضمنته الآية.
إذن أمر زواج النبي صلى الله عليه وسلم توجيه إلهي محض، وكان هذا كاف في الموضوع لأصحاب العقول السليمة لولا فلتات الهوى، وأمراض النفس، واعتراض قلوب وعقول لا تعطي الرسالة حقها، ولا تقدر للرسول ما يجب أن يكون له.
ثانيًا: يريد الله تعالى في تجمع هذا العدد من الزوجات المتنوع أصلا، وسنًا، وحضارة، أن يتعلم الناس وبخاصة النساء أن الإسلام يصنع وحدة خالصة من المؤمنين، لا تتأثر بالعوامل المادية، أو العنصرية أو الثقافية، فزوجات النبي صلى الله عليه وسلم منهن العربية، والقرشية، واليهودية، والنصرانية، والمصرية، ومنهم من كان أبوها مهاجرًا، ومن كان أبوها كافرًا، ومنهن الجميلة، ومنهم الغنية، والفقيرة.
أراد الله تعالى أن يحيط هذا الجمع بتوجيهات نبيه صلى الله عليه وسلم لتظهر من بينهن الأسوة والقدوة لسائر المؤمنات وبخاصة من ينلن الحظوة الدنيوية في بيت الخلافة والزعامة والرئاسة
…
وحتى تتصور مسلمة ما أن علو المكانة يؤدي بها إلى الترفع والاستعلاء على الناس.
لهذا التجمع في بيت النبوة جاءت الأوامر الإلهية.
فلقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بيته جميعًا عيشة الكفاف والتقشف، يمر الشهر والشهران لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، استعلاء على متاع الدنيا، ورغبة خالصة فيما عند الله لكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن من البشر، ورغبن في المتعة الدنيوية، كما يتمتع البشر،
1 سورة الأحزاب الآيتين 28، 29.
وبخاصة أن الله أفاء على رسوله بالسعة، والرخاء، وقد تمتع بها سائر الناس، فراجعن الرسول في شأن النفقة، فحزن الرسول لذلك، وتألم كثيرًا واحتجب عن أصحابه، ولم يؤذن لهم بالدخول لإعلان أسفه وغضبه.
يروي البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، فاستأذن فلم يؤذن له.
ثم أذن بعد ذلك لأبي بكر، وعمر رضي الله عنه فدخلا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله نساؤه، وهو صلى الله عليه وسلم ساكت.
فقال عمر رضي الله عنه لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد -امرأة عمر- سألتني النفقة آنفًا فوجأت عنقها! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "هن حولي يسألنني النفقة".
فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة ليضربها.
وقام عمر إلى حفصة كذلك.
كلاهما يقولان: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟
فنهاهما الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده.
وأنزل الله عز وجل آيتي الخيار المذكورتين، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، فقال: $"إني أذكر لك أمرًا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك".
قالت: وما هو؟
قال: فتلا عليها الآيات.
قالت عائشة رضي الله عنها: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله، أسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى لم يبعثني معنفًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها"1.
1 صحيح البخاري. ك التفسير. باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} ج7 ص375، 376.
وفي رواية البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إني ذاكر لك أمرًا، فلا عليك أن تسعجلي حتى تستأمري أبويك"، وقد علم أن أبوي، لم يكونا يأمراني بفراقه ثم تلا عليّ الآيات.
فقلت له: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة1.
لقد جاء القرآن الكريم ليحدد القيم الأساسية في تصور الإسلام للحياة. هذه القيم التي ينبغي أن تجد ترجمتها الحية في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحياته الخاصة، وأن تتحقق في أدق صوره، وأوضحها في هذا البيت الذي كان وسيبقى منارة للمسلمين حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ونزلت آيتا التخيير تحددان الطريق، فإما الحياة الدنيا وزينتها، وإما الله ورسوله والدار الآخرة، فالقلب الواحد لا يسع تصورين للحياة، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
ونحب أن نقف أمام هذا الحادث نتدبر بعض العبر2:
1-
إنه يحدد التصور الإسلامي الواضح للقيم، ويرسم الطريق الشعوري للإحساس بالدنيا والآخرة، ويحسم في القلب المسلم كل أرجحة، وكل لجلجة، بين قيم الدنيا وقيم الآخرة، بين الاتجاه إلى الأرض والاتجاه إلى السماء، ويخلص هذا القلب من كل وشيجة غريبة تحول بينه وبين التجرد لله؛ لأن الخلوص يجب أن يكون له سبحانه وتعالى وحده دوه سواه.
2-
يصور لنا هذا الحادث حقيقة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين عاشوا معه واتصلوا به، وأجمل ما في هذه الحقيقة أن تلك الحياة كانت حياة إنسان، وحياة ناس من البشر، لم يتجردوا من بشريتهم ومشاعرهم، وسماتهم الإنسانية مع كل تلك العظمة الفريدة البالغة التي ارتفعوا إليها، ومع هذا الخلوص لله والتجرد مما عداه، فالمشاعر
1 صحيح البخاري ك النكاح ج7 ص376 ط الأوقاف.
2 انظر في ظلال القرآن ج5 ص2855 بتصرف يسير.
الإنسانية، والعواطف البشرية، لم تمت في تلك النفوس، ولكنها ارتفعت وصفت من الأوشاب، ثم بقيت لها طبيعتها البشرية الحلوة، ولم تعوق هذه النفوس عن الارتفاع إلى أقصى درجات الكمال المقدر للإنسان.
وكثيرًا ما نخطئ نحن حين نتصور للنبي صلى الله عليه وسلم، ولصحابته رضوان الله عليهم صورة نجردهم فيها من كل المشاعر، والعواطف البشرية حاسبين أننا نرفعهم بهذا، وننزههم عما نعده نحن نقصًا وضعفًا.
وهذا الخطأ يقطع الصلة البشرية بيننا وبينهم، وتبقى شخوصهم في حسنا في رقي عال بين تلك الهالات، أقرب إلى الأطياف التي لا تلمس، ولا تتماسك في الأيدي! ونشعر بهم كما لو كانوا خلقًا آخر غيرنا ملائكة، أو خلقًا مثلهم، مجردين من مشاعر البشر، وعواطفهم على كل حال.
ومع شفافية هذه الصورة الخيالية فإنها تبعدهم عن محيطنا، فلا نعود نتأسى بهم أو نتأثر، يأسًا من إمكان التشبه بهم، أو الاقتداء العلمي بهم في الحياة؛ لأن صورتهم تختلف في أذهاننا عن الواقع الموجود.
ونفقد بذلك التجاوب الحي بيننا وبين هذه الشخصيات العظيمة لأن التجاوب إنما يقع نتيجة لشعورنا بأنهم بشر حقيقيون عاشوا بعواطف ومشاعر وانفعالات حقيقية من نوع المشاعر والعواطف والانفعالات التي نعانيها نحن، ولكنهم ارتقوا بها، وطهروها من الشوائب التي تخالج مشاعرنا.
3-
اختار الله تعالى رسله من البشر لا من الملائكة، ولا من أي خلق آخر غير البشر، كي تبقى الصلة الحقيقية بين حياة الرسل وحياة أتباعهم قائمة، وكي يحس أتباعهم أن قلوبهم كانت تعمرها عواطف ومشاعر من جنس مشاعر البشر وعواطفهم وإن صفت، ورقت، وارتفعت، يحبونهم حب الإنسان للإنسان، ويطمعون في تقليدهم تقليد الإنسان الصغير للإنسان الكبير، ويتعلمون منهم تعلم التلميذ من أستاذه، وبذلك يكونون أتباعًا مخلصين.
4-
وفي هذه الحادثة نقف أمام الرغبة الطبيعية في نفوس نساء النبي صلى الله عليه وسلم في
المتاع، كما نقف أمام صورة الحياة البيتية للنبي صلى الله عليه وسلم ونسائه رضي الله عنهن، وهن أزواج يراجعن زوجهن في أمر النفقة! فيؤذيه هذا، ولكنه لا يقبل من أبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه أن يضربا عائشة، وحفصة على هذه المراجعة، فالمسألة مسألة مشاعر وميول بشرية تصفى وترفع، ولكنها لا تخمد ولا تكبت!
ويظل الأمر كذلك حتى يأتيه أمر الله بتخيير نسائه، فيخترن الله ورسوله والدار الآخرة، اختيارًا لا إكراه فيه، ولا كبت، ولا ضغط، فيفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الوضيء.
5-
ونقف كذلك أمام تلك العاطفة البشرية الحلوة، في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحب عائشة حبًا ظاهرًا، ويحب لها أن ترتفع إلى مستوى القيم التي يريدها الله له، ولها، ولأهل بيته، فيبدأ بها في التخيير، ويريد أن يساعدها على الارتفاع والتجرد، فيطلب إليها ألا تعجل في الأمر حتى تستشير أبويها، وقد علم أنهما لم يكونا يأمرانها بفراقه كما قالت.
وهذه العاطفة الحلوة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم لا تخطئ عائشة رضي الله عنها في إدراكها، فتسر بها وتحفل بتسجيلها في حديثها، ومن خلال هذا الحديث يبدو النبي صلى الله عليه وسلم إنسانًا يحب زوجه الصغير، ويحب لها أن ترتفع إلى أفقه الذي يعيش فيه، وتبقى معه على هذا الأفق، تشاركه الشعور بالقيم الأصيلة في حسه، والتي يريها ربه له، ولأهل بيته.
كذلك تبدو عائشة رضي الله عنها إنسانة، يسرها أن تكون مكينة في قلب زوجها، فتسجل بفرح حرصه عليها، وحبه لها، ورغبته في أن تستعين بأبويها على اختيار الأفق الأعلى، فتبقى معه على هذا الأفق الوضيء، ثم نلمح مشاعرها الأنثوية كذلك، وهي تطلب إليه ألا يخبر أزواجه الأخريات أنها اختارته حين يخيرهن!
وما في هذا المطلب من رغبة في أن يظهر تفردها في هذا الاختيار، وميزتها على بقية نسائه، أو على بعضهن في هذا المقام!
وهنا نلمح عظمة النبوة من جانب آخر في رد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لها:
"إن الله تعالى لم يبعثني معنفًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا، لا تسألني واحدة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتها".
فهو لا يود أن يحجب عن إحدى نسائه ما قد يعينها على الخير، ولا يمتحنها امتحان التعمية والتعسير، بل يقدم العون لكل من تريد العون، كي ترتفع على نفسها وتتخلص من جواذب الأرض، ومغريات المتاع.
ومن هذه الأوامر نزل الله تعالى في سورة الأحزاب: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} 1.
وهذه الآيات تحمل نساء النبي صلى الله عليه وسلم مسئولية الريادة، والقيادة، وهي مسئولية ضخمة، عليهن العمل لها، والقيام بلوازمها، فإن أخطأت خطأ ضوعفت العقوبة، وإن استقامت، وأطاعت، يضاعف لها الأجر كذلك، وعليهن أن يطعن الله ورسوله فيما يوجه إليهن، وإلى المسلمات من تشريع.
ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال، أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين، الذي يثير شهوات الرجال، ويحرك غرائزهم، ويغري مرضى القلوب، ويهيج رغائبهم.
ونهاهن من قبل عن النبرة اللينة، واللهجة الخاضعة، وأمرهن مع هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة، غير منكرة، فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث، فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن، ولا إيماء، ولا هذر، ولا هزل، ولا دعابة، ولا مزاح، حتى لا يكون مدخلا إلى شيء آخر وراءه من قريب، أو من بعيد.
وأمرهن الله أيضًا بالمكث في البيت لا يخرجن إلا لضرورة.
كما نهاهن عن تبرج الجاهلية إذا خرجن.
1 سورة الأحزاب: 31، 32.
وأمرهن بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله ليعشن في طهارة دائمة، وعفة نقية تتلاءم مع بيت النبوة يقول الله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1.
إن بيت النبوة هو موطن نزول الوحي، وعلى أمهات المؤمنين أن يعرفن ذلك، ويتأهلن له، وليذكرن ما ينزل الوحي به في بيوتهن من قرآن، أو من سنة، ليأخذ من يأتي بعدهم منهن.
ثالثًا: لقد جاء الإسلام بنظم كاملة تحتاج إليها النسوة في حياتهن العامة، والخاصة، ولا بد لهذه النظم أن تعرف، وتهضم، لتنتقل إلى الأجيال القادمة واضحة بينة، ولقد قامت أمهات المؤمنين بتبليغ الإسلام بصورة حسنة، وبخاصة لأخواتهن المؤمنات، وإذا تأملنا في مرويات أمهات المؤمنين، والفتاوى التي نقلنها إلى غيرهن، لعلمنا ضرورة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لتيمكن من تحمل هذه المسئولية التي كلفوا بها في قوله تعالى:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} 2.
لقد كان الصحابة، والتابعون يقصدون أمهات المؤمنين لأخذ حديث، أو تصحيح آية، أو معرفة حكم شرعي عرفنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان البعض يقصد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لمعرفتهن أحواله صلى الله عليه وسلم وعبادته، ومعيشته كهؤلاء النفر الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها.
فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال أحدهم: أما أنا فإنني أصلي الليل أبدًا.
1 سورة الأحزاب: 33.
2 سورة الأحزاب: 34.
وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.
وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء تلك سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني"1.
يروي الترمذي بسنده قول أبي موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا2.
رابعًا: كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم المتعدد حلا لا بد منه في بعض الحالات.
فأم سلمة المخزومية: بنت سيد بن مخزوم، المهاجرة إلى الحبشة، وإلى المدينة، وقد استشهد زوجها، وليس لها أحد، بعدما أصرت على ترك قومها، وهاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت شديدة التقدير، والتعلق بزوجها أبي سلمة فلما مات خطبها أبو بكر، وطلبها عمر فرفضت لأنها لم تجدهما خيرًا من أبي سلمة.
فهل تبقي وحدها أرملة؟ وهي التي تحملت من أجل الإسلام ما تحملت.
إنه ليس هناك حل أبر، وأكرم من ضم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها إلى نسائه، وقد رضيت به عوضًا.
ورملة بنت أبي سفيان: زعيم قريش أسلمت، وهجرت أباها وقومها، وهاجرت إلى الحبشة، مع زوجها، ثم تنصر زوجها، وارتد عن الإسلام، ومات كافرًا، وثبتت هي على إسلامها، وظلت مقيمة في الحبشة.
أهذه تترك؟ ولمن؟
هل تترك لتعود لقومها مع كفرهم؟
أتترك للعزلة والشماتة؟
1 صحيح البخاري كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح ج8 ص125 ط الأوقاف.
2 سنن الترمذي بشرح تحفة الأحوذي ج10 ص258 والحديث حسن غريب.
أليست مكافأتها في مكانتها أن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وتعيش مكرمة عزيزة أما من أمهات المؤمنين؟!
وكم سيكون لهذا أثره في نفس أبيها!! الذي لم يسلم بعد.
وزينب بنت جحش التي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من متبناه ومولاه زيد، ولم تستقم حياتهما فافترقا، وأراد الله أن يهدم قاعدة التبني عند العرب، التي لا تقوم على أساس معقول، فهدمها بشكل جذري، يوم أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج زينب مطلقة متبناه زيد.
وجويرية بنت الحارث: بنت سيد قومها، وقومها من أعز بيوت العرب شرفًا، ومنزلة، وقد أسر رجالهم، وسبي نساؤهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرجوا عنهم، وأعتقوا كل من له علاقة بها.
وصفية بنت حيي: كان أبوها ملك اليهود تقريبًا، وزوجها كذلك من خير ساداتهم، وقد هلك أبوها وأخوها وزوجها، وكان من سنته صلى الله عليه وسلم الرحمة بعزيز قوم ذل، فضمها إلى نسائه رحمة بها، بدل أن تكون لرجل عادي من الصحابة، لا يتكافأ معها منزلة، ونسبًا، فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجها، واستل ما بفؤادها من حقد كان يمكن أن يعذبها مدى الحياة.
خامسًا: على المسلمين جميعًا أن يتعلموا من معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجاته حسن العشرة، ولين المعاملة، والمحافظة على دين الله تعالى في السر والعلن، وأن يلتمسوا صورة التعامل مع زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون منهجًا متبعًا على طول الزمن، ومع امتداد العمران، واختلاف الثقافات والحضارات.