الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا: دين كامل
استمر الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مكة ثلاثة عشر عامًا، مكتفيًا خلالها بالدعوة إلى العقيدة؛ لأنها أساس البناء الإسلامي، والركيزة الكبرى لإقامة المجتمع المسلم.
إن التنشئة الصحيحة تعتمد على العقيدة لاتصالها بالجانب الباطني في الإنسان ومن المعلوم أن الإنسان يتميز عن سائر الكائنات بهذا الجانب الهام، إذ به يتم التصور ويكون التصديق، وأي عمل خارجي ظاهر يحتاج إلى قرار باطني والإنسان الحر يعمل بما يؤمن به، ويتفق ظاهره مع باطنه دائمًا والمنافقون والضعفاء والمرضى والأرقاء هم الذين يفعلون عكس ما ينطقون، ويبطنون غير ما يظهرون وهذا حال يأباه دين الله تعالى.
إن الإنسان يقوده عقله، وهو الذي يسهل أمام صاحبه الصعب بعد اقتناعه ورضاه، وكثيرًا ما رأيناه من يقدم على إفناء الجسد وهو به راض سعيد، بصدور القرار من باطن مؤمن بفعل صاحبه.
لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي المسلمين بالعقيدة حتى صفت نفوسهم، وسكن الإيمان قلوبهم، وصاروا عبيدًا للمعبود، واستسلموا لربهم الخالق العظيم، وحينئذ أتتهم الشريعة جزءًا جزءًا حسب أحوالهم، وحاجاتهم فأسرعوا إلى التطبيق، والالتزام العملي الدقيق.
لم يحدث مرة أن ترددوا في تنفيذ أمر أمروا به أو توقفوا عن ترك عمل أمروا بتركه ولو كان العمل هو حاجتهم، وكل نشاطهم.
والإيمان بالعقيدة هو الذي كون الجماعة الإسلامية الأولى في مكة قبل الهجرة.
ولم يكن عجبًا أن دار القرآن المكي كله حول بيان حقيقة العقيدة، وتوضيح أركانها، والاستدلال عليها بمختلف الأدلة لأنه بذلك صنع الأمة، وحقق في عالم الناس المجتمع الإسلامي العظيم.
فلما تمت الهجرة بدأت التشريعات تنزل، وأخذت التكاليف الإلهية تظهر، والمسلمون يسارعون إلى الطاعة والتنفيذ، ولذلك لم يكرر القرآن الكريم توجيهاته كثيرًا في أمر شرعي واحد ولم يدلل على حقيقتها، ولم يبرهن على أحقيتها، بل كان يكتفي غالبًا بمجرد الأمر أو النهي.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يترقبون الأمر ليتحول سريعًا إلى العمل، وإذا تضمن التوجيه نهيًا يظهر أثره قولا، ويختفي المنهي عنه حالا، وقد شملت التوجيهات الشرعية كافة الجوانب العملية في حياة الأفراد وسائر الناس.
وكانت مسارعة المسلمين للتلقى سببًا لتوجههم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون قوله وعمله، ويسألونه عما لا يعرفون، ويسمعون منه ما يريده صلى الله عليه وسلم وما ينزل عليه.
لقد تعلم الصحابة العقيدة، وآمنوا بها وهم في مكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة.
فلما تمت الهجرة بدأ الوحي يوضح الإحكام الشرعية لأفعال الناس واستمر ذلك حتى تمت الشريعة، فتم الإسلام بذلك وكمل الدين، ونزل قول الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 1.
إن الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول:
الأحكام الشرعية المحددة المعروفة، وهي المتصلة بالعبادات المشروعة كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، وأحكام هذه العبادات مفصلة بأدلتها الشرعية وكذلك أحكام النكاح، والميراث، والفرق بين الزوجين، إلى غير ذلك مما ورد مفصلا في شريعة الإسلام.
ومن المعلوم أن الصلاة شرعت في ليلة الإسراء والمعراج على نحو ما سبق ذكره. وكان ذلك قبل الهجرة، ولم يتمكن المسلمون من إقامتها في جماعة، وكانوا يؤدونها
1 سورة المائدة: 3.
في البيت الحرام، والكعبة محاطة بالأصنام والأوثان، فلما كانت الهجرة تأسس مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في الإسلام يقول الله تعالى فيه:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 1، وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه في هذا المسجد جماعة، وأقاموا به أول جمعة في الإسلام.
وبالنسبة للزكاة فقد شرعت بعد الهجرة بخمسة أشهر في إطار المواخاة التي نظمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار2.
وبالنسبة للصوم فقد شرع بعد الهجرة بثمانية أشهر بعد تحويل القبلة بشهر واحد، ومع تشريع الصوم شرعت زكاة الفطر، كما شرع الحج لما تيسر أداؤه بعد الحديبية، واستمرت أحكام هذه العبادات تنزل تباعًا، فكلما جد أمر نزل حكمه، وعندما يحتاج المسلمون لحكم جاء الوحي به.
القسم الثاني:
الأحكام الشرعية للعبادات غير المحددة وهي تشمل سائر أنشطة الإنسان في الحياة؛ لأن لكل جزئية حياتية حكم شرعي يضبطها.
وأنشطة الإنسان ليست ثابتة، ولكنها متغيرة متجددة، وللإيمان دخل فيها، فحياة الإنسان ومعايشه في تطور دائم، ولذلك قضت حكمة الله تعالى أن تنزل أحكام هذه العبادات في صورة مبادئ كلية، وقواعد عامة، حتى يتمكن العلماء من أخذ أحكام الحوادث الجديدة من القواعد والمبادئ وفق أصول علمية، وتبعًا لضوابط إسلامية لا بد منها في أي حكم مستنبط.
وفي إطار أحكام هذا القسم لا يمكن تصور مسألة ما بلا حكم شرعي إسلامي، وبذلك كان صلاح الإسلام لكل زمان ومكان.
لقد تم الإسلام في المدينة بعد الهجرة بعناصره جميعًا، وبرزت الأحكام الشرعية بجانب أحكام العقيدة، وتكامل حسنهما معًا بالأخلاق الإسلامية الكريمة.
1 سورة التوبة: 108.
2 الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لابن كثير ص56.
وقد تميز الإسلام بمزايا عديدة، من أهمها ما يلي:
1-
مراعاة الفطرة البشرية:
الفطرة هي الطبيعة الأولى التي خلق الله الإنسان عليها، والجبلة الحقيقية التي يتكون منها، والإسلام يراعي هذه الفطرة، وينميها، ويمكنها من مسارها الصحيح، وذلك ملحوظ في دوران كافة الأحكام الشرعية في إطار الطاقة البشرية، فلا يأمر الإسلام بمستحيل فعله، ولا ينهى عن فعل مستحيل تركه، بل كل ما جاءت به الشريعة يمكن عمله وتنفيذه، كما أن الاستقامة عليه تريح النفس، وترضيها.
إن الفطرة تجد راحتها حينما تصدق في طاعة دين الله تعالى، وتتلاءم معها وتسعد بها، وتتشوق للعمل الإسلامي إن تركته، وتبحث عنه إن بعد عنها.
إن الإسلام يعرف طريقه إلى النفس البشرية، يعرف مداخلها ومخارجها، فيسلك إليها على استقامة، ويعرف حاجاتها ومطالبها فيلبيها، ويعرف طاقاتها فيطلقها للعمل والبناء، وينمي الجوانب الإيجابية في النفس البشرية كالميل نحو الخير، وحب الأمن، وغلبة العدو، ويحارب الجوانب السلبية كسوء الخلق، والاندفاع نحو الشهوات المحرمة.
إن الإسلام نظام كامل للإنسان الذي يعيش على سطح هذه الأرض، يضع في اعتباره فطرته، وخصائصه النفسية، والعادية، والعقلية.
إن تعاليم الإسلام تلتقي مع الفطرة السوية، وتحقق لها سائر رغباتها، وتوجد معها الأمن والسعادة، وذلك لما فيها من حلول لكافة حاجات الإنسان، على وجه كامل تام.
3-
الشمول:
ونعني بالشمول في الإسلام أنه يشرع للإنسان في كل حالاته، وفي مختلف قضاياه، يشرع له صغيرًا وكبيرًا، ذكرًا وأنثى، حيًا وميتًا، قويًا وضعيفًا، مريضًا وصحيحًا غنيًا وفقيرًا، حاكمًا ومحكومًا.
ويشرع له وهو فرد واحد، أو وهو في جماعة، بل ويشرع لعلاقة الجماعة مع غيرها وللأمة مع سواها.
إن الإنسان أينما كان يجد في شرع الله طلبه، ويعرف طريقه، وهو نوع من الإعجاز يشهد بربانية الشريعة، وإتيانها من عند الله تعالى.