المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المرحلة الثالثة للقتال الصمود الإسلامي: - السيرة النبوية والدعوة في العهد المدني

[أحمد أحمد غلوش]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد: التعريف بالمدينة المنورة "دار الهجرة" وبيان أهميتها للدعوة

- ‌الفصل الأول: السيرة النبوية من الهجرة حتى وفاته صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الهجرة النبوية

- ‌مدخل

- ‌النقطة الأولى: تحديد موطن الهجرة

- ‌النقطة الثانية: أهمية الهجرة

- ‌النقطة الثالثة: تنظيم الهجرة النبوية

- ‌مدخل

- ‌أولا: تآمر القرشيين على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ثانيًا: التخطيط للهجرة

- ‌ثالثًا: عناية الله بنبيه في الهجرة

- ‌رابعًا: الوصول إلى المدينة

- ‌النقطة الرابعة: وقفات مع الهجرة

- ‌المبحث الثاني: الاستقرار في المدينة

- ‌مدخل

- ‌أولا: الترحيب بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ثانيًا: تأمين سكن النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته

- ‌ثالثًا: هجرة آل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌رابعًا: إقامة المسجد النبوي

- ‌المبحث الثالث: تنظيم الحياة الاجتماعية في المدينة

- ‌مدخل

- ‌ تنظيم الإخاء بين المسلمين:

- ‌ وضع الميثاق العام لسكان المدينة:

- ‌المبحث الرابع: الحياة الأسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة

- ‌أولا: التعريف بأمهات المؤمنين المتفق عليهن

- ‌ثانيًا: الزوجات المختلف فيهن

- ‌ثالثًا: من خطبها أو وهبت نفسها ولم يتزوجها صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الخامس: رد ما يقال عن تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث السادس: الحكم العامة في تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث السابع: حسن عشرة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته رضوان الله عليهم

- ‌المبحث الثامن: أبناء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث التاسع: الحياة الشخصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة

- ‌أولا: أكله

- ‌ثانيًا: شرابه صلى الله عليه وسلم

- ‌ثالثًا: نومه صلى الله عليه وسلم

- ‌رابعًا: سماحته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث العاشر: قيامه صلى الله عليه وسلم بمهام الرسالة

- ‌الفصل الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة في المدينة المنورة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: بناء المجتمع الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌أولا: دين كامل

- ‌ثانيًا: قيادة أمينة رائدة

- ‌ثالثًا: مؤمنون صادقون

- ‌رابعًا: التفاعل التام بين المسلمين والإسلام

- ‌المبحث الثاني: تشريع الجهاد وحركة الدعوة

- ‌مدخل

- ‌أولا: تعريف الجهاد

- ‌ثانيا: مراحل تشريع الجهاد

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى: مرحلة التحمل والصبر

- ‌المرحلة الثانية: مرحلة الإذن بالقتال

- ‌المرحلة الثالثة: مرحلة القتال المقيد

- ‌المرحلة الرابعة: مرحلة الأمر بالقتال العام

- ‌المبحث الثالث: السرايا والغزوات قبل بدر

- ‌مدخل

- ‌أولا: أسباب وقوع السرايا والغزوات قبل بدر

- ‌ثانيًا: السرايا والغزوات قبل "بدر

- ‌ثالثًا: السرايا وحركة الدعوة

- ‌المبحث الرابع: غزوة بدر الكبرى

- ‌مدخل

- ‌أولا: أسباب الغزوة

- ‌ثانيا: مواقف الفريقين قبل المعركة

- ‌مدخل

- ‌ موقف المسلمين:

- ‌ موقف القرشيين:

- ‌ثالثًا: أحداث المعركة

- ‌رابعًا: نتائج المعركة

- ‌خامسًا: قريش والهزيمة

- ‌سادسا: المسلمون في إطار انتصار بدر

- ‌الاختلاف في توزيع الغنائم

- ‌الاختلاف في مصير الأسرى

- ‌ الابتهاج بنصر الله تعالى:

- ‌ تشريع زكاة وعيد الفطر:

- ‌سابعا: بدر في رحاب القرآن الكريم

- ‌حديث ما قبل المعركة

- ‌ حديث القرآن الكريم عن المعركة:

- ‌ حديث ما بعد المعركة:

- ‌ توجيهات قرآنية تربوية:

- ‌المبحث الخامس: أحداث ما بين بدر وأحد

- ‌مدخل

- ‌أولا: محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ثانيًا: غزوة بني سليم

- ‌ثالثًا: غزوة السويق

- ‌رابعًا: غزوة غطفان

- ‌سادسًا: سرية زيد بن حارثة

- ‌سابعًا: غزوة بني قينقاع

- ‌ثامنًا: قتل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط

- ‌تاسعًا: قتل كعب بن الأشرف

- ‌عاشرًا: أهم أحداث المجتمع الإسلامي

- ‌حادي عشر: حركة الدعوة بين بدر وأحد

- ‌المبحث السادس: غزوة أحد

- ‌مدخل

- ‌أولا: أسباب الغزوة

- ‌ثانيا: موقف أطراف معركة أحد قبل القتال

- ‌موقف المشركين

- ‌ موقف المسلمين:

- ‌ثالثا: أحداث المعركة

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى للقتال انتصار المسلمين:

- ‌المرحلة الثانية للقتال هزيمة المسلمين:

- ‌المرحلة الثالثة للقتال الصمود الإسلامي:

- ‌رابعًا: نتائج المعركة

- ‌خامسًا: الآيات الربانية الخارقة في "أحد

- ‌سادسًا: أحد في رحاب القرآن الكريم

- ‌سابعًا: أحد وحركة الدعوة

- ‌المبحث السابع: أحداث ما بين أحد والأحزاب

- ‌مدخل

- ‌أولا: غزوة حمراء الأسد

- ‌ثانيًا: سرية أبي سلمة رضي الله عنه

- ‌ثالثًا: بعث عبد الله بن أنيس

- ‌رابعًا: بعث الرجيع

- ‌خامسًا: سرية عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان

- ‌سادسًا: وقعة بئر معونة

- ‌سابعا: غزوة بني النضير

- ‌ثامنا: غزوة نجد

- ‌تاسعًا: غزوة بدر الثانية

- ‌عاشرًا: غزوة دومة الجندل

- ‌حادي عشر: أهم الأحداث الاجتماعية بين أحد والأحزاب

- ‌ثاني عشر: حركة الدعوة بين أحد والأحزاب

- ‌المبحث الثامن: غزوة الأحزاب

- ‌مدخل

- ‌أولا: وقت الغزوة

- ‌ثانيًا: تجمع الأحزاب

- ‌ثالثًا: استعداد المسلمين للأحزاب

- ‌رابعًا: سير القتال

- ‌خامسًا: الآيات الربانية الخارقة في يوم الخندق

- ‌سادسًا: حركة الدعوة خلال أيام الخندق

- ‌سابعًا: الأحزاب في رحاب القرآن الكريم

- ‌المبحث التاسع: أحداث ما بين الأحزاب والحديبية

- ‌مدخل

- ‌أولا: غزوة بني قريظة

- ‌ثانيًا: قتل ابن أبي الحقيق

- ‌ثالثا: سيرة محمد بن مسلمة

- ‌رابعًا: غزوة بني لحيان

- ‌خامسًا: غزوة الغابة

- ‌سادسًا: سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر

- ‌سابعًا: السرايا إلى ذي القصة

- ‌ثامنًا: سرايا زيد بن حارثة رضي الله عنه

- ‌تاسعًا: غزوة بني المصطلق

- ‌عاشرًا: السرايا بعد غزوة بني المصطلق

- ‌حادي عشر: حركة الدعوة خلال المرحلة ما بين الأحزاب، والحديبية

- ‌المبحث العاشر: غزوة الحديبية

- ‌مدخل

- ‌أولا: سبب الغزوة

- ‌ثانيًا: التحرك للعمرة

- ‌ثالثًا: المفاوضات مع قريش

- ‌رابعًا: الصلح

- ‌خامسًا: موقف المسلمين من الصلح

- ‌سادسًا: موقف المسلمين بعد توقيع الصلح

- ‌سابعًا: عدم رد المؤمنات المهاجرات

- ‌ثامنًا: فراق الكافرات

- ‌تاسعًا: أهم ما في الحديبية من حكم

- ‌المبحث الحادي عشر: الأحداث بين صلح الحديبية وفتح مكة

- ‌مدخل

- ‌أولا: هدوء جبهة قريش وظهور مفرزة أبي بصير رضي الله عنه

- ‌ثانيا: العمل في المحيط العام "إرسائل الرسائل

- ‌مدخل

- ‌ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة:

- ‌ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك مصر:

- ‌ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس:

- ‌ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر الروم:

- ‌ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى:

- ‌ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي وثمامة بن آثال صاحبي اليمامة:

- ‌ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر صاحب دمشق:

- ‌ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك عمان وأخيه:

- ‌ الدعاة حملة الرسائل:

- ‌ثالثا: القضاء على إرهاب اليهود في خيبر وما حولها

- ‌مدخل

- ‌ حصون خيبر:

- ‌ تحرك المسلمين نحو خيبر:

- ‌ اقتحام الحصون:

- ‌ نهاية غزوة خيبر:

- ‌ في أعقاب خيبر:

- ‌ تطهير الجبهة الشمالية من أتباع يهود خيبر:

- ‌رابعا: مواجهة القبائل المتمردة

- ‌مدخل

- ‌ غزوة ذات الرقاع:

- ‌ سرية غالب بن عبد الله إلى بني الملوح في قديد

- ‌ سرية عمر بن الخطاب إلى تربة

- ‌ سرية بشير بن سعد إلى بني مرة:

- ‌ سرية غالب بن عبد الله إلى الميفعة:

- ‌ سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر:

- ‌ سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار:

- ‌ سرية أبي حدرد رضي الله عنه إلى الغابة:

- ‌ سرية أبي بكر رضي الله عنه إلى بني هلال:

- ‌ سرية غالب بن عبد الله إلى بني مرة:

- ‌خامسا: تطبيق بنود صلح الحديبية وأداء العمرة

- ‌عمرة القضاء

- ‌ سرية ابن أبي العوجاء:

- ‌ سرية غالب بن عبد الله:

- ‌سرية ذات الصلح

- ‌ سرية ذات عرق:

- ‌ سرية شجاع بن وهب إلى السي:

- ‌ سرية قطبة بن عامر إلى خثعم بتبالة:

- ‌سادسا: بدء مواجهة الرومان والقبائل التابعة لها

- ‌مدخل

- ‌ سرية مؤتة

- ‌ غزوة ذات السلاسل

- ‌ سرية الخبط:

- ‌ سرية أبي قتادة إلى خضرة:

- ‌سابعًا: حركة الدعوة في مرحلة ما بين الحديبية وفتح مكة

- ‌المبحث الثاني عشر: وتطهير الجزيرة العربية كلها من الشرك

- ‌مدخل

- ‌أولا: فتح مكة

- ‌سبب فتح مكة

- ‌ محاولة أبي سفيان تجديد الصلح:

- ‌ استعداد المسلمين لفتح مكة:

- ‌ الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة:

- ‌ مكة تحت القيادة الإسلامية:

- ‌ثانيًا: تطهير مكة وما حولها من الأصنام

- ‌ثالثا: غزوة حنين

- ‌مدخل

- ‌ استعداد المشركين للحرب:

- ‌ القتال:

- ‌ تعقب الفارين:

- ‌ غزوة الطائف:

- ‌ توزيع الغنائم:

- ‌ العودة إلى المدينة:

- ‌المبحث الثالث عشر: الاستقرار العام في الجزيرة ومواجهة غير العرب

- ‌مدخل

- ‌أولا: بعث عمال الصدقات إلى القبائل

- ‌ثانيًا: إرسال الدعاة إلى القبائل

- ‌ثالثًا: تسيير السرايا للخارجين على النظام

- ‌رابعا: غزوة تبوك والتصدى لعدوانية الرومان

- ‌استعداد المسلمين للغزوة

- ‌ نتائج الغزوة:

- ‌ موقف المنافقين بعد الغزوة:

- ‌ الثلاثة الذين تخلفوا:

- ‌المبحث الرابع عشر: السرايا والجهاد في الميزان

- ‌الجهاد ضرورة عامة

- ‌ الجهاد يحمي حرية الإنسان:

- ‌ الجهاد يصون كرامة الإنسان:

- ‌ الجهاد يبرز إيجابية الإنسان المسلم:

- ‌ الواقعية في تشريع الجهاد:

- ‌ ظهور فقه الإسلام في الجهاد:

- ‌المبحث الخامس عشر: وجاء نصر الله

- ‌مدخل

- ‌أولا: تتابع مجئ الوفود إلى المدينة

- ‌ثانيًا: نظام استقبال الوفود

- ‌ثالثًا: حج أبي بكر رضي الله عنه وإعلان نهاية الوثنية في الجزيرة العربية:

- ‌رابعًا: حجة الوداع وتحديد المعالم الكبرى في الإسلام

- ‌خامسًا: آخر بعوث النبي صلى الله عليه وسلم بعث أسامة

- ‌المبحث السادس عشر: انتقال الرسول إلى الله تعالى

- ‌الفصل الثالث: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المدنية

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: ضرورة بناء الأمة الإسلامية [قاعدة الدعوة]

- ‌مدخل

- ‌أولا: إيجاد الأمة القوية

- ‌ثانيا: التزام الأمة بالإسلام

- ‌ثالثا: صيانة ثوابت الأمة

- ‌المبحث الثاني: الاهتمام بمعرفة الواقع العالمي

- ‌المبحث الثالث: أهمية التطابق بين المسلم والإسلام

- ‌مدخل

- ‌ نشر العدل:

- ‌ تحقيق القيم النبيلة:

- ‌ تعود الصبر والتحمل:

- ‌ تحقيق التكافل بين الناس:

- ‌المبحث الرابع: ضرورة الفصل التام بين الإسلام وغيره

- ‌الخاتمة:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌المرحلة الثالثة للقتال الصمود الإسلامي:

ولما تصفح أبو سفيان القتلى قال: ما نرى مصرع محمد؟ كذب ابن قميئة.

ولقي أبو سفيان خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندك قتل محمد؟

قال خالد: رأيته قبل قليل في نفر من أصحابه، مصعدين في الجبل.

قال أبو سفيان: هذا حق، كذب ابن قمئة، زعم أنه قتله1.

وهنا تغير الأمر ثانية وانكسرت شوكة الحماس القرشي وفترت حدتهم، وثبتت فئة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ المسلمون يفيئون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتماسكت قوتهم، وتمكنوا من الصمود حتى انتهت المعركة.

1 المغازي ج1 ص236، 237.

ص: 345

‌المرحلة الثالثة للقتال الصمود الإسلامي:

أدت مخالفة الرماة للأوامر التي تلقوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى انكسار الجيش الإسلامي وتفكك صفوفه، وفرار المسلمين إلى الجبل في كل جوانبه.

ولما انكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق منهم معه صلى الله عليه وسلم إلا نفر يسير، ولم يبق للمسلمين لواء قائم ولا فئة ثابتة، وأخذت خيل المشركين تجوسهم مقبلة ومدبرة، في جنبات الوادي، وتجمع المشركون، يلتقون ولا يتفرقون، ما يرون أحدًا من الناس يردهم بعدما فر المسلمون، وصعدوا إلى الجبل، وقد استشهد من المسلمين من أكرمه الله تعالى بالشهادة ولولا ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته لكانت النكسة الماحقة، ولوقعت الهزيمة التي لا انتصار بعدها.

روى البيهقي عن المقداد بن عمرو رضي الله عنه قال: أوجع المشركون والله فينا قتلا ذريعًا، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نالوا، ألا والذي بعثه بالحق ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم شبرًا واحدًا، وإنه لفي وجه العدو، ويفيء إليه طائفة من أصحابه مرة، وتفترق عنه مرة، فربما رأيته قائمًا يرمي عن قوسه ويرمي بالحجر حتى تحاجزوا، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصابة ثبتت معه1.

وقال محمد بن عمر: ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه، ما يزول قدمًا واحدًا بل وقف في

1 المغازي ج1 ص204.

ص: 345

وجه العدو، وما يزال يرمي عن قوسه، حتى تقطع وتره، وبقيت في يده منه قطعة تكون شبرًا في سية القوس، فأخذ القوس عكاشة بن محصن ليوتره له.

فقال عكاشة رضي الله عنه: يا رسول الله لا يبلغ الوتر.

فقال صلى الله عليه وسلم: "مده فيبلغ".

قال عكاشة رضي الله عنه: فوالذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ، وطويت منه لبتين أو ثلاثًا على سية القوس1.

ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوسه، فما زال يرمي به، وأبو طلحة يستره متترسًا عنه، حتى تحطمت القوس وصارت شظايا، وفنيت نبله، فأخذ القوس قتادة بن النعمان فلم تزل عنده، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة وكان أقرب الناس إلى العدو.

وثبت معه صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلًا، ثمانية من المهاجرين هم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وسبعة من الأنصار هم: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسعد بن معاذ، وقيل: سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه ويقال: ثبت بين يديه يومئذ ثلاثون رجلا كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودع! 2.

وصان الله رسوله من كيد أعدائه في هذه المحنة القاسية فشتت رميهم، وأفسد سهامهم وأرسل ملائكته لحفظ رسول صلى الله عليه وسلم.

وروى الطبراني عن ابن عباس: أن ابن مسعود ثبت يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انكشف الناس عنه إلى الجبل لا يلوون عليه، يدعوهم في أخراهم ويقول:"إليّ يا فلان، أنا رسول الله"، فما يعرج عليه أحد، هذا والنبل يأتيه صلى الله عليه وسلم من كل ناحية، والله تعالى يصرف ذلك عنه3.

وروى محمد بن عمر الأسلمي عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين

1 المغازي ج1 ص242، بلوغ الأماني ج22 ص327.

2 المغازي ج1 ص241، 242.

3 البداية والنهاية ج4 ص30، المغازي ج1 ص238.

ص: 346

يقول: شهدت أحدًا فنظرت إلى النبل من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرفه الله عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، ثم جاوزه ولم يره فعاتبه صفوان بن أمية في ذلك، فقال له: والله ما رأيته، أحلف بالله أنه منا ممنوع أما والله لقد خرجنا فتعاهدنا، وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إليه1.

وكان أربعة من قريش قد تعاهدوا، وتعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا المشركين بذلك، وهم: عبد الله بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وعمرو بن قمئة، وأبي بن خلف، وزاد بعضهم عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي.

قال ابن سعد: قال أبو النمر الكناني وهو جد شريك بن عبد الله بن أبي نمر: شهدت أحدًا مع المشركين، ورميت يومئذ بخمس رميات، فأصبت منها بأسهم، وإني لأنظر إلى رسول الله صلى الله علي وسلم، وإن أصحابه لمحدقون به، وإن النبل لتمر عن يمينه، وعن شماله، وتقصر بين يديه، وتخرج من ورائه، ثم هداني الله للإسلام2.

وروى عبد الرزاق عن الزهري قال: ضرب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد" سبعين ضربة بالسيف، وقاه الله شرها كلها.

وبايعه يومئذ على الموت ثمانية: ثلاثة من المهاجرين وهم: علي، والزبير، وطلحة وخمسة من الأنصار: أبو دجانة، والحارث بن الصمة، والحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، فلم يقتل منهم أحد3.

وروى أبو يعلى بسند حسن، عن علي رضي الله عنه قال: لما انجلى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد" نظرت في القتلى، فلم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى، ولكن أرى أن الله تعالى غضب علينا بما صنعنا، فرفع نبيه صلى الله عليه وسلم، فما لي خير من أن أقاتل حتى أقتل، فكسرت جفن سيفي، ثم حملت على القوم فأفرجوا لي، فإذا أنا

1 البداية والنهاية ج4 ص30.

2 الطبقات ج2 ص42.

3 البداية والنهاية ج4 ص29.

ص: 347

برسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم أي يقاتلهم صلى الله عليه وسلم1.

وتكاثر المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، رمى عتبة بن أبي وقاص -لعنه الله- رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أحجار فكسر حجر منها رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى2.

وشجه عبد الله بن شهاب الزهري في وجهه، وسال الدم من الشجة حتى أخضل الدم لحيته الشريفة3.

ورماه عبد الله بن قَمِئة -بفتح القاف وكسر الميم وبعدها همزة- فشج وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وعلاه بالسيف، وكان عليه درعان، فوقع صلى الله عليه وسلم في حفرة أمامه على جنبه، وهي من الحفر التي عملها أبو عامر الفاسق ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، فأغمي عليه صلى الله عليه وسلم، فأخذه علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة حتى استوى قائمًا فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف ابن قمئة شيئًا إلا وهن الضربة بثقل السيف، ومكث صلى الله عليه وسلم يجد وهن الضربة على عاتقه شهرًا أو أكثر من شهر، ورمته جماعة كثيرة بالحجارة حتى وقع لشقه4.

لقد دبت روح الإيمان في نفوس المسلمين ودفعتهم إلى قوة المجابهة، وطلب الشهادة في سبيل الله صادقين، مخلصين عندما رأوا الأعداء يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أدى ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هاتيك الضربات الموجعة، وهذا الحصار المحكم وتلك الرميات المتتابعة، أدى إلى عودة الروح إلى قلوب المؤمنين، فاندفعوا لحماية دينهم الذي تحملوا مسئوليته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرتضوا لأنفسهم الحياة الذليلة المهينة وبخاصة أن استشهادهم في سبيل الله يحقق لهم الحياة عند الله فرحين مستبشرين.

ذلك أن فريقًا من الصحابة حينما سمعوا صائحًا يقول: قتل محمد طار صوابهم، وانهارت عزيمتهم، فمر بهم أنس بن النضر، وقال لهم: ما تنظرون؟

1 المغازي ج1 ص160، 161.

2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ج6 ص203.

3 المصدر السابق ج 6 ص204.

4 البداية والنهاية ج4 ص29، 30.

ص: 348

قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر؟

فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته بعد نهاية المعركة ببنانه وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم1.

ونادى ثابت بن الدحداح أنس بن النضر، وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدًا قد قتل؟!

فقال أنس: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم2.

وبمثل هذا الاستبسال والفداء عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، وأخذوا سلاحهم، وانطلقوا يهاجمون تيارات المشركين، الذين يحاولون الوصول إلى رسول الله بعدما بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مختلق.

ولما تأكد المسلمون من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا قوة، وتمكنوا من الإفلات من التطويق وتجمعوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة، وثبتوا ثبوت الجبال الرواسي، ولم يتمكن المشركون من زحزحتهم، وإبعادهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أبدى المسلمون بعد تجمعهم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاعة نادرة، وأصروا على الصمود، حتى الموت، ولم يرضوا لأنفسهم الذل والهوان، ولم يقبلوا أن يؤتى الإسلام من قبلهم، وجاهدوا مخلصين، وفدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرواحهم، ومن هؤلاء:

1-

سعد بن أبي وقاص: قد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته، وقال:"ارم فداك أبي وأمي". ولم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم أبويه فداء لأحد في يوم أحد لغير سعد رضي الله عنه3.

2-

طلحة بن عبيد الله: يروي النسائي بسنده عن جابر بن عبد الله يقول: أدرك

1 المرجع السابق ج4 ص32.

2 البداية والنهاية ج4 ص31.

3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص293.

ص: 349

المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "من للقوم"؟.

فقال طلحة: أنا.

فلما قتل الأنصار كلهم، تقدم طلحة فقاتلهم كقتال الأحد عشر، حتى ضربت يده وقطعت أصابعه، فقال: حس.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قلت: "بسم الله لرفعتك الملائكة، والناس ينظرون".

وقد جرح طلحة يوم "أحد" تسعًا وثلاثين جرحًا، أو خمسًا وثلاثين، وشلت إصبعه السبابة والتي تليها1.

وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ: "من نظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله"2.

وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم "أحد" قال: هذا يوم طلحة.

وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا رأى طلحة رضي الله عنه: "هذا سلفي في الدنيا وسلفي في الآخرة"3.

يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت

لك الجنان وبوأت المها العينا

يقول أبو بكر الصديق: لما كان يوم "أحد" انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه، ويحميه، قلت: كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة فداك أبي وأمي، فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"دونكم أخاكم فقد أوجب".

وقد رمى النبي صلى الله عليه وسلم في جبهته ووجنته، حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر ألا تركتني.

فأخذ بفيه، فجعل ينضضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه

1 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج1 ص286.

2 سنن الترمذي كتاب المناقب باب مناقب طلحة ج5 ص644.

3 فتح الباري ج7 ص361.

ص: 350

فندرت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني فأخذ بفيه، فجعل ينضضه حتى استله فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دونكم أخاكم، فقد أوجب".

يقول أبو بكر: فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع وثلاثون بين ضربة وطعنة ورمية.

وهذا أيضًا يدل على مدى كفاءة طلحة ذلك اليوم وتفانيه في الكفاح والنضال1.

3-

ومن المسلمين الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدوا أعداءه عنه أبو دجانة، ومصعب بن عمير، وعلي بن أبي طالب، وسهيل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية، وقتادة بن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وسهل بن حنيف، وأبو طلحة.

4-

كان أبو طلحة رضي الله عنه يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو، يقول أنس: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفه له، وكان رجلا راميًا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين، أو ثلاثًا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول:"انثرها لأبي طلحة". ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة، بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.

يقول أنس: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس، وكان أبو طلحة حسن الرمي، فكان إذا رمى تشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موقع نبله.

5-

حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه تعقب حاطب رضي الله عنه عتبة بن أبي وقاص الذي كسر الرباعية الشريفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه شديد الحرص على قتل أخيه عتبة هذا إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب.

6-

وكان سهل بن حنيف رضي الله عنه أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت،

1 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج6 ص286.

ص: 351

ثم قام بدور فعال في رد المشركين.

7-

وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، بعضها في رجله فعرج.

8-

وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، فقال:"مجه".

فقال: والله لا أمجه أبدًا، ثم أدبر يقاتل.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"، فقتل شهيدًا.

9-

وكانت أم عمارة "نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف" وقد شهدت أحدًا هي وزوجها وابنها، ومعها شن تسقي به الجرحى، فقاتلت وأبلت بلاء حسنًا يومئذ، وهي حاجزة ثوبها على وسطها، حتى جرحت اثني عشر جرحًا، بين طعنة برمح، أو ضربة بسيف: وذلك أنها كانت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وابناها عبد الله وحبيب ابنا زيد بن عاصم، وزوجها غزية بن عمرو، يذبون عنه.

فلما انهزم المسلمون أخذت أم عمارة تباشر القتال، وتذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، وترمى بالقوس، ولما أقبل ابن قمئة -لعنه الله- يريد النبي صلى الله عليه وسلم كانت فيمن اعترض له، فضربها على عاتقها ضربة صار لها فيما بعد ذلك غور أجوف، وضربته هي ضربات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لمقام نسيبه بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان".

وقال صلى الله عليه وسلم: "ما التفت يمينًا ولا شمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني".

وقال صلى الله عليه وسلم لابنها عبد الله بن زيد: "بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك -يعني زوج أمه- خير من مقام فلان وفلان، ومقامك خير من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل بيت".

قالت أم عمارة: "ادع الله أن نرافقك في الجنة".

قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة ".

قالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا1.

1 إمتاع الأسماع ج1 ص148 والمغازي ج1 ص269، 273.

ص: 352

10-

وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوا على يده اليمنى حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -لشبهه به- فانصرف ابن قمئة إلى المشركين وصاح: إن محمدًا قد قتل1.

11-

وخرج محمد بن مسلمة يطلب من النساء ماء، وكن قد جئن أربع عشرة امرأة مسلمة منهن فاطمة وأم سليم بنت ملحان، وعائشة أم المؤمنين وحمنة بنت جحش ومنهن أم أيمن رضي الله عنهن، وكن يسقين العطشي، ويداوين الجرحي، ويناولن الطعام، ويحملن على ظهورهن ما يحتاج إليه المقاتلون من طعام، وشراب، وسلاح.

خرج إليهم محمد بن مسلمة فلم يجد عندهم ماء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عطش عطشًا شديدًا، فذهب محمد إلى قناة بها ماء حتى استقى وأتى بماء عذب، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير، وجعل الدم لا ينقطع.

فلما رأت فاطمة الدم لا يرفأ، وهي تغسله وعلي يصب الماء عليها بالمجن، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادًا، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم، ويقال: إن فاطمة رضي الله عنها داوته بصوفه محترقة، وكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يداوي الجرح في وجهه بعظم بال حتى يذهب أثره، ومكث يجد وهن ضربة ابن قمئة على عاتقه شهرًا أو أكثر من شهر2.

12-

وكان شماس بن عثمان بن الشريد المخزومي لا يرمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره يمينًا وشمالا إلا رآه في ذلك الوجه يذب بسيفه، حتى غشي رسول الله صلى الله عليه وسلم فترس بنفسه دونه حتى قتل رحمه الله، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما وجدت لشماس شبهًا إلا الجنة"3.

13-

ولقي رشيد الفارسي مولى بني معاوية رجلا من المشركين قد ضرب سعدًا مولى حاطب، فضربه على عاتقه فقتله، فاعترض له أخوه فقتله أيضًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أحسنت يا أبا عبد الله وكناه يومئذ ولا ولد له"4.

1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص288.

2 البداية والنهاية ج4 ص30.

3 إمتاع الأسماع ج1 ص144.

4 المرجع السابق ج1 ص146.

ص: 353

14-

وقال مخيريق من أحبار يهود لقومه: يا معشر يهود! والله إنكم لتعلمون أن محمدًا لنبي، وأن نصره عليكم لحق! ثم أخذ سلاحه، وحضر أحدًا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقتل؛ وقال حين خرج: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراد الله، فهي عامة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيه صلى الله عليه وسلم:"مخيريق خير يهود".

في ذلك الظرف الدقيق، والساعة الحرجة، أنزل الله نصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل ملائكته لحمايته والدفاع عنه، وتخذيل المشركين وصرفهم من أن ينالوه صلى الله عليه وسلم بسوء، وقد كان هدفهم الأول قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عند سعد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد"، ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل2.

وقد نزلت الملائكة يوم أحد، إلا أنها لم تقاتل لعدم صبر المؤمنين، الذي جعله الله تعالى شرطًا لاشتراك الملائكة في القتال، وقيل: بل نزلوا فرادى دفاعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومنّ الله على المجاهدين، الذين أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وتكاتفوا في الدفاع والصمود منّ عليهم سبحانه وتعالى بنعاس، فناموا وذهب ما بهم من حزن وتعب.

يقول طلحة بن عبيد الله: غشينا النعاس حتى كان جحف القوم تتناطح.

ويقول الزبير بن العوام: غشينا النعاس فما منا رجل إلا وذقنه في صدره من النوم فأسمع متعب بن قشير يقول، وإني لكالحالم {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 3.

فأنزل الله تعالى فيه: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 4.

يقول أبو اليسر: لقد رأيتني يومئذ في أربعة عشر رجلا من قومي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابنا النعاس أمنة منه، ما منهم رجل إلا يغط غطيطًا حتى إن الحجف لتتناطح لقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور يسقط من يده وما يشعر به، وأخذه بعدما تثلم وإن

1 المغازي ج1 ص262، 263.

2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص292.

3 سورة آل عمران: 154.

4 سورة آل عمران: 154.

ص: 354

المشركين لتحتنا1.

ويقول أبو طلحة: ألقي علينا النعاس، فكنت أنعس حتى سقط سيفي من يدي، وكان النعاس لم يصب أهل النفاق والشك يومئذ، فكل منافق يتكلم بما في نفسه، وإنما أصاب النعاس أهل اليقين والإيمان2.

وقعت هذه الأحداث كلها بسرعة هائلة، في لحظات خاطفة، وأدرك المصطفون الأخيار من صحابته صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في مقدمة المسلمين عند بدء القتال خطورة الموقف، وضرورة الصمود، والتصدي لأعداء الله، وأعداء رسوله، وزاد حماسهم لما سمعوا صوته صلى الله عليه وسلم فأسرعوا إليه، لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح، فلما وصلوا أقاموا حوله سياجًا من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو ورد هجماتهم.

وانتهت الجولة الثالثة بتكافؤ الفريقين، بعدما أصابهما التعب والإرهاق، فلقد عاشوا اليوم كله بين الكر والفر، وكثرت الجراحات، وتكسرت الرماح وقل النبل، وعقرت الخيل، ورأت قريش ضرورة الانسحاب والرجوع إلى مكة قبل أن يتغير الأمر.

سئل عمرو بن العاص عن كيفية افتراق المشركين والمسلمين يوم أحد وكان وقتها في معسكر المشركين، فقال: لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم، وتفرقوا في كل وجه وفاءت لهم فئة بعد، فتشاورت قريش فقالوا: لنا الغلبة، فلو انصرفنا فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث الناس وقد تخلف ناس من الأوس والخزرج، ولا نأمن أن يكروا علينا، وفينا جراح، وخلينا عامتها قد عقرت منه النبل فمضوا3.

وبدأ القرشيون في الانسحاب، والرجوع إلى مكة، وأقبل أبو سفيان يفاخر بانتصار المشركين، وسار حتى أشرف على المسلمين، وهم في عرض الجبل، فأخذ يصيح بأعلى صوته: اعل هبل، أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يوم بيوم ببدر، ألا إن الأيام دول، وإن الحرب سجال

1 إمتاع الأسماع ج1 ص159.

2 المغازي ج1 ص296.

3 المغازي ج1 ص299.

ص: 355

وحنظلة بحنظلة.

فقال عمر رضي الله عنه: ألا أجيبه يا رسول الله؟

فقال صلى الله عليه وسلم: "بلى فأجبه".

فقال أبو سفيان: اعل هبل!

فقال عمر رضي الله عنه: الله أعلى وأجل!

قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت فعلا، أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟

فقال عمر رضي الله عنه: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وهذا عمر.

فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، ألا إن الأيام دول، وإن الحرب سجال.

فقال عمر: لا سواء! قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار.

قال أبو سفيان: إنكم لتقولون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا! لنا العزى ولا عزى لكم.

فقال عمر: الله مولانا، ولا مولى لكم.

قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت يابن الخطاب علينا، قم إليّ يابن الخطاب أكلمك فقام عمر فقال أبو سفيان: أنشدتك بدينك هل قتلنا محمدًا؟

قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن.

قال أبو سفيان: أنت أصدق عندي من ابن قمئة.

ثم قال أبو سفيان ورفع صوته: إنكم واجدون في قتلاكم عنتًا ومثلا، ألا إن ذلك لم يكن عن رأي سراتنا، أما إذا كان ذاك فلم نكرهه، ثم نادى: ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل نعم! ".

فقال عمر رضي الله عنه: نعم.

وانصرف أبو سفيان إلى أصحابه، وأخذوا في الرحيل1.

1 صحيح البخاري. ك المغازي باب غزوة أحد ج6 ص287.

ص: 356

فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من أن يغير المشركون على المدينة فتهلك الذراري والنساء، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص لينظر وقال له:"إن ركبوا الإبل، وجنبوا الخيل فهو الظعن، وإن ركبوا الخيل، وجنبوا الإبل فهي الغارة".

ثم قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لئن ساروا إليها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزنهم".

فذهب سعد يسعى إلى العقيق، فإذا هم قد ركبوا الإبل، وجنبوا الخيل بعدما تشاوروا حول نهب المدينة، فأشار عليهم صفوان بن أمية ألا يفعلوا، فإنهم لا يدرون ما يغشاهم، فعاد فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم1.

وقدم أبو سفيان مكة فلم يصل إلى بيته حتى أتى هبل فقال: قد أنعمت ونصرتني وشفيت نفسي من محمد وأصحابه، وحلق رأسه.

وكان أول من قدم مكة بخبر أحد، وانصراف المشركين عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فكره أن يأتيهم هزيمة أهلهم، فقدم الطائف وأخبر أن أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا.

ثم قدم وحشي مكة فأخبرهم بمصاب المسلمين، ووقف على الثنية التي تشرف على الحجون فنادى: يا معشر قريش! أبشروا، قد قتلنا أصحاب محمد مقتلة لم يقتل مثلها في زحف قط، وجرحنا محمدًا فأثبتناه بالجراح، وقتل حمزة، فسروا بذلك.

وبعد انتهاء القتال أخذ المسلمون يتفقدون قتلاهم، ليقفوا على مدى مصابهم يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي:"إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك"؟.

فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته، وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك:"أخبرني كيف تجدك"؟.

فقال سعد: وعلى رسول الله السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص عدوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته فجاء زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبره2.

1 فتح الباري ج7 ص347.

2 المغازي ج1 ص292، 293.

ص: 357

يقول ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- يلتمس حمزة بن عبد المطلب وجعل يقول: "ما فعل عمي"؟. ويكرر ذلك، فخرج الحارث بن الصمة يلتمسه فأبطأ، فخرج علي فوجد حمزة ببطن الوادي مقتولا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يمشي حتى وقف عليه فوجده قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به، فجدع أنفه، وأذناه، فنظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه، ونظر وقد مثل به.

فقال صلى الله عليه وسلم: "أحتسبك عند الله رحمة الله عليك يا عمي، فإنك كنت كما علمتك فعولا للخير، وصولا للرحم، ولولا حزن من بعدي عليك، وتكون سبة من بعدي لتركتك، حتى تحشر في بطون السباع، وحواصل الطير"1.

ثم قال صلى الله عليه وسلم لمن حوله: "أبشروا جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السماوات السبع، حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم".

وقال صلى الله عليه وسلم: "لئن أظهرني الله تعالى على قريش في موطن من المواطن لأمثلن ثلاثين رجلا منهم"2.

فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا: والله لئن ظفرنا الله تعالى بهم يومًا من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب، وفي توعده صلى الله عليه وسلم وتوعد أصحابه لكفار مكة مخالفة للعقوبة الشرعية المقررة، ولذلك نزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف عند أحد بعد مقالته بخواتيم سورة النحل وفيها يقول الله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} 3.

فكفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر، وفعل أصحابه مثل ما فعل4 يقول ابن إسحاق أيضًا: وأقبلت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها لتنظر إلى حمزة وكان أخاها لأمها وأبيها، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تراه، فقال صلى الله عليه وسلم:"المرأة. المرأة".

1 أسباب النزول للنيسابوري ص164.

2 سيرة النبي ج2 ص96، بغية الرائد ج6 ص173 وفيه: سبعون بدل ثلاثين.

3 سورة النحل: 126.

4 أسباب النزول ص164.

ص: 358

فقال الزبير بن العوام: فتوسمت أنها أمي صفية.

فقال صلى الله عليه وسلم له: "القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها". فخرج الزبير يسعى فأدركها، قبل أن تنتهي إلى القتلى، فردها فلكمت صدره، وكانت امراة جلدة وقالت: إليك عني لا أرض لك1.

فقال الزبير لها: يا أمه إن رسول الله يأمرك أن ترجعي.

قالت: ولِمَ؟ وقد بلغني أنه قد مثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك فلأصبرن، وأحتسبن إن شاء الله.

فجاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره.

فقال صلى الله عليه وسلم: "خل سبيلها".

فأتته فنظرت إليه، واسترجعت، واستغفرت له2.

وروى الإمام أحمد وأبو يعلى والبزار عن الزبير والطبراني بسند رجاله ثقات، عن ابن عباس: أن صفية رضي الله عنها أتت بثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما.

يقول ابن عباس رضي الله عنه: فجئنا بالثوبين لنلفه فيهما، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار، فعل به مثل ما فعل بحمزة، فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين، والأنصاري لا كفن له.

فقلنا: لحمزة ثوب، وللأنصاري ثوب، فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما فكفنا كلا منهما في الثوب الذي صار3.

وأراد أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن ينال من قريش، لما رأى من غم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل حمزة وما مثل به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليه أن اجلس وكان قائمًا، ثم قال صلى الله عليه وسلم له: "يا أبا قتادة، إن قريشًا أهل أمانة من بغاهم العواثر أكبه الله تعالى لفيه، وعسى

1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص170.

2 سيرة النبي ج2 ص97.

3 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص170.

ص: 359

إن طالت بك حياة أن تحقر عملك مع أعمالهم، وفعالك مع فعالهم، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله تعالى" 1.

فقال أبو قتادة: يا رسول الله، ما غضبت إلا لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، حين نالوا من حمزة ما نالوا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم".

ووجد المسلمون في الجرحى الأصيرم -عمرو بن ثابت- وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟

لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك؟ أحربًا على قومك أم رغبة في الإسلام؟

فقال: بل ربغة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"هو من أهل الجنة"2.

ووجدوا في الجرحى قزمان، وكان قد قاتل قتال الأبطال، قتل وحده سبعة، أو ثمانية من المشركين، وجدوه قد أثخنته الجراح، فاحتملوه إلى دار بني ظفر، وبشره المسلمون، فقال: والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له:"إنه من أهل النار"3.

1 إمتاع الأسماع ج1 ص145.

2 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج22 ص203.

3 المغازي ج1 ص224.

ص: 360