الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال صلى الله عليه وسلم: هاتيه.
قالت: فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتها، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه، فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده:"اصرخ في أهل الخندق: أن هلم إلى الغداء". فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب1.
4-
إظهار غيب المستقبل:
تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم في يوم "الخندق" بانتشار الإسلام في العالم، وذكر انتهاء غزو القرشيين للمدينة، يقول البراء بن عازب: لما كان يوم "الخندق" عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فشكونا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فوضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة وأخذ المعول فقال صلى الله عليه وسلم:"بسم الله". ثم ضرب ضربة كسرت ثلث الصخرة وقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة من مكاني هذا". ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال:"الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض الآن". ثم ضرب الثالثة، فقال:"بسم الله". فقطع بقية الحجر، فقال:"الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر صنعاء من مكاني هذا"2.
1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج2 ص218.
2 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني باب ما جاء في غزوة الخندق ج21 ص78.
سادسًا: حركة الدعوة خلال أيام الخندق
تعتبر غزوة "الخندق" اختبارًا قاسيًا للمسلمين في المدينة، وقد وفقهم الله تعالى للصمود في هذا الامتحان الشديد، وساهموا جميعًا في حفر الخندق، وقد شجعهم على النشاط والعمل، مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في الحفر، بل نراه صلى الله عليه وسلم في مقدمة العاملين وقد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم العمل على أصحابه بالتساوي، ولم يخص أحدًا من قرابته، أو خاصته براحة في العمل، ولم يميز بعضًا منهم بمزايا، وجمع صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين مع سائر
المسلمات في المساكن الحصينة التي اختارها لهن، ولأطفالهن وسط المدينة.
وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يلزم المسلمون بالعمل وفق الخطة الموضوعة، بحيث لا يترك العمل أحد من المسلمين إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع المسلمين بحكمة ومودة، إذ تراه صلى الله عليه وسلم حين اختلف المهاجرون والأنصار في معية سلمان الفارسي أثناء الحفر حيث رغب كل من المهاجرين، والأنصار أن يكون معهم، وقالوا: إنه منا. قال لهم صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا آل البيت"1. ووضعه مع مجموعة من الصحابة ضمت ثلاثًا من المهاجرين، وستة من الأنصار على أن يكون سلمان رضي الله عنه أمير المجموعة، فرضي بذلك الجميع.
وكان صلى الله عليه وسلم يتعامل برفق، ويحافظ على إرضاء نفوس المؤمنين فإنه صلى الله عليه وسلم لما رد الغلمان في بداية حفر الخندق رضي منهم أن يشاركوا في الحفر تطييبًا لخواطرهم، وحفاظًا عليهم.
وكان صلى الله عليه وسلم رحيمًا بأصحابه، إذ نراه لما اشتد البرد كان يضم بعضهم إليه، ويعطيه مرطًا يلبسه، بعد أن أخذه من بعض نسائه صلى الله عليه وسلم، وكان يداعب أصحابه، ويتلطف معهم في الحديث.
يروي مسلم بسنده أن رجلا قابل حذيفة فقال له: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه، وأبليت.
فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة، وقر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة". فسكتنا فلم يجبه منا أحد.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة". فسكتنا فلم يجبه أحد.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة". فسكتنا فلم يجبه أحد. فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم". فلم أجد بدًا إذ دعاني باسمي أن أقوم، حيث قال:"اذهب يا حذيفة فائتني بخبر القوم، ولا تذعرهم عليّ". فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام، حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره النار، فوضعت سهمًا
1 المغازي ج2 ص446.
في كبد القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ولا تذعرهم عليّ". ولو رميته لأصبته، فرجعت، وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، وفرغت، قررت فألبسني من شدة البرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائمًا حتى أصبحت قال:"قم يا نومان"1.
فلم يفزعه صلى الله عليه وسلم وإنما كناه وسرى عنه، وغطاه من البرد حتى استيقظ.
ونظرًا لاشتغال المسلمين بالمعركة أذن لهم صلى الله عليه وسلم بالصلاة حيث يعسكرون، ولذلك تأسست سبعة مساجد على الخندق، نسبت إلى من كان يؤم الصحابة بها ويقودهم في موقعة مثل مسجد أبي بكر، ومسجد عمر، ومسجد عثمان، ومسجد علي، رضي الله عنهم، وبذلك استمرت حراسة الخندق ليلا ونهارًا، رغم البرودة الشديدة وأذن لهم صلى الله عليه وسلم بتعدد الجماعات مراعاة للحال وبخاصة أن صلاة الخوف لم تكن شرعت بعد.
وكان صلى الله عليه وسلم يمر على المسلمين في مواقعهم ليشرف عليهم ويوجههم إلى ما يجب أن يكون.
وقد تعلم المسلمون من فنون الحرب أهمية اكتشاف الأساليب المناسبة للتعامل مع العدو عددًا، وعدة، إذ لولا الخندق الذي حفره المسلمون لأصيبوا بهزيمة منكرة، ولا مانع من اكتساب خبرة الآخرين المفيدة للإسلام وللمسلمين.
واهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتضليل أعدائه وخداعهم وفك وحدتهم ونشر الشائعات بين صفوفهم، وذلك من أهم طرق هزيمة العدو وانكساره.
وكان صلى الله عليه وسلم يعمل على المحافظة على روح القتال، وحب الشهادة بين المسلمين.
وكان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بالنصر، وينبئهم بأخبار الوحي، وكان يمر على أصحابه يطمئن عليهم، ويجلب الطعام والمئونة لهم، ويطمئنهم على نسائهم، وذراريهم.
وكان صلى الله عليه وسلم يناجي ربه، ويكثر من الدعاء على المشركين، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم على الأحزاب في يوم الخندق ما رواه البخاري في صحيحه عن إسماعيل بن أبي خالد أنه قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه يقول: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم
1 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني باب ما جاء في استجابة الله دعاء نبيه ج21 ص80.
وزلزلهم" 1.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من الغزو، أو الحج، أو العمرة، يبدأ فيكبر ثلاث مرار، ثم يقول:"لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وله الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"2.
دعا النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين لأنهم شغلوا المسلمين عن صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق:"ملأ الله عليهم بيوتهم، وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس"3.
ولم يكن اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه مقتصرًا على ميدان المعركة عند الخندق، بل رأيناه صلى الله عليه وسلم يهتم بنساء المسلمين وذراريهم، فلقد كلف فريقًا بحراستهم، والدفاع عنهم، وكان دائم الحذر من بني قريظة: حينما خافهم على نساء المسلمين وأبنائهم.
وكان صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة لأصحابه فلقد أخذ برأي سلمان في حفر الخندق، وحينما فكر في إعطاء بني غطفان ثلث ثمار المدينة على أن يتركوا قريشًا ويرجعوا أخذ برأي الأنصار، ونزل على رأيهم حين رفضوا ما اتفق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخلال الغزوة تعلم المسلمون أحكام الصلاة إذا فات وقتها لعذر، فلقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن وأقام للظهر، وأقام بعد ذلك لكل صلاة إقامة، فصلى كل صلاة كأحسن ما كان يصليها في وقتها وبذلك كان للفوائت آذان واحد، وإقامة لكل صلاة4.
وهكذا عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الأحزاب، قائدًا للمسلمين، وداعيًا إلى الله تعالى، ومعلمًا حكيمًا، ومرجعا في الحكم والتشريع، وكان قدوة صالحة للمسلمين كما هو شأنه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص327.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص328.
3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص326.
4 في البخاري ومسلم أن المسلمين فاتتهم صلاة العصر، وفي الموطأ فاتتهم صلاة الظهر، والعصر، وفي مسند أحمد فاتتهم صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.
وطرق الجمع بين هذه الروايات أن غزوة الخندق استمرت أيامًا فكان هذا في يوم، وذلك في يوم آخر
…
إلخ.