الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: سماحته صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجاوب مع جلسائه، ويتساهل معهم، ويشاركهم الحال والقال، فإذا تحدثوا بأمر شاركهم في حديثهم ما لم يكن إثمًا.
فعن خارجة بن زيد رضي الله عنه أن نفرًا دخلوا على أبيه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقالوا: حدثنا ببعض حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: وما أحدثكم؟ كنت جاره صلى الله عليه وسلم فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّفآتيه، فأكتب الوحي، فكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، كل هذا أحدثكم عنه صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت، قليل الضحك، وكان أصحابه يذكرون عنده الشعر وأشياء من أمورهم في الجاهلية فيضحكون، وربما تبسم معهم1.
وروى مسلم عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة رضي الله عنه: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال جابر: نعم كثيرًا! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون، ويبتسم صلى الله عليه وسلم2.
يقول عبد الله بن زيد: ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم3. ويقول عبد الله بن الحارث: ما كان ضحك رسول الله إلا تبسمًا4.
وكان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه، لإدخال السرور عليهم، ليباسطهم، وليهتدوا بهديه، ويتخلقوا بخلقه، فلو أنه صلى الله عليه وسلم ترك الطلاقة مع أصحابه، والمباسطة معهم، ولزم العبوس، والانقباض، لألزم الصحابة أنفسهم بذلك، وكذلك التابعون من بعدهم، فمزح صلى الله عليه وسلم ليمزحوا، ولكنه صلى الله عليه وسلم بين لهم أنه لا يقول في مزاحه إلا حقا، فلا يأتي بباطل ولا بعبث أو بلعب.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا -أي ليلاطفنا ويمازحنا- حتى يقول لأخ لي:
"يا أبا عمير ما فعل النغير"5.
يروي الإمام أحمد بسنده عن أنس رضي الله عنه أن رجلً من أهل البادية كان اسمه
1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد باب في حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ج8 ص578.
2 صحيح مسلم بشرح النووي. ك الفضائل. باب تبسمه صلى الله عليه وسلم ج15 ص176.
3 سنن الترمذي باب في بشاشة النبي صلى الله عليه وسلم ج5 ص601 والحديث حسن غريب.
4 سنن الترمذي باب في بشاشة النبي صلى الله عليه وسلم ج5 ص601.
5 سنن الترمذي باب في المزاح ج4 ص357.
زاهرًا، وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى البادية إثابة على هداياه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، ويداعبه، ويقول:"إن زاهرًا باديتنا ونحن حاضروه". وكان زاهر رجلا دميما، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يومًا وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، وهو لا يبصره.
فقال زاهر: من هذا؟ أرسلني!!
فالتفت زاهر فعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يشتري هذا العبد"؟.
فقال: يا رسول الله إذا والله تجدني كاسدًا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكنك عند الله لست بكاسد أنت عند الله غال"1.
ومن جملة ما ورد في مزاحه صلى الله عليه وسلم، ما ورد عن أنس رضي الله عنه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله -أي يطلب منه دابة- فقال له صلى الله عليه وسلم: "إني حاملك على ولد الناقة". فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصنع بولد الناقة؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "وهل يلد الإبل إلا النوق"؟ 2.
وجاءت امرأة فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم احملني على بعير.
فقال صلى الله عليه وسلم: "احملها على ابن بعير".
فقالت: ما أصنع به؟ وما يحملني يا رسول الله؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "وهل يجيء بعير إلا ابن بعير".
وروى ابن بكار عن زيد بن أسلم أن امرأة يقال لها أم أيمن الحبشية، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي يدعوك.
فقال: "من هو؟ أهو الذي بعينيه بياض".
فقالت: ما بعينيه بياض.
1 الفتح الربابي لتحقيق مسند الإمام أحمد الشيباني ج22 ص239.
2 سنن الترمذي باب في المزاح ج4 ص357.
فقال صلى الله عليه وسلم: "بلى بعينيه بياض".
فقالت: لا والله.
فقال صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد إلا بعينيه بياض". يريد البياض المحيط بالحدقة.
ومن ذلك ممازحته للمرأة العجوز التي جاءته ترغب في الجنة، يروي الترمذي بسنده عن الحسن البصري رضي الله عنه قال: أتت عجوز النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يدخلني الجنة.
فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز". فولت وهي تبكي.
فقال صلى الله عليه وسلم: "أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز"1. والله تعالى يقول {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، عُرُبًا أَتْرَابًا} 2.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يبتسم في وجوه أصحابه حين يلقاهم، وفي حديثه إليهم، تلطفًا بهم، ومؤانسة لهم.
يقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم3.
وروى الترمذي وغيره عن هند بن أبي هالة في حديثه يصف النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: جل ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حب الغمام، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان يضحك ضحكًا حسنًا، كاشفًا عن سن مثل حب الغمام -وهو البرد- في البياض والصفاء والبريق4.
وعن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسمًا وكان صلى الله عليه وسلم يضحك أحيانًا حتى تبدو نواجذه5.
1 سنن الترمذي.
2 سورة الواقعة: 35-37.
3 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج8 ص78.
4 سنن الترمذي.
5 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج8 ص78.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا، رجل يخرج منها زحفًا، فيقول: يا رب قد أخذ الناس المنازل، فيقال له: انطلق فادخل الجنة، فيذهب ليدخل فيجد الناس قد أخذوا المنازل، فيرجع فيقول: يا رب قد أخذ الناس المنازل، فيقال له: أتذكر الزمان الذي كنت فيه؟
فيقول: نعم.
فيقال له: تمن. قال: فيتمنى، فيقال له: فإن لك ما تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا.
فيقول: أتسخر بي وأنت الملك"، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه"1.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار وآخر أهل الجنة دخولا الجنة، يؤتي برجل فيقول: سلوا عن صغار ذنوبه واخبئوا كبارها، فيقال له: عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا، عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول يا رب لقد عملت أشياء ما أراها هاهنا". يقول أبو ذر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه2.
وأخرج الإمام أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها، أن أبا بكر رضي الله عنه خرج إلى بصرى ومعه النعيمان وسويبط بن حرملة رضي الله عنهما وكلاهما بدري، وكان سويبط على الزاد، فقال له النعيمان: أطعمني.
فقال سويبط: حتى يجيء أبو بكر.
وكان النعيمان ضحاكًا، مزاحًا، فذهب إلى أناس جلبوا ظهرًا -أي إبلا- فقال لهم النعيمان: أتبتاعون -أي تشترون- مني غلامًا -أي عبدًا- عربيًا فتيًا، فارهًا؟
1 سنن الترمذي كتاب صفة جهنم ج 4 ص712.
2 سنن الترمذي كتاب صفة جهنم ج 4 ص713.
قالوا: نعم.
قال: إنه ذو لسان، ولعله يقول: أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك، فدعوني لا تفسدوه علي.
فقالوا: بل نبتاعه، فابتاعوه بعشر قلائص -أي نوق شابة- فأقبل ليسوقها وقال لهم: دونكم هو هذا.
فقال سويبط: هو -أي النعيمان- كاذب، أنا رجل حر.
فقالوا قد أخبرنا خبرك، فطرحوا الحبل في رقبته، فذهبوا به فجاء أبو بكر فأخبر، فذهب هو وأصحابه إليهم، فردوا القلائص وأخذوه، ثم أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فضحك هو وأصحابه حولا أي كلما تذكروا هذه الفعلة1.
ومن ذلك ضحكه صلى الله عليه وسلم من الأمر العجيب يبلغه.
روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت سلمى امرأة أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي رافع وقالت: إنه ليضربني.
فقال صلى الله عليه وسلم: "ما لك وما لها"؟.
قال: تؤذيني يا رسول الله.
قال: "بما آذيتيه يا سلمى"؟.
قالت: ما آذيته بشيء، ولكنه أحدث وهو يصلي، فقلت له: يا أبا رافع إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر المسلمين إذا خرج من أحدهم ريح أن يتوضأ، فقام يضربني، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول:"يا أبا رافع لم تأمرك إلا بخير"2.
وسئل ابن عمر رضي الله عنه: هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون؟
فقال: نعم وإن الإيمان في قلوبهم أمثال الجبال.
وقد صنع خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ترابطًا معهم تميز بالحب والتقدير.
1 مسند أحمد.
2 مسند أحمد.
والتعظيم، وكانوا رضوان الله عليهم كالفراش يتجمع حول النور تعلقًا وعشقًا.
إن هذا الحب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نابع من قوة إيمانهم، وصدق يقينهم الذي أودع في قلوبهم توقير صاحب الرسالة التي أخرجتهم من الظلمات إلى النور، فأقروا بما له صلى الله عليه وسلم من فضل عليهم.
يؤكد هذا الحب كريم خلقه صلى الله عليه وسلم وعظمته، فقد استطاع صلى الله عليه وسلم بالحب أن يجمع القلوب من حوله، وإن يملأها بالصدق، ولو كان بغير هذا الخلق لانفضوا من حوله يقول الله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} 1.
لقد رأينا كثيرًا من الرؤساء والملوك تنهال عليهم الأسنة، وتنالهم الأقلام ويتعرضون لحملات ضاربة من النقد والتجريح، والاتهام والإشاعات، بمجرد بعدهم عن سلطانهم وانتقال القوة إلى غيرهم وذلك لأنهم لم يعملوا بالإقناع والحب ولم ينشروا بين الناس قيم العدل والتسامح والتكريم، وإنما اغتروا بالقوة والجاه، وأهملوا حقوق الناس، ولجئوا إلى البطش والإرهاب، فلما ذهبوا ذهب كل شيء معهم.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد ملأ الدنيا بالخير، وأقنع العقول بالحق، وفاض خلقه على الناس فتعلموا بالسماحة، والرضى، والحب، والكرم ودخلوا في الإسلام راضين وسعداء، ويكفي ما في قلوب الملايين من أتباعه صلى الله عليه وسلم من حب صادق، وإخلاص كبير.
1 سورة آل عمران: 159.