الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول أنس رضي الله عنه كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع به إهالة سخنة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتن.
يقول أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا أمامه بطوننا عن حجر حجر فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين.
وأثناء حفر الخندق عرض الرسول صلى الله عليه وسلم الغلمان فأجاز منهم عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب لبلوغهم خمسة عشر عامًا كاملة، ورد من هم دون ذلك، إلا أنه صلى الله عليه وسلم سمح لهم بالاشتراك في حفر الخندق، وعادوا بعدها إلى المدينة.
واصل المسلمون عملهم في الحفر، فكانوا يعملون بالنهار، ويذهبون للمبيت في بيوتهم ليلا حتى أتموا الحفر.
وعندما وصل الأحزاب قرب المدينة فوجئوا بالخندق يمنعهم من دخول المدينة، فأخذوا يدورون حوله ليعثروا على نقطة ضعف، أو مكان ضيق يجتازونه فلم يجدوه، فأسقط في أيديهم فوقفوا على شاطئ الخندق، مكتفين بالحصار بدل القتال.
رابعًا: سير القتال
عسكر الأحزاب في الجهة الشمالية من الخندق، ووقف المسلمون قبالتهم من الجهة الجنوبية، وجعلوا ظهورهم إلى جبل "سلع" وبذلك تمكن المسلمون من منع الأحزاب من القفز على الخندق، أو بناء قنطرة يعبرون فوقها إلى المدينة وقد بلغ عدد المسلمين أربعة آلاف مقاتل.
وفي أثناء ذلك أعلن بنو قريظة انضمامهم إلى معسكر الأحزاب، وكان يسكنون في ضواحي المدينة من الناحية الجنوبية، وبإمكانهم التسلل إلى داخل المدينة، لمعرفتهم السابقة بمسالكها وأهلها، ولو قدر لليهود أن ينجحوا في مهاجمة المدينة وإتيان المسلمين من ظهورهم لكانت ضربة أليمة للمسلمين.
لقد عمل اليهود على مهاجمة تجمع نساء المسلمين وأطفالهم فأرسلوا رجلا منهم يحدد مكانهم ويعرف غرتهم ويكتشف الطريق إليهم، لكن هذا اليهودي لم يتمكن من القيام بمهمته لأن امرأة مسلمة رأته يستطلع المواضع التي يوجد فيها النساء والأطفال ففاجأته
بضربة فوق رأسه بخشبة كانت معها فقتلته.
يقول ابن إسحاق: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت وهي التي روت الحادثة حيث قالت: وكان حسان معنا في الحصن مع النساء والصبيان فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم، ولا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا، إذا أتانا آت فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَن وراءنا من يهود، وقد شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله.
قال حسان: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا تقول صفية: فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئًا احتجزت ثم أخذت عمودًا، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل فاستلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل.
قال حسان: ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب1.
وعندما وجد يهود "بني قريظة" أن دسيستهم لم تعد إليهم ظنوا وجود حراس، ورجال مع النساء والأطفال فقبعوا في بيوتهم، وانصرفوا عن مهاجمة المدينة، ولم يخرجوا إلى قتال، واكتفوا بمد الأحزاب بالمؤن والطعام.
ولما علم المسلمون وهم عند الخندق، بمقتل هذا اليهود ملكهم الخوف على نسائهم وذراريهم، ووجدوا أنفسهم أمام عدو يواجهونه في الخندق، وآخر يأتيهم من خلف ظهورهم، فزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتوقعوا هزيمة مفاجئة.
وهنا فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، وأراد أن يضع له حلا فبعث إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة.
1 سيرة النبي ج2 ص227، 228 وهذا حديث متصل صحيح ومع ذلك فإنه لا يدل على جبن حسان رضي الله عنه ويرجع سبب عدم خروجه لاعتلال صحته هذا اليوم وهو سبب بقائه خلف المجاهدين، ويرد البعض الحديث لعدم جبن حسان لأنه رضي الله عنه لو كان جبانًا لهجاه الشعراء بهذه الصفة، ولكن أحدًا لم يعارضه بهذه الصفة.
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين "سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة" فذكر لهما ذلك، واستشارهما فيه.
فقالا: يا رسول الله هل هذا أمر أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم أنه شيء تصنعه لنا؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم".
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله، وعبادة الأوثان لا نعبد الله، ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة، إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا، وأعزنا بك، وبه نعطيهم أموالنا؟
ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت وذاك".
فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال ليجهدوا علينا1.
فأقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محاصرين، ولم يكن بينهم وبين عدوهم قتال إلا أن بعض رجال من قريش منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أحد بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، وضرار بن الخطاب بن مرداس أحد بني محارب بن فهر تحمسوا للقتال، ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا بخيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانًا من الخندق ضيقًا، فضربوا خيلهم، فاقتحمته فجالت بهم في السبخة بين الخندق، وسلع.
وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى سدوا الثغرة التي اقتحم الفرسان منها خيلهم.
1 زاد المعاد ج3 ص273، سيرة النبي ج2 ص222.
وأقبلت الفرسان في عزيمة وقوة وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم "بدر" حتى ثبتته الجراحة، فلم يشهد "أحدا" فلما كان يوم "الخندق" خرج معلمًا ليرى مكانه فلما خرج هو وخيله قال: من يبارز؟
فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه.
قال: أجل.
قال له علي: فإني أدعوك إلى الله، وإلى رسول الله، وإلى الإسلام.
قال: لا حاجة لي بذلك.
قال: فإني أدعوك إلى النزال.
قال له: لم يابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك.
قال له علي: لكني والله أحب أن أقتلك.
فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي رضي الله عنه فتنازلا، وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه، وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت الخندق وولت هاربة إلى حيث يوجد الأحزاب1.
ثم أقبل علي رضي الله عنه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلل، فقال له عمر بن الخطاب: هلا استلبته درعه فإنه ليس للعرب درع خير منها؟
فقال علي رضي الله عنه: ضربته فاتقاني بسوءته، فاستحييت من ابن عمي أن أسلبه، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال:"هو لكم لا نأكل ثمن الموتى". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية". ولم يقبل منهم شيئًا2.
تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف إلى ثلمة في الخندق يحرسها حتى إذا آذاه البرد جاءني فأدفأته في حضني، فإذا دفئ خرج إلى تلك الثلمة، ويقول: "ما
1 مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص285، 286.
2 إمتاع الأسماع ج1 ص234.
أخشى أن يؤتى الناس إلا منها". فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حضني قد دفئ وهو يقول: "ليت رجلا صالحًا يحرس هذه الثلمة الليلة". فسمع صوت السلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا"؟.
فقال سعد بن أبي وقاص: سعد يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: "عليك هذه الثلمة فاحرسها".
تقول عائشة: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى سمعت غطيطه.
وكان عباد بن بشر، والزبير بن العوام، على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى محمد بن عمر عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وكنا في قر شديد، فإني لأنظر إليه ليلة قام فصلى ما شاء الله أن يصلي في قبته، ثم خرج فنظر ساعة فأسمعه يقول:"هذه خيل المشركين تطيف بالخندق ". ثم نادى عباد بن بشر.
فقال عباد: لبيك!
قال: "أمعك أحد"؟.
قال: نعم، أنا في نفر من أصحابي نحرس قبتك.
قال صلى الله عليه وسلم: "خذ أصحابك فأطف بالخندق، فهذه خيل المشركين تطيف بكم، يطمعون أن يصيبوا منكم غرة، اللهم فادفع عنا شرهم، وانصرنا عليهم واغلبهم فلا يغلبهم أحد غيرك".
فخرج عباد في أصحابه فإذا هو بأبي سفيان بن حرب في خيل المشركين يطوفون بمضيق من الخندق، وقد نذر بهم المسلمون فرموهم بالحجارة والنبل حتى أذلقهم المسلمون بالرمي، فانكشفوا منهزمين إلى منازلهم.
قال عباد: ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يصلي فأخبرته.
قالت أم سلمة: يرحم الله عباد بن بشر، فإنه كان ألزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبته يحرسها أبدًا.
وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يومًا، ويغدو خالد بن الوليد يومًا، ويغدو عمرو بن العاص يومًا، ويغدو هبيرة بن أبي وهب
يومًا، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يومًا، ويغدو ضرار بن الخطاب يومًا، حتى عظم البلاء، وخاف الناس خوفًا شديدًا، وكان معهم رماة يقدمونهم إذا غدوا، متفرقين أو مجتمعين بين أيديهم: وهم حبان بن العرقة، وأبو أسامة الجشمي في آخرين، فناوشوا يومًا بالنبل ساعة، وهم جميعًا في وجه واحد وجاه قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بسلاحه على فرسه، فرمى حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله، وقال: خذها وأنا ابن العرقة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرق الله وجهه في النار".
ثم إن الأحزاب عبئوا قوتهم، واشتدوا في القتال بدءًا من السحر إلى هوى من الليل حتى شغل النبي والمسلمون معه عن صلاة الظهر، والعصر، ولم يتمكنوا من صلاتهما إلا بعد أن كشف الله الأحزاب1.
واستمر الحصار مدة طويلة قاربت شهرًا فتأثر جيش المشركين، وخارت معنوياته وأصيب بالألم من الوضع الذي وجد فيه نفسه.
فهو لم يفعل شيئًا طوال هذه المدة، ولم يحقق نتيجة تذكر وهو يعيش في جو شديد البرودة، ومؤنة بدأت في النفاذ واستمرارية هذا الوضع لا تتفق مع استعداداته وخبرته، لأنه جاء للقتال يومًا أو بعض يوم، وليس من خبرته التعامل من وراء الخندق والبقاء ساكنًا في مكان واحد مدة طويلة.
وهو لم ير من اليهود شيئًا يساعد على تغيير هذا الوضع، بعدما أمل منهم مهاجمة النساء والأطفال لينصرف المسلمون أو بعضهم للدفاع عن ذراريهم، فتتخلخل الجبهة ويتمكن القرشيون من اقتحام الخندق، ومهاجمة المدينة.
وبدأت علائف خيل وإبل القرشيين تنفذ فاستعانوا باليهود فأعانوهم بما طلبوا، غير أن الله جعلها للمسلمين، ذلك أن أبا سفيان قال لحيي بن أخطب: قد نفدت علافتنا فهل عندكم من علف؟
فقال حيي: نعم مالنا مالك فأصنع ما رأيت، مر القوم يأتوا بحمولة فيحملوا ما
1 المغازي ج2 ص469.
أرادوا، فأرسلوا عشرين بعيرًا، فحملوها شعيرًا، وتمرًا، وتبنًا، وخرجوا بها إلى قريش حتى إذا كانو بـ"صفنة"1، وهم يريدون أن يسلكوا "العقيق" قابلوا جمعًا من بني عمرو بن عوف، وهم عشرون رجلا، فيهم أبو لبابة بن عبد المنذر، وعويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، خرجوا لميت لهم مات منهم في حصنهم ليدفنوه فناهضوا الحمولة وقاتلهم القرشيون ساعة وكان فيهم ضرار بن الخطاب فمنع الحمولة ثم جرح فغلبهم المسلمون وأخذوا الإبل بحمولتها، وانصرفوا بها يقودونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما دفنوا ميتهم، وفكان أهل الخندق يأكلون منها، فتوسعوا بذلك وأكلوه حتى نفد، ونحروا من تلك الإبل أبعرة الخندق، وبقي منها ما بقي حتى دخلوا به المدينة.
فلما رجع ضرار بن الخطاب إلى القرشيين أخبرهم الخبر.
فقال أبو سفيان: إن حييًا لمشئوم، ما أعلمه إلا قطع بنا، ما نجد ما نتحمل عليه إذا رجعنا2 ثم إن الله عز وجل وله الحمد- صنع أمرًا من عنده خذل به العدو، وهزم جموعهم، وفل قوتهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلا من غطفان يقال له "نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي رضي الله عنه" جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة".
فذهب من فوره إلى بني قريظة -وكان عشيرًا لهم في الجاهلية- فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودى إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم.
قالوا: صدقت.
قال: فإن قريشًا ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم، وأبناؤكم ونساؤكم لن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم، وتركوكم ومحمدًا فينتقم منكم.
قالوا: فما العمل يا نعيم؟
1 صفنة بفتح الصاد وسكون الفاء.
2 المغازي ج2 ص470.
قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن.
قالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش، وقال لهم: تعلمون ودى لكم ونصحي لكم؟
قالوا: نعم.
قال: إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك.
فلما كانت ليلة سبت من شوال بعث الأحزاب إلى اليهود وقالوا لهم: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدًا، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم هو يوم سبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فلما جاءتهم رسلهم بذلك، قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى اليهود: إنا والله لا نرسل إليكم أحدًا، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدًا1.
قالت قريظة: صدقكم والله نعيم.
فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم، وسرى بينهم التخاذل، ثم أرسل الله عليهم جندًا من الريح، فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدرًا إلا كفأتها، ولا طنبًا إلا قلعته، كما أرسل الله سبحانه وتعالى جندًا من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف، فلم يقر لهم قرار، وشعروا بالهزيمة، وبدءوا في الرحيل إلى مكة2.
يروي ابن كثير صورة الساعات الأخيرة للمشركين عند الخندق فيقول: ذكر حذيفة أحوال المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا، وفعلنا.
1 زاد المعاد ج3 ص273، 274.
2 سيرة النبي ج2 ص231.
فقال حذيفة: لا تتمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحًا منها في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه فيها.
فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون إن بيوتنا عورة وما هو بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، وحين يأذن لهم يتسللون ويرجعون.
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبلنا رجلا رجلا، حتى أتى عليّ وما عليّ جنة من العدو ولا من البرد، إلا مرط لمرأتي ما يجاوز ركبتي فأتاني وأنا جاث على ركبتي.
فقال صلى الله عليه وسلم: "من هذا".
فقلت: حذيفة!
فقال: "حذيفة".
فتقاصرت للأرض فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم.
فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه كائن في القوم خبر فأتى بخبر القوم". وأنا من أشد الناس فزعًا وأشدهم قرًا فخرجت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته".
يقول حذيفة: فوالله ما خلق الله فزعًا، ولا قرًا في جوفي، إلا خرج من جوفي، فلم أجد فيه شيئًا.
فلما وليت قال صلى الله عليه وسلم: "يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئًا حتى تأتيني".
فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم، نظرت ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم، يشير بيديه على النار، ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل.
ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهمًا من كنانتي، أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرمي به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحدثن فيهم شيئًا حتى تأتيني". فأمسكت، ورددت سهمي إلى كنانتي.
ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل. الرحيل، لا مقام لكم.
وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرًا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم، وفرشهم، الريح تضرب بها.
ثم إني خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتصفت في الطريق، أو نحو من ذلك، إذ أنا بنحو من عشرين فارسًا، أو نحو ذلك معتمين، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاه، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل على شملته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يرحلون1.
فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظهم، لم ينالوا خيرًا وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
ولما رحل المشركون رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان رجوعه صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه من الخندق في يوم الأربعاء السابع من ذي القعدة من العام الخامس الهجري، وسر المسلمون برجعوهم منتصرين، وأسرعوا إلى المدينة هربًا من القر والجوع، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السرعة حتى لا يظن المنافقون والأحزاب بهم ضعفًا.
وقد استشهد من المسلمين ستة شهداء وهم: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عتمة، وكعب بن زيد النجاري رضي الله عنهم، ورحمهم وقتل من المشركين ثلاثة وهم: منبه بن عثمان، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، وعمرو بن عبد ود، ولم يشترك المنافقون في قتال؛ لأنهم كانوا بادين في الأعراب خارج المدينة2.
إن معركة الأحزاب كانت هجمة شرسة من كافة مشركي الجزيرة العربية، وعلى رأسهم القرشيون الذين جاءوا إلى المدينة، ومعهم خبرة الغزوات السابقة، فكثروا العدد، وقصدوا اقتحام المدينة، والقضاء على أهلها، وإعادة اليهود إليها مرة أخرى.
1 البداية والنهاية ج4 ص114، 115 وانظر الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج21 ص80.
2 البداية والنهاية ج4 ص115، 116 وقد عاش سعد بن معاذ بجراحه حتى انتهى المسلمون من بني قريظة.
لكن الله تعالى وفق المسلمين بحفر الخندق، ووضع النساء والأطفال في أماكن حصينة وسط المدينة فانقلب الأمر، ولم يحقق المشركون شيئًا من أهدافهم بل إنهم شعروا بضعفهم وتأكدوا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه في رعاية الله تعالى، بعدما عجزوا بهذا الجمع الذي لن يتمكنوا من جمعه مرة أخرى، وقد رأوا كيف أيد الله سبحانه وتعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يتوقعوه من ريح عاتية، وأعاصير مدمرة، وجدت حول الخندق فقط، وملائكة رأوا أثارهم.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصراف الأحزاب: "الآن نغزوهم، ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم"1.
وقد كتب أبو سفيان كتابًا أرسله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه: "باسمك الله، فإني أحلف باللات والعزى، لقد سرت إليك في جمعنا، وإنا نريد ألا نعود أبدًا حتى نستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري من علمك هذا؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يوم كيوم أحد"2.
فلما قرأها أبي بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبته، كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من محمد رسول الله إلى أبي سفيان بن حرب، أما بعد، فقديمًا غرك بالله الغرور، أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة حتى لا تذكر اللات والعزى، وأما قولك: من علمك الذي صنعنا من الخندق؟ فإن الله ألهمني ذلك لما أراد من غيظك وغيظ أصحابك، وليأتين عليك يوم تدافعني بالراح، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى، وإساف، ونائلة، وهبل، حتى أذكرك ذلك"3.
1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب الخندق ج6 ص326.
2 المغازي ج2 ص492.
3 وفاء الوفاء ج2 ص344 المغازي ج2 ص493.