الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الاهتمام بمعرفة الواقع العالمي
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وأسس دولة الإسلام في المدينة، وأخذ في دعوة الناس إلى الله تعالى حسب مقتضيات كل مرحلة.
وكان صلى الله عليه وسلم يعلم واقع العالم كله، ويدرك اتجاهات الأفراد، وكان الله معه يعينه على الحق، ويعرفه به إن سها عنه، أو لم يدركه.
لقد كان يعرف ما عليه الفرس والروم، ويعرف ما بينهما من حروب وأحقاد، ويعلم أن الروم أهل كتاب، وأن الفرس عبدة أوثان وأصنام، وكان الله معه يخبره بأهم ما عندهما يقول الله تعالى:{الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 1.
ووقف صلى الله عليه وسلم على كافة أحوال اليهود والمنافقين وسائر القبائل وهو في مكة قبل الهجرة، وبعد استقراره في المدينة بعد الهجرة، وكان يتعامل مع كل بما يكافئه، ويدعوهم بالأسلوب الذي يناسبهم، فإن رأى منهم غدرًا حذرهم وتعامل معهم بنفس توجيههم.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يحدث أهل الكتاب عن رسلهم وكتبهم، ويحدث القرشي عن الخالق والمخلوق، ويحادث أهل الزرع والتجارة كل ما هو فيه، وبما يتلاءم مع حياته وفكره وتلك قضية مهمة لا بد منها لنجاح الدعوة إلى الله تعالى.
لقد عاش المسلمون وسط الناس بعيونهم، وبمن آمن منهم، ولذلك كانوا على خبر دقيق بواقع الناس.
إن معرفة الواقع المعاصر ضروري للدعوة ليتحرك الدعاة وفق خطة عملية متكاملة ناتجة من تخطيط سليم.
إن التخطيط السليم بحث وعلم بالواقع، وتحديد للعمل والمنهج، ومتابعة
1 سورة الروم: 1-5.
للأعمال والنتائج.
وهذا ما لا بد منه للدعوة إلى الله تعالى في العصر الحديث.
لا يكفي تكليف الدعاة بالعمل في إقليم ما، وتركهم لشأنهم، مع أنهم لا يعرفون شيئًا عن طبيعة الإقليم، ولا عن سكانه، ولا عن الاتجاهات السائدة فيه.
لا يكفي ذلك، بل لا بد من معرفة الدعاة للبيئة التي سيدعون فيها معرفة شاملة لكافة النواحي "أناسًا، وطبعًا، وخلقًا، وتدينًا، وثقافة، وتحضرًا
…
إلخ".
وهذه أمور تقوم على البحث المتعمق، والدراسة المسبقة.
وبناء على البحث والدراسة توضع الخطة الملائمة لإبراز أولويات الدعوة والوسائل المستخدمة، والأسلوب المناسب، والكيفية المثلى لكافة الظروف التي تهم الدعوة والدعاة.
إن التمهيد لعملية الدعوة بتوضيح الجوانب المشار إليها ضرورة في عصر يعتمد على التخطيط في سائر الأعمال، وهي ضرورة يؤكدها الإسلام ويؤيدها.
فقط خطط النبي صلى الله عليه وسلم لغزواته جميعًا، ففي غزوة بدر عرض الأمر على الأنصار، وعلى المهاجرين وأخذ موقع الغزوة برأي أصحابه.
وفي غزوة أحد أخذ الرأي، وشاور الصحابة، وحدد لكل مجموعة مكانها.
وهكذا في كل خطواته صلى الله عليه وسلم.
إن الرسائل النبوية أرسلت بعد معرفة من أرسلت إليهم، لتتناسب مع فكرهم، وواقعهم، فإن كانت الرسالة مرسلة إلى أحد من أهل الكتاب فإنها تشير إلى الإيمان بعيسى كجزء من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، نقرأ ذلك في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم:"بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، أسلم فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس، السلام المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة، الحصينة، فحملت بعيسى، خلقه الله من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده". ويقول صلى الله عليه وسلم لعظيم الروم بمصر: "أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين،
فإن توليت فإنما عليك إثمك وإثم الإريسيين معك". والإريسيون هم المزارعون.
فنجده صلى الله عليه سولم يحدثهم بحديث الخبير بهم، يحدثهم عن مريم، وعن عيسى عليه السلام كما يحدث المقوقس عن المزارعين بمصر.
ونلحظ أن رسائله صلى الله عليه وسلم قد صيغت بلغة، ولهجة من أرسلت إليهم، فهذه رسالته إلى نهد قبيلة باليمن، يقول فيها صلى الله عليه وسلم:"اللهم بارك لهم في محضها، ومخضها، ومذقها وابعث راعيها في الدثر، وافجر له الصمد، وبارك له في المال والولد"1.
بل إن رسائله صلى الله عليه وسلم كانت تناسب طبائع الناس، ومنزلتهم، وتنوعهم.
ألا يدل ذلك على أهمية فهم الواقع وضرورة العلم بالناس الذين توجه إليهم الدعوة؟
وقد دلت التجارب المعاصرة على أهمية التمهيد لحركة الدعوة بمعرفة الواقع على ما هو فيه بكل صدق وتجرد؛ لأن الدعاة إذا جهلوا الواقع حين يقومون بالدعوة يصطدمون بالمستمعين بادئ ذي بدء، ولهذا أثره السيئ، كما أن عدم معرفة الواقع يؤدي إلى عدم الاستعداد له، الأمر الذي يضع الدعاة في غربة فكرية ونفسية مع من يتوجهون إليهم، ولا يمكن القول بأن دراسة الواقع، ومعرفة متطلبات الدعوة مسئولية من يكلفون بالدعوة، ويباشرونها لأن ذلك فوق مقدورهم، وأكبر من طاقتهم.
لو كان مجال الدعوة إقليمًا واحدًا لأوجبنا على الدعاة "أفرادًا" أن يبدءوا عملهم بالبحث والدراسة، ولا يباشرون الدعوة إلا بعد فهم الواقع، والإحاطة الكاملة بأحوال المدعوين.
لو كان المجال إقليمًا واحدًا لقلنا ذلك، لكنه العالم كله وحينئذ لا يستطيع التعريف به إلا هيئات ضخمة، قادرة على توظيف العلماء، وتوجيه الطاقات، والقيام بالدراسات والبحوث النظرية والميدانية وبذل ما تحتاجه من تضحيات، ومن الممكن الاستفادة بالأبحاث العملية العديدة التي تقدم من طلاب الدراسات العليا في كليات الدعوة والدراسات الإسلامية العديدة وبخاصة تلك الأبحاث القائمة على الدراسة الميدانية، ويمكن تأسيس المعاهد البحثية لتحقيق هذه الغاية.
1 انظر كتب النبي صلى الله عليه وسلم ص518-525 من الكتاب.
لقد بذلت محاولات في العالم الإسلامي في هذا الطريق لكنها لم تكمل.
لقد حاولت جامعة الأزهر في أوائل الستينات من القرن العشرين تأسيس معهد بحثي عرف بـ"معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية" تكون الدراسة فيه بلغات القارتين، ويقبل طلبته من خريج الكليات الإسلامية من جامعة الأزهر للتخصص في دراسة السكان، وبخاصة في النواحي التي تحتاجها الدعوة، على أن تكون الدراسة في السنة الأولى عامة، وفي السنة الثانية ينقسم الطلبة إلى مجموعات كل مجموعة تختص بدراسة إقليم ما للإحاطة بواقعه، واكتشاف أنحج الطرق للتوجيه إليه، والتلاؤم معه على أن تكون الدراسة، في الفصل الثاني من السنة الثانية ميدانية في الإقليم الذي يتخصص له الطالب، وبعد الانتهاء من دراسة السنة الثانية يقوم الطالب بإعداد بحث للماجستير في دعوة الإقليم التي عاش معه مدة الدراسة على أن يعمل للدعوة في الإقليم الذي أتقن لغته ودرس أحواله، وعايشه خلال المرحلة الميدانية.
ويجوز إتمام البحث العلمي خلال العمل بالإقليم ليستمر إشراف الأزهر على الطالب وعمله.
وكان المقترح أن يحصل الطالب خلال دراسته على درجة معيد بالجامعة، إلا أن الاقتراح بعد أن اجتاز خطوات عديدة توقف.
كما قررت رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة تأسيس "المعهد العالي للدعوة الإسلامية" ليقبل طلابًا من العالم الإسلامي للحصول على درجة الماجستير في الدعوة وتخريجهم دعاة إلى الإسلام ليقوموا بالدعوة في بلدهم تحت إشراف الرابطة.
وفكرة المعهد حسنة إلا أن التطبيق العملي للفكرة شابه قصور في المنهج، وفي قلة عدد الطلاب، وعدم إخلاصهم للهدف الذي قبلوا بسببه في المعهد، وعدم خبرة القائمين على التدريس، وأخيرًا تقلص المعهد ولم تبق منه إلا صورته فقط.
إن هذه المحاولات لو قامت بها هيئات كبرى تدعمه، وعلى خطوات مدروسة معد لها فقد يكتب لها النجاح.
وحتى يتم ذلك نقول للدعاة: ابدءوا عملكم بدراسة الواقع الاجتماعي للبيئة التي تقومون بدعوة أهلها، واستفيدوا بالنظريات العلمية في مجال الخدمة الاجتماعية.
والدراسات التربوية والنفسية والاجتماعية.
إن الجميع يعلم أن الدعوة إلى الله تعالى يجب أن تكون بالحكمة الدقيقة، والإحسان الخلقي في الموعظة والجدل.
وبمعرفة الواقع بكل جوانبه يتمكن الدعاة من استعمال الحكمة لمن تناسبه، ويأتون بالموعظة عند أهلها، ويكون الجدل لمن لا يفيده إلا الحوار، والنقاش، ويتوجهون بالدعوة في وقت مناسب وظروف مفيدة ولغة يفهمها من توجه لهم الدعوة.
وبذلك تتلاءم دعوتهم مع المدعوين.
إن علم الداعية بالواقع الاجتماعي يمكنه من مخاطبة محدثه بقول لائق مقبول، حدث أن المقوقس حين استلم الرسالة من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قال له: ما يمنع محمدًا إن كان نبيًا أن يدعو على من خالفه، وأخرجه من بلده؟
فرد عليه حاطب على الفور: وما منع عيسى وقد أخذه قومه ليقتلوه أن يدعو الله عليهم ليهلكهم؟
فقال المقوقس: أحسنت، حكيم جاء من عند حكيم.
فنجد حاطبًا يقنع المقوقس لأنه ارتبط في حديثه بالواقع الذي يعرفه، والحقيقة التي يعيشها المقوقس، واللغة التي يفهمها.
إن العالم اليوم مليء بالدعوات العقائدية المختلفة، والكل يحاول معارضة الإسلام ببث الشبه، ونشر الدعايات المضللة الظالمة.
وأغلب الشبه دونها المستشرقون، وكتبها المبشرون، وتحدث عنها العلمانيون ويثيرها اليوم المتنورون والإحاطة بها أمر ميسور.
ومن الممكن تناول هذه الشبه بالتحليل والرد عليها بطريقة علمية هادئة لتفنيدها وإثبات الحق في كل مسألة منها بمختلف وسائل الدعوة والتوجيه مثل المؤلفات العلمية والمحاضرات والنشرات، والدروس، والخطب، والحوار، وهكذا.
ويمكن الاستفادة بمؤلفات العلماء وأبحاث الدارسين الإسلاميين، وتوجيههم نحو
هذا المجال الهام.
إن المستشرقين بذلوا جهودًا ضخمة وأخرجوا مؤلفات عديدة بمساندة المراكز العلمية التالية:
1-
كراسي اللغات الشرقية التي أنشئت في سائر الجامعات الأوربية وتضم أعدادًا غفيرة من الأساتذة، والمحاضرين، والمعيدين ولهم رصيد ضخم من الدراسات المختلفة.
2-
المكتبات الشرقية وهي تضم المؤلفات والمخطوطات باللغات المختلفة، وقد تنوعت هذه المكتبات، فمنها ما هو تابع للحكومات، ومنها ما هو تابع للجامعات ومنها ما هو تابع للعلماء، ولجميع هذه المكتبات فهارس شاملة وإصدارات هذه المكتبات مستمرة وغزيرة.
3-
الجمعيات الآسيوية والشرقية وهي نواد للعلماء المهتمين بالعلوم الشرقية، وتصدر المجالات الدورية وتنشر مؤلفات الأعضاء ولهذه النوادي مسميات عديدة، وهي تنتشر بين الأغنياء والخاصة من الناس في كل بلاد العالم الإسلامي.
وللمبشرين أيضًا مؤسساتهم الضخمة فالكنيسة لها دعاتها، وبابا الفاتكيان رئيس دولة مستقلة تشرف على الكنائس وتوجه المبشرين.
إن الكنائس المسيحية بمختلف مذاهبها تقوم بالتبشير بالنصرانية، وتحاول دائمًا الاستفادة بالسلبيات التي تجدها بين الناس كالفقر، والجهل، والمرض، والتخلف، ولها نشاطها في مجال الإعلام والاتصال والتعليم، والطب وغيرها.
وللكنائس نظامها في اختيار كوادرها، وتدريبهم، والإشراف عليهم بصورة مستمرة.
وقد قامت الدول المسيحية بتوجيه من رجال الكنيسة بتأسيس مدارس في البلاد الإسلامية وغيرها لنشر ثقافة وفكر دول التأسيس، وفيها ما فيها من بعد عن الإسلام وثقافته.
هذه المؤسسات الضخمة للمستشرقين والمبشرين وتلك التي تقوم بها الكنيسة
تحتاج إلى جهد يكافئها، ليقف الدعاة المسلمون أقوياء بدينهم الحق، وبالتدعيم الذي يساندهم.
لقد تكلم المستشرقون في كل جزئية إسلامية، والواجب أن تكون الردود شاملة وقوية، وبخاصة أن وسائل الاتصال لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا وبثتها في العالم كله.
وللمسلمين من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبرة وتوجيه؛ لأن الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك سؤالا لمعترض إلا وأجابه، ولم يشاهد أمرًا إلا وشرح حقيقته لأصحابه، ولم ينزل عليه وحي إلا وبلغه للناس على وجه مفهوم، وإقناع تام، ولم يترك مسألة على خفائها، ولم يدع مدخلا للشيطان إلا وسده، ونصح أمته بما يجب عليهم.
لقد بث النبي صلى الله عليه وسلم عيونه في كل مكان، ولذلك كان يفاجئ أعداءه إذا عملوا على العدوان على المسلمين، وكان يرسل الدعاة الفاهمين إلى أي مكان يحتاج إليه.
وهذا الشأن يدعو الأمة إلى ضرورة العلم والعمل، وأهمية التخطيط والتحرك مستفيدين بمستجدات العصر، ومخترعات العقول، في إطار المشروعية الدينية.