الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال عمرو: فقلت لصاحبي: النجاء، فخرجنا نشتد حتى صعدنا في جبل، وخرجوا في طلبنا حتى إذا علونا الجبل يئسوا منا، فرجعنا فدخلنا كهفًا في الجبل فبتنا فيه وقد أخذنا حجارة فرضمناها دوننا، فلما أصبحنا غدا عبيد الله بن مالك بن عبيد الله التيمي يقود فرسًا له فغشينا ونحن في الغار وكان معي خنجر قد أعددته فخرجت إليه وضربته ضربة فصاح صيحة فأسمع أهل مكة وجاءه الناس يشتدون وهو بآخر رمق فقالوا: من ضربك؟
فقال: عمرو بن أمية وغلبه الموت فمات مكانه ولم يدلل على مكاننا، فاحتملوه فقلت لصاحبي لما أمسينا: النجاء، فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة فمررنا بالحرس وهم يحرسون جيفة خبيب بن عدي، فقال أحدهم: والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية لولا أنه بالمدينة لقلت هو عمرو بن أمية فلما حاذينا الخشبة شددنا عليها وحملناها وخرجنا بها شدًا حتى أتينا جرفًا بمهبط مسيل يأحج فدفناها في الجرف فغيبه الله تعالى عنهم فلم يقدروا عليه وعدنا بعدها إلى المدينة1.
1 سبل الهدى والرشاد ج6 ص195، 196 بتصرف.
سادسًا: وقعة بئر معونة
وبئر معونة موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان، قريب من الرجيع، وفيه حدثت الواقعة المشهورة، التي استشهد فيها سبعون من القراء، حفظة القرآن الكريم.
ويبدو أن أهل هذه المنطقة خططوا لخديعة المسلمين، وعارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب قربهم من مكة، وتأثرهم بأهلها.
يروي ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أصحابه إلى بئر معونة في شهر صفر على رأس أربعة أشهر من "أحد" بعدما جاء أبو براء عامر بن مالك بن جعفر المعروف بـ"ملاعب الأسنة" إلى المدينة فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، ودعاه إلى دين الله تعالى فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد، يدعونهم إلى أمرك، فإني أرجو أن يستجيبوا لك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخشى عليهم أهل نجد".
قال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم، فليدعوا الناس إلى أمرك.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من الصحابة منهم: الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، في رجال من خيار المسلمين الحفظة فساروا حتى نزلوا بـ"بئر معونة" وهي بين أرض بني عامر، وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب.
فلما نزلوا "بئر معونة" بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في الكتاب وعدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: لن ننقض عهد أبي براء، وقد عقد لهم عقدًا وجوارًا، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم، وهم: عصية، ورعل، وذكوان1.
فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رآهم القراء أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم، "يرحمهم الله" إلا كعب بن زيد، أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق، فحمل من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدًا، رحمه الله2.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، أحد بني عمرو بن عوف، وهو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح.
يقول ابن إسحاق: فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة.
فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ما ترى؟
1 عصية بضم العين وفتح الصاد وتشديد الياء المفتوحة ورعل بكسر الراء وسكون العين، وذكوان بفتح الذال وسكون الكاف أسماء قبائل.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الرجيع ج6 ص312، زاد المعاد ج3 ص246، 247.
قال عمرو: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره الخبر.
فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو وما كنت لتخبرني عنه الرجال، ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرًا.
فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عمرو بن الطفيل، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبته زعم أنها كانت على أمه.
فخرج عمرو بن أمية، حتى إذا كان بـ"قرقرة الكدر" من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر1 حتى نزلا معه في ظل هو فيه.
وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار، لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟
فقالا: من بني عامر، فأمهلهما، حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثأره من بني عامر، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد قتلت قتيلين، لأدينهما"2.
وقد تألم النبي صلى الله عليه وسلم لأجل مأساة "بئر معونة" ولأجل مأساة "الرجيع" اللتين وقعتا خلال أيام معدودة تألمًا شديدًا، وتغلب عليه الحزن والقلق، حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه، ففي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحًا، يدعو في صلاة الفجر على رعل وذكوان ولحيان وعصية، ويقول:"عصية عصت الله ورسوله"3. فأنزل الله تعالى على نبيه قرآنًا قرأناه حتى نسخ بعد: "بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه"، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قنوته4.
1 وقيل إنهما من بني كلب، والراجح ما ذكرته وقرقرة الكدر موضع قريب من المدينة.
2 سيرة النبي لابن هشام ج2 ص185، 186.
3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الرجيع ج6 ص317.
4 نفس المرجع السابق ج6 ص318.
وأورد البخاري في صحيحه رواية أخرى تحدد محل القنوت ضمن أعمال الصلاة حيث ذكر بسنده عن عاصم الأحول أنه قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن القنوت في الصلاة.
قال: نعم.
فقلت كان قبل الركوع أو بعده؟
قال: قبله.
قلت: فإن فلانًا أخبرني عنك، أنك قلت بعده.
قال: كذب، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا، أنه كان بعث ناسًا يقال لهم القراء، وهم سبعون رجلا إلى ناس من المشركين، وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبلهم، فظهر هؤلاء الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا يدعو عليهم1.
وقد بين الحافظ ابن حجر في الفتح أن المراد بالقنوت الدعاء، وأورد حديث أئمة الحديث والفقه الذين بينوا أن القنوت يجوز في صلوات الليل والنهار، وأولاها صلاة المغرب دبر صلاة النهار، وصلاة الفجر دبر صلاة الليل.
وبينوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع قليلا، وأكثر قنوته كان بعده، وذكروا أن قول أنس في الرواية "كذب" يعني أخطأ بلغة أهل الحجاز.
وقد أجمع الفقهاء والمحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة الصبح.
فلا عبرة لمن أنكر القنوت أمام هذا الإجماع؛ لأن الدليل لا ينقض إلا بما يساويه، أو يزيد عليه في القوة.
والحكمة في جعل القنوت جهرًا، وأثناء القيام هو اشتراك الإمام والمأموم في الدعاء وهم في حالة نشاط وإقبال على الله تعالى، ولذلك أجمعوا على الجهر بالقنوت لتحقيق هذه المشاركة بين الإمام يدعو، والمأمومين يؤمنون، ولا خلاف في الجهر بالقنوت بين الأئمة في أوقات الصلاة ما عدا صلاة الصبح فإنهم اختلفوا في محله، وفي الجهر به2.
1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الرجيح ج6 ص318.
2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري كتاب الوتر باب القنوت ج2 ص490، 491.
سابعًا: غزوة بني النضير
فرح اليهود بهزيمة المسلمين في "أحد" وأخذوا يعلنون قوتهم وبأسهم، والحقيقة أنهم لم يكونوا أصحاب قتال وحرب، بل كانوا أصحاب خداع وتآمر، وكانوا يتعاونون خفية مع المنافقين، ومع كل من يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينس يهود بني النضير ما لحق بإخوانهم من بني قينقاع، وبكعب بن الأشرف، فأخذوا يتحينون الفرص للغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالمؤمنين.
فلما وقعت غزوة "أحد"1 وخدع المشركون المسلمين في "الرجيع"، وفي "بئر معونة" فكر يهود بني النضير في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهزوا فرصة ذهابه إلى ديارهم لمطالبتهم بالمساهمة في دية الرجلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري تطبيقًا للعهد الذي قطعه الرسول صلى الله عليه وسلم معهم عند مجيئهم إلى المدينة.
وكان بين بني النضير وبني عامر حلفًا وعهدًا، فلما طالبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالاشتراك في الدية قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت، مما استعنت بنا عليه ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد، فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟
فانتدبوا لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي على رسول الله صلى الله عليه وسلم صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، هم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة رضي الله عنهم.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة،
1 ذهب البعض إلى أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر، وقبل أحد، والحق أنها كانت بعد "أحد" وبعد بئر معونة لأن سببها كان غدر بني النضير برسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب إليهم ليدفعوا ما عليهم من دية الرجلين من بني عامر الذين قتلهم عمرو بن أمية بعد نجاته في بئر معونة، وأيضًا فإن فكرة التآمر لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترت بين اليهود وبين أبي سفيان كما دلت الأحداث على ذلك بعد "أحد".
فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم الخبر، وعرفهم أن اليهود أرادت الغدر به، وأمرهم بالتهيؤ لحربهم، والسير إليهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم1.
وحاول ابن أبي إشعال الفتنة فذهب إلى بني النضير، ومناهم بأن قريظة، وغطفان، وألفين معه سيكونون معهم إن قاتلوا المسلمين، فلما اشتد الأمر نكص على عقبيه كما فعل مع بني قيقناع، فتنبه بنو النضير، وأعدوا للأمر عدته.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم بالناس، حتى نزل بهم، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة، فحاصرهم ست ليال، فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيبه على من يصنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟
وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم "عدو الله" عبد الله بن أبي بن سلول، ووديعة مالك بن أبي قوقل، وسويد، وداعس، قد بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا بذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وانخذل المنافقون وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الدروع ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته ويحمل الأبواب والشبابيك فيضعها على ظهر بعيره فينطلق بها، فخرج أكثرهم إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام2.
وممن سار منهم إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب فلقد نزلوها، وصار لهم فيها شأن وقوة ورأي.
حمل اليهود معهم النساء والأبناء وبعض الأموال وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن
1 زاد المعاد ج3 ص248.
2 سيرة النبي ج2 ص191.
سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك ابن خرشة ذكرا فقرًا فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير أبو كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها.
يقول ابن إسحاق وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: "ألم تر ما لقيت من ابن عمك، وما هم به من شأني"؟. فجعل يامين بن عمير لرجل جعلا على أن يقتل له عمرو بن جحاش، فقتله فيما يزعمون1.
وقد أنزل الله سورة الحشر تتحدث عن بني النضير، ولذلك سماها ابن عباس سورة بني النضير2، وقد ابتدأت السورة بالحديث عن خروجهم من المدينة، رغم قوة حصونهم ودقة تخطيطهم، ولم يكن أحد يتصور لهم هذا الخروج، لكن قضاء الله نفد عليهم فخربوا بيوتهم بأيديهم واستولى الرعب عليهم، فقال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ، وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 3 والمراد بالذين كفروا يهود بني النضير، وأول الحشر هي أرض خيبر، وذكرت الآيات أن كل ما فعله المسلمون هو بأمر الله تعالى، وهم حين قطعوا نخيل بني النضير، كانوا عبيدًا يلتزمون بما أمروا به، حتى ينفد مراد الله، في إذلال اليهود، وحرمانهم من سائر ما يتحصنون به، وإظهار عجزهم، وضعفهم، يقول الله تعالى:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} 4.
كما بينت الآيات موقف المنافقين، وطريقتهم في التحريض وهم كاذبون، فلقد
1 سيرة النبي ج2 ص192.
2 صحيح البخاري ك المغازي باب حديث بني النضير ج6 ص271.
3 سورة الحشر الآيات من 2 إلى 4.
4 سورة الحشر: 5.
وعدوا اليهود بمشاركتهم في القتال والخروج، فلما جد الجد نكصوا، ولم ينفذوا وعدًا وعدوه لليهود؛ لأنهم شديدو الخوف من المسلمين يقول تعالى:{أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ، لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} 1.
وتتناول الآيات صفات اليهود القائمة على الخور والضعف، والخوف، فهم لا يقاتلون إلا بمساندة مادية، ومعونة خاصة، ويحصنون قراهم من شدة الخوف، كما أنهم أشتات متفرقون لا تجمعهم وحدة النشأة، والتكوين، وإنما مثل المنافقين معهم كمثل الشيطان يغوي الإنسان ويؤذيه، يقول تعالى:{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ، كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} 2.
والآيات في سورة الحشر تعايش المسلمين، وتبين لهم حقيقة الفيء وأحكامه؛ لأن ما أصابوه من أموال بني النضير كان أول فيء أصابوه، فهو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزعه على المستحقين له، يقول الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
1 سورة الحشر: 11-13.
2 سورة الحشر: 13-17.
السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 1.
وتوضح الآيات الصفات الأساسية للمسلم فردًا، وجماعة، وتبين أن جماعة الإيمان متحابة، مترابطة، مطيعة لله تعالى، وتوضح بجلاء أخلاق المهاجرين والأنصار، وتذكر الصورة العملية لمسلكهم، وتعاونهم، فلقد كانوا رضي الله عنهم يبتغون رضى الله ورضوانه، وينصرون الله ورسوله، في صدق عام، وإخلاص شامل، وكان كل واحد منهم يؤثر أخاه على نفسه ويدعو له، ويسأل الله تعالى أن يملأ قلبه بالحب لكافة المسلمين، أحياء وأمواتًا يقول تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 2.
كما توجه الآيات المسلمين إلى ضرورة الإخلاص في التقوى، والعمل ليوم الدين، والتذكر الدائم لله رب العالمين، والاهتمام بالقرآن الكريم حفظًا وفهمًا وعملا يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 3.
وهكذا سجلت سورة الحشر أحداث غزوة بن النضير بمنهجية القرآن الكريم في ذكر الحدث، ذلك المنهج الذي يركز على العبرة، ويبين مناط القدوة والتأثير بلا ترتيب بين الأحداث والوقائع للوصول إلى الغاية المأمولة وهي إيجاد الإنسان الصالح، وتكوين المجتمع السعيد.
1 سورة الحشر: 6-7.
2 سورة الحشر: 8-10.
3 سورة الحشر: 13-17.